فقدنا شيخا جليلا, وعالما إسلاميا ملأ القلوب حكمة وعلما.. فقدنا الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر, وهو علامة بارزة في تاريخ تلك المؤسسة الدينية العريقة والكبري والمتفردة في قيمتها ووزنها. حمل مسئولية الدعوة كشيخ للأزهر من1996 وحتي2010, وهو زمن غير مسبوق فكان شيخا مجددا, وسيقال ويكتب الكثيرعنه في قادم الأيام, لأنه دفع ثمن إخلاصه ورغبته في أن يري أمته تنهض بين الأمم مستندة إلي صحيح الدين, عمل في حياته وبرهن في مسيرته وعقله المستنير بجلاء علي صلاحية هذا الدين الحنيف لتوجيه أمم المسلمين في كل مكان وزمان. ودفع ثمن مواقفه الصلبة في مواجهة قوي التخلف والتغييب ومحاولات الردة بالمسلمين وتسييس الأزهر واختراقه وإحداث الفرقة بين علمائه. ظل الشيخ الجليل منذ توليه منصبه صامدا في مواجهة أولئك الذين يريدون النيل من هيبة الأزهر وإضعاف تأثيره حتي ينفردوا بالمسلمين ويصوغوا ضميرهم الديني بما يحقق لهم أهدافهم, ولم يتركوا مناسبة تمر أو حادثة تقع إلا وحاولوا فيها النيل من شيخنا الجليل وعلمائنا الثقات. وشيخنا محمد سيد طنطاوي مدرسة حقيقية في فهم العصر وتطبيق الإسلام في ظل المتغيرات العالمية, فهو لم يكن فقط واحدا من أغزر علماء المسلمين والأزهر إنتاجا بل كان أيضا من أكثرهم شجاعة علي اقتحام العصر وتجديد الرؤي, خاصة في فتاواه بشأن فوائد البنوك ومكانة المرأة وأهليتها في الإسلام, وفتواه الحكيمة بأن المباهاة بالمسلمين لم تكن بالكم ولكن بالكيف.. فقد كان صوتا قويا للوعي والاستنارة والسماحة عبر اكتشاف صحيح الدين وتقديمه للأجيال المعاصرة. فهو الشيخ المجتهد الذي وضع أسس الاجتهاد في الأحكام الشرعية للمعاصرين بلا تخويف أو تهديد. وحض جمهور العلماء المعاصرين والقادمين علي متابعة العصر والاجتهاد, كما اجتهد الرسل وكما اجتهد الصحابة والخلفاء والتابعون وصولا إلي الأئمة الأربعة, وجدد الأزهر جامعا وجامعة فشهد ازدهارا واتساعا لم يحدث من قبل. شيخ الأزهر الراحل مصري حتي النخاع.. سماحته لا نظير لها, يغضب عندما يري الجهلاء يتصدون للفتوي ولتعليم الناس ثم يعود صافيا في دقائق, متدفقا علما وفقها وفكرا وصبرا حتي مع مناوئيه. شيخي الجليل سوف أفتقد صوتك الحنون واتصالاتك التي تحمل الحكمة والنصيحة, ولكني سأعود إلي كتاباتك وفكرك وما تركت لنا من زاد وعلم بل وقصص, فأنت صاحب القصص الإسلامية الخالدة من آدم الي نوح وهود وإبراهيم وموسي وعيسي وختمتها بأطيب القصص.. مسلسل الختام عن خير الأنام محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم, الذي من فرط حبك له وإخلاصك للإسلام أختارك الخالق تجلت حكمته في الدقائق الأخيرة لحياة حافلة لتكون إلي جواره بين الصحابة والصادقين من أوائل المسلمين, فقد كنت منهم برغم أنك عشت في الألفية الأخيرة. وبالرغم من إننا المصريين حرمنا من شرف المشاركة في وداعك يوم الرحيل الجليل, كما كنت معنا في أفراحنا وفي كل لحظات وداع أو رحيل تمر بنا, فنحن وبرغم ألم الفراق والغياب نحتسبك عند الله, ونرضي بأنك في المدينةالمنورة إلي جوار أفضل خلق الله سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم رحم الله الإمام الأكبر وجزاه عما قدم في خدمة الإسلام والمسلمين خير الجزاء. وإنا لله وإنا إليه راجعون.