لم تخلق الجيوش لكي تفرق المظاهرات أو تتصدي للاحتجاجات الجماهيرية. مهمة الجيش اكبر واخطر من فض اعتصام لمواطنين غاضبين أو مطاردة الباعة الجائلين في شوارع المدن. الجندي الذي كلف الدولة مبالغ طائلة لتدريبه علي استخدام أحدث الأسلحة والتقنيات الحربية ليس هو الاختيار الصحيح أو الملائم للتعامل مع مدنيين عزل أو حتي بلطجية مسلحين. نحن نربأ بالجيش المصري الباسل صانع انتصار أكتوبر المجيد أن تظل تلك مهمته أو جزءا من مهامه ولو إلي حين. ينتابني خوف جارف أن يتم استدراج قواتنا المسلحة إلي معركة ليست معركتها تخرج منها وقد استنزفت جهدها وقواها والاهم رصيدها الكبير في قلوبنا. السؤال البسيط والبديهي هنا هو: لماذا يتحمل الجيش تلك الأعباء التي يضاف إليها أحيانا تنظيم المرور وفض المشاجرات وفتح الطرق التي أغلقها محتجون وإزالة التعديات ؟ الإجابة المباشرة هي أن الجيش اضطر إلي هذا بسبب غياب الشرطة. سؤال آخر بسيط يفرض نفسه هو لماذا طال غياب الشرطة منذ28 يناير وحتي الآن؟ لا مجال للاجتهادات بحثا عن سبب. فهناك عشرات الكتاب والمحللين تصدوا لهذه المهمة. وإجمالا يطرحون3 تفسيرات أولها أن بعض قيادات الأمن يتواطأون في تحالف شرير مع طائفة واسعة من أقطاب النظام السابق والمستفيدين منه من سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين وكوادر محلية وحزبية لإغراق البلاد في حالة من الفوضي علي نحو ما هو حاصل بهدف عرقلة الانتخابات ومنع تأسيس نظام ديمقراطي سيفتح بالتأكيد ملفات مطوية قد تكتب نهايتهم. أو علي الأقل سيقوض مصالح ومكاسب يتمتعون بها إلي الآن. التفسير الثاني يؤكد أصحابه أن الأمر لا يعدو كونه نوعا من الثأر يقوم به كبار قادة الشرطة للانتقام من الشعب عقابا له علي ثورته ضدهم وإهانته لهم. أصحاب الرأي الثالث يعتبرون أن الشرطة غائبة لان أفرادها فقدوا الثقة في أنفسهم بعد ما جري وبعد أن تجرأ عليهم المواطن العادي ناهيك عن الخارجين عن القانون. أيا كان السبب وراء غياب الشرطة فمن المستحيل أن يستمر هذا الوضع. وسواء كان ما يحركها هي أوهام العودة إلي الماضي أو الانتقام أو مجرد الخوف, فإن علي المجلس العسكري أن يبادر بتصحيح هذا الخطأ المستمر منذ تسعة اشهر. ولعل أحداث ماسبيرو الأخيرة تكون قد كشفت للمجلس الثمن الفادح الذي يمكن أن يدفعه ويتحمله