في البداية كانت هناك مسرحية أمريكية بالغة الأهمية بعنوان «البوتقة» كتبها واحد من كبار كتَّاب المسرح الأمريكي المعاصر «آرثر ميلر» ليصور فيها من خلال أحداث واقعية حدثت منذ زمن بعيد في قرية «سالم» الريفية.. نتائج جنون جماعي وهوس ديني سببتهما فتاة مهووسة أرادت أن تثأر من عشيق هجرها.. فأشاعت أن شيطانا قد مس نساء القرية - ودفعهن إلي ممارسة السحر والشعوذة مما جعل السلطات الدينية تتدخل لتمارس إرهابها علي الجميع ولتحاكم وتقتل باسم الدين.. دافعة الكثير من الأبرياء إلي الموت بحجة إعادة السلام والأمان إلي أهل القرية المنكوبة. الحرب الباردة أراد «آرثر ميلر» في هذه المسرحية أن يعلن رأيه بشكل رمزي عن الإرهاب السياسي والفكري الذي مارسته لجنة «مكارثي» ضد المثقفين والفنانين في أمريكا خلال الحرب الباردة بينها وبين روسيا السوفييتية ومطاردة الشيوعيين الذين اطلقت عليهم اسم السحرة وتخليص البلاد من شرورهم، هذه الحملة التي راح ضحيتها عدد كبير جدا من الفنانين والكتّاب من أهمهم «شارلي شابلن» الذي اضطر إلي الهجرة من الولاياتالمتحدةالأمريكية هربا من حملة التعصب والكراهية. هذه المسرحية التي نقلت بعد ذلك إلي السينما لم تنل الرواج والنجاح اللذين تستحقه عند عرضها علي الخشبات الأمريكية.. وكان عليها أن تنتظر الإعداد الفرنسي لها والذي قام به الكاتب الشهير «مارسيل إيميه» واطلق عليها عنوان «ساحرات سالم» عوضا عن اسم «البوتقة» اسمها الأصلي.. ولعبها علي خشبة المسرح الفرنسي كل من «إيف مونتان» و«سيمون سيتوريه» اللذين كانا في أوج مجدهما إلي جانب الحسناء «ميلين دمنجو» التي لعبت دور «ابيجايل» العاشقة الصغيرة مصدر الشر والشؤم كله. وقد كان لي الحظ الكبير بأن أشاهد هذا العرض المسرحي المهم في باريس وقمت بعدها متحمسا بترجمة المسرحية إلي العربية باسم «ساحرات سالم» ونشرتها إحدي دور النشر اللبنانية. المسرحية ساحرة حقا كاسمها ويمكن إسقاط أحداثها علي الكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية التي يمر بها أي بلد من البلدان.. يسيطر عليه هوس الفكر الواحد والتعصب الأعمي.. ولا ينظر إلي النتائج الوخيمة التي يمكن أن يثيرها تعصبه ومحدودية أنفه.. خصوصا عندما ينتشر هذا «التعصب» بقوة الدين أو الرأي السياسي المسيطر والذي لا يقبل المناقشة وعندما يسيطر الوهم الديني الزائف علي العقيدة الحقيقية فيجعل من الناس أعداء لبعضهم يتقاتلون دون أن يدركوا أنهم أصبحوا أداة تتلاعب بهم إرادة عمياء تريد أن تحقق مصالحها علي حسابهم. علاقة جسدية الأحداث تبدأ إذن من بيت جون بروكتور الذي يحيا مع زوجته الطيبة المؤمنة «اليزابيث» التي تكتشف مذهولة أن الفتاة التي تعمل مساعدة عندها قد أقامت علاقة جسدية مع زوجها.. مما يضطرها إلي طردها.. بينما يعلن جون الزوج توبته واعتذاره وتكتم «اليزابيث» خبر هذه الخيانة حرصا علي مستقبل بيتها ومستقبل البنت تحبه. لكن