ذهبت من مدينة نصر للعتبة التي كانت خضراء لمشاهدة عرض مسرحية: ساحرات سالم وليتني ما ذهبت. والسبب لا يمت للمسرح ولا للمسرحية بصلة. ولكن لأسباب أخري من خارج المشهد المسرحي. وإن كانت تؤثر سلبا علي فكرة الذهاب إلي المسرح من أجل مشاهدة مسرحية. والمسرحية لأرثر ميللر. واحد من أهم كتاب المسرح في القرن العشرين. ربما كانت مسرحيته: وفاة بائع متجول, نصا أدبيا رفيعا. لا تتجلي أدبيتها في الحوار بين الأبطال- أو الذين ليسوا أبطالا- ولكن في وصف المشهد وتقديم الشخصيات. وتجسيد الحركة علي المسرح. فلا تقل متعة قراءة النص المسرحي عن مشاهدته. مع أن المسرحية تعني أن تقدم المسرحية علي المسرح. ساحرات سالم ترجمها: عبد المنعم الحفني. وأخرجها: جمال ياقوت. وأنا لم أقرأ النص قبل المشاهدة. ولكن لدي إحساس أن ثمة اختصارات جرت علي النص. من خلال تتبع منطقية الأحداث وتطورها. مع أن الموضوع قد يكون شديد الأهمية لنا في مصر الآن. لأننا نعيش رحلة التأرجح بين العلم والخرافة. بين الحقائق والأوهام. نحيا في مصر في رحلة تتسع فيه مرجعية الخرافي في كل مناحي الحياة. وتوشك أن تكون المرجعية الوحيدة في حياة الناس. وفي ريف مصر الآن وفي الأحياء الشعبية تراجع دور الإدارة الحكومية والأمن والقضاء ليكون مروجو الخرافات هم الملاذ وأصحاب الكلمة الأولي والأخيرة في حياة الناس.العرض أكثر من جميل. متقشف. عرض الحد الأدني يعتمد علي بطولة جماعية أفضل من البطولات الفردية. بل إن الممثلين والممثلات من الشباب ربما كانوا أكثر إخلاصا للفن وللتمثيل من النجوم الذين صدعونا بأخبارهم الكاذبة وحكاياتهم غير الحقيقية وأموالهم التي يكدسونها ولا يعرفون كيف أتت ولا حتي كيف ينفقونها؟ هذه ليلة مسرحية قادرة علي أن تجعلك تعيش حالة التمسرح كاملة. كل هذا جميل ولكن قلل من إحساسي بجماله المناخ العام حول المسرح. تدخل إلي المسرح وأنت محمل بإحساس حزين بما رأيته في رحلتك أو حول المسرح. وتخرج من المسرح وبدلا من استرجاع ما شاهدته وتمثله تهاجمك الفوضي والإهمال وعدم النظافة واللامبالاة. فلا يبقي في ذهنك شئ مما شاهدته. أريد الكتابة عن رحلتي من مدينة نصر إلي العتبة. وعن الواقع المحيط بمجمع المسارح الذي هناك. في منطقة واحدة تجد المسرح القومي. أعرق مسارح مصر وأقدمها وربما كان أهمها. وفي ظهره مسرح العرائس. مسرح الطفولة المصرية والذي كان يقدم عروضه في صباح الجمعة من كل أسبوع لأطفال مصر بأرخص الأسعار. ثم مسرح الطليعة الذي حمل مع مسرح الجيب في الجزيرة منذ عقد الستينيات وحتي منتصف السبعينيات عبء التطوير والتجديد. وضخ الدماء الجديدة في المسرح المصري والعربي أيضا.ولأنني لم أذهب إلي المنطقة منذ فترة هالني التغيير الذي أصابها مؤخرا. وكلمة التغيير يفهم منها التغيير للأفضل والأحسن. وإن كنت أستخدمها بالمعني السلبي للكلمة. المشوار من أول شارع الأزهر عند الدراسة حتي العتبة من الصعب وصفه. زحام وقذارة وعدم انتظام وغياب لرجال المرور والأمن يشعرك بحالة من الوحشة والارتياب ويجعل الاختيار الأساسي للإنسان أن يبقي في بيته. وبالتالي فإن النزول من البيت مغامرة غير مأمونة العواقب. العتبة التي كنا نسميها العتبة الخضراء وكانت الرحلة إليها تتم بحثا عن نقطة التماس بين القاهرة الإسلامية والقاهرة الافرنجية. ومن قرأ كتاب محمد سيد كيلاني: في ربوع الأزبكية. سيعرف أن هذا المكان كان نزهة وزيارته تشفي العليل من أمراضه. العتبة مغطاة بكوبري شديد القبح. والأرصفة تحتل نصف مساحته. أما الباعة والسيارات والمتسكعون لا يتركون لك الفرصة حتي لأن تتنفس. والمكان الذي كان يوجد فيه سور الأزبكية حيث حديقة كتب الحكمة القديمة. ورحلته التي تبدأ من باب المسرح القومي حتي ميدان الأوبرا القديمة. لم يبق مكانها سوي الفضلات والسريحة. هل سيصدقني القارئ عندما أقول ان أصوات الباعة الذين ينادون علي البضائع عبر ميكروفونات عالية الصوت حول مسرح الطليعة من كل جانب كانت تصل إلينا في قلب المسرح وتطغي علي أصوات الممثلين الذين يقدمون الأدوار بمجهود خارق. لكن الأصوات الآتية من الخارج والتي اخترقت صمت المكان أو المفترض أنه صمت المكان أوشكت أن تفسد متعة المشاهدة. لو كانت هذه المسارح الثلاث في مكان واحد في أي عاصمة أخري من عواصم الدنيا لأقيم لها حرم خاص وابتعدت أماكن الباعة الجائلين وخفتت أصوات البيع والشراء حولها ولتراجع أصحاب خناقات كل يوم بعيدا عنها. ليس لأن المسرح أبو الفنون ولكن لأن وجود المسرح في أي مدينة وارتفاع ستارته بعد سماع دقاته الثلاث وإضاءة خشبته وجلوس المشاهدين أمامه تلمع أعينهم في ظلام القاعة أحد أدلة الحضارة. ومصر كانت من أوائل الدول التي عرفت المسارح وزهت علي الدنيا بأنها كانت أم المسارح. فكيف نحاصر ثلاثة من أهم مسارحها بكل هذا القبح والإهمال والفوضي؟ المزيد من مقالات يوسف القعيد