التظاهرات التي تجتاح عدة مدن أمريكية أبرزها نيويورك ولوس أنجلوس وواشنطن, تحت شعار احتلوا وول ستريت احتجاجا علي السياسات المالية في الولاياتالمتحدة, والأزمة الاقتصادية التي تعتصر المواطنين وتزايد معدلات البطالة, وجشع الشركات الكبري, والتفاوت الهائل في مستوي الثروة والدخل. والتي امتدت إلي عدد لا بأس به من العواصم والمدن الأوروبية والآسيوية منها لندن وروما وباريس وبرلين ولشبونة وسيئول وطوكيو, في استياء واحباط من النظام المالي الرأسمالي الذي تقوده واشنطن, تثير التساؤل حول مستقبل الهيمنة الأمريكية علي الشأن الدولي والإقليمي. فقد ارتبط صعود الولاياتالمتحدة إلي قمة النظام الدولي مطلع القرن العشرين بقدراتها الاقتصادية الهائلة التي مكنتها من بناء ترسانة عسكرية ضخمة وأسطول قوي, ولعب دور مهيمن اقتصاديا وعسكريا وسياسيا داخل القارة الأوروبية, والمنافسة علي دور عالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, وهي المنافسة التي حسمت لصالحها عقب انهيار الاتحاد السوفيتي, لتتربع منفردة علي قمة النظام الدولي. وعلي مدي السنوات القليلة الماضية تضافرت العديد من العوامل التي تشير بوضوح الي بداية الانكسار الأمريكي وانتهاء الهيمنة الأمريكية علي الشئون الدولية والإقليمية, لأسباب عدة يأتي في مقدمتها مشكلاتها الداخلية الاقتصادية والاجتماعية في ضوء الأزمة المالية والاقتصادية بها, وهو ما تؤكده وتشير إليه بوضوح التظاهرات السابق الإشارة إليها. يضاف إلي هذا التدهور الحاد في المكانة الأمريكية وصورة الولاياتالمتحدة لدي الرأي العام العالمي خاصة في منطقة الشرق الأوسط نتيجة سياسة الكيل بمكيالين, وفشلها في إدارة حملاتها العسكرية في أفغانستان والعراق, وتراجع الثقة والمصداقية في الرئيس أوباما بعد عجزه عن إدخال كثير مما أعلنه وتعهد به إلي حيز التنفيذ. إن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين شهد بدء حقبة جديدة في العلاقات الدولية تتضمن تحولا تدريجيا إلي نظام دولي متعدد القوي, وقد أصبح هذا التغير حقيقة واضحة. فالنجم الأمريكي أخذ في الأفول سريعا منذ منتصف العقد الماضي حيث تتراجع الهيمنة الأمريكية, وتتصاعد قدرات دول أخري مثل الصين وروسيا وغيرهما من القوي الآسيوية المهمة والفاعلة إقليميا, التي ترغب في لعب دور مؤثر في إطار نظام دولي أكثر توازنا وربما أكثر عدالة أيضا. الأمر الذي دفع كثيرا من المتخصصين إلي الاعتقاد بأن القرن التاسع عشر هو القرن الأوروبي والعشرين هو القرن الأمريكي فإن القرن الحادي والعشرين هو القرن الآسيوي. صحيح إن هذه القوي الصاعدة لاتستطيع حتي الآن فرض أجندة عالمية, ولكنها استطاعت تحجيم الولاياتالمتحدة وإعاقة حركتها في مواقف عدة. وسوف تتضح معالم هذا التغيير وتتأكد خلال السنوات القادمة وما تنطوي عليه من تفاعلات لاسيما بين روسيا والصين من جانب والولاياتالمتحدة من جانب آخر. ولاشك في أن هذا التراجع الأمريكي سوف يلقي بظلاله علي السياسة الأمريكية في المنطقة العربية ويشمل ذلك علاقتها بمصر. فالنظام الدولي والإقليمي يعاد تشكيلهما, ومن المهم العمل بجدية لاستعادة مصر لمكانتها التي تليق بها. وفي هذا الإطار تبرز ضرورة إعادة النظر في العلاقات المصرية الأمريكية, وإيجاد صيغة جديدة تعظم الاستفادة المصرية, وتضمن لها الاحترام اللائق دوليا وإقليميا. صيغة تقوم علي مصالح متبادلة حقيقية بين الطرفين, وتكفل لمصر دور الشريك, وليس التابع. ومازالت هناك مجالات عدة يمكن التعاون الحقيقي في إطارها, ولكنها تحتاج إلي وعي وتحديد دقيق من الجانب المصري إذا أرادت مصر استعادة قدرتها التساومية والانتقالية إلي مرتبة الشريك الفاعل. فتصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية حول نقل السلطة في مصر, وما أشارت إليه من استفسارات عن تطورات الأوضاع في مصر وضرورة تمتع الأقليات بالحق في التجمع السلمي والعبادة, تثير دهشة وتساؤلات الكثيرين. وكأن السيدة كيلنتون ومن أطلقوا هذه الدعوات لايدركون أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة, وأن المصريين جميعهم أقباطا ومسلمين أحرار, لم يعرفوا العبودية, ولم يستسلموا قط لأي احتلال مهما بلغت غطرسته. وأن مصر الثورة لن تسمح بأي صورة من صور التدخل الخارجي في شئونها الداخلية, وإحداث شقاق وفرقة بين أبنائها سياسية كانت أو دينية. وأن الشعب الذي انتفض علي قلب رجل واحد للإطاحة بالظلم الداخلي, قادر أيضا علي مواجهة أي عبث خارجي في مقدراته. وقادر أيضا علي إعادة ترتيب البيت المصري من الداخل, والتوافق المجتمعي والسياسي حول الرؤية المستقبلية لمصر الدولة والمجتمع. المزيد من مقالات د.نورهان الشيخ