ابيجايل تحاول رغم هذا التصرف الكريم من الزوجة.. أن تتابع إغراء الزوج الذي يرفض تماما هذه المرة الخضوع لنداء الشيطان .. عند ذلك تقرر ابيجايل الثأر من أسرة بروكتور بل من القرية بأسرها .. جامعة حولها عددا من الفتيات الصغيرات موهمة إياهن بأنهن وقعن فريسة سحر غامض تقوم به «اليزابيث» وتدفعهن إلي القيام بتصرفات جنونية حمقاء كالرقص ليلاً.. عراة في الغابة القريبة تحت ضوء القمر.. وتبدأ القرية بالهمس الذي يشتد يوما بعد يوم ليصبح صراخا.. وتتوجه الاتهامات إلي نساء القرية الشرقيات اللواتي تتهمن المراهقات بممارسة السحر.. ويصل الأمر إلي طلب التدخل الديني لكي يطرد الأرواح الشريرة من جسد النساء حتي لو اضطر إلي قتلهن.. أو إجبارهن علي الاعتراف بالتعامل مع الشيطان.. وتزداد الحلقة اتساعا بفضل دهاء ابيجايل إلي أن يصل الاتهام إلي منزل جون بروكتور حين تتهم زوجته النبيلة «اليزابيث» بأنها وراء هذه الأفعال الشيطانية وتقدم إلي المحاكمة .. شأنها شأن النساء الفاضلات الأخريات اللاتي يزداد هياج المراهقات حول اعدامهن والدعوة إلي التخلص منهن.. خصوصا بعد أن ساندت الكنيسة والدين ادعاءاتهن . لا أريد أن أكشف النهاية التراجيدية العبقرية التي أنهي بها ميللر مسرحيته الشهيرة هذه والتي وجه فيها صرخة إنذار لأنه مجتمع يمارس الإرهاب علي سكانه، وصيحة تحذير من النتائج الرهيبة التي يمكن أن تحل بأي مكان، يضع الكراهية في قلبه موضع الحب، والاتهام عوضا عن التسامح والتعصب بدلا من النقاش والجدل. ما أحوج مجتمعنا العربي إلي مسرحية كهذه خصوصا في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها معظم البلاد العربية اليوم والتي تشكو ويزداد أنينها من ضغط التعصب الأعمي والرواية الوحيدة فماذا فعل مسرح الطليعة بهذا النص الذهبي وكيف قدمه وكيف جعله مرآة حقيقية لما يحدث في البلاد العربية اليوم. أولا سعي المعد عبدالمنعم حنفي من خلال ترجمة ذكية بارعة إلي تكثيف المسرحية التي كانت أصلا مكونة من ثلاثة فصول طويلة إلي فصل واحد طويل يروي فيه أحداثاً اختارها بعناية من العمل الأصلي وتعبر عن التطور الدرامي للأحداث والشخصيات محتفظا بالمشاهد الرئيسية في المسرحية .. التي قدمها كاملة أحيانا، محتفظة بقوة الضرب الدرامية والمؤثرة التي يمتاز بها مسرح ميلر عموما. توتر درامي وحافظ جمال ياقوت المخرج علي التوتر الدرامي والتصاعد المؤثر ومواجهة الشخصيات لنفسها وللآخرين. وقد أحسن المخرج اختيار ديكور واحد جمع بين منزل آل بروكتور وقاعة المحكمة والغابة.. كما لفت النظر باختيار ثياب ملائمة للعصر وإن كانت هناك ملاحظات عابرة علي ثياب الفتيات المراهقات في مشهد المحاكمة.. التي أخلت نوعا ما بالهارموني اللونية والدرامية لبقية الثياب. كما أبدع المخرج حقا في تقديمه الحركات الثنائية مستغلا عمق المسرح واتساعه استغلالا متميزا خصوصا في المشاهد التي جمعت بين بروكتور وزوجته المشهد الرئيسي الذي جمع بين ابيجايل وبروكتور والذي وصل فيه الحس الإخراجي والإبداعي إلي أوجه. وتبقي مشاهد المجموعة التي قدمها المخرج بشكل هندسي منظم، كما تحايل علي مشهد المحاكمة وأعطاه بعدا رمزيا خصوصا بوضع المشنقة في عمق المسرح. وتبقي الرقصات التي صممها ببراعة عاطف عوض والتي جاءت في قسمها الثاني مفحمة وقطعت من حبل الاتصال الدرامي، ولا أعرف معني إصرار مخرجينا علي وضع رقصات في الأعمال الدرامية التي يقدمونها رغم عدم الحاجة إليها كما أن افتتاح المسرحية برقصة الفتيات في الغابة واهتزازهن علي أسلوب الزار الشرقي جاء أيضا باهتا وكسر الخيال الجامح لتصويرهن يرقصن عرايا في ضوء القمر كما أرادنا ميلر أن نتصورهن. وأتوقف أخيرا أمام الأداء وهي النقطة الرئيسية المهمة في جميع مسرحيات ميللر منذ «وفاة البائع المتجول» وحتي «الثمن» واحدة من أواخر مسرحياته. التحدي الحقيقي الأداء في العرض المسرحي للساحرات جاء تحديا حقيقيا للمخرج ولمجموعة الشبان والشابات اللاتي قمن بتجسيد شخصيات المسرحية. ابيجايل مركز الشر والقوة الجاذبة في الأحداث، بتآمرها وعشقها وحقدها ثم تحايلها علي مجتمع القرية والقضاة ورجال الدين وتأثيرها الخفي علي المراهقات زميلاتها وأخيرا سقوط القناع عن وجهها وهربها ولكن بعد فوات الأوان بعد أن تراكمت الضحايا وازداد عدد الشهداء.. أدت الدور الممثلة الشابة سحر علام بعفوية وانطلاق يرشحانها لأن تكون واحدة من ممثلاتنا المسرحيات البارزات. كما جاء أداء الثنائي رفيف حمدي ورامي الطمباوي في دوري جون واليزابيث منسجما ومعبرا الطمباوي بعنفوانه وضعفه وجبروته وعناده وكبريائه ثم انهياره وسقوطه قبل أن يبعث من جديد أمام موت مقدس أراده لنفسه وكان «كبش الفداء» لكشف مفاسد نظام ديني مهترئ يقوم علي هدم الكرامة الإنسانية وتجاهلها. أداء ملفت للنظر وجدير بالانتباه الشديد وتأكيد لولادة نجم مسرح حقيقي. كذلك الأمر بالنسبة لرفيف «اليزابيث» التي رسمت نموذجا مدهشا للمرأة الفاضلة المتدينة ذات الشموخ والكبرياء والتي تضطر للكذب لأول مرة في حياتها رغبة في انقاذ حياة زوجها .. دور داخلي صعب تمكنت الممثلة الشابة من تصعيده إلي أعلي مستوياته. ولا يمكنني إلا الإشارة إلي بقية الأدوار وأغلبها قام به شباب متحمس يعرف قيمة الكلمة ويجيد استعمالها تحت إدارة مخرج واع استغل جميع طاقات المسرح الموضوعة تحت تصرفه ليقدم لنا نصاً عالميا شديد الصعوبة باختزال ذكي ومهارة محسوبة، عرض مسرحية «ساحرات سالم» يقدم الاتجاه الجديد الذي سيسير عليه مسرح الطليعة في تقديم روائع من الأدب العالمي .. بشكل معاصر يحترم قيمة الكلمة ولا يحاول استغلالها بل يصر علي أن يسير عكس التيار المسرحي السائد وهو إعادة الكرامة والهيبة للعروض المسرحية الجادة وأن يلعب دوره الحقيقي الطليعي في أن يكون منبرا للثقافة المسرحية .. وجسرا من النور يصل بين حضارة الغرب ووعينا القومي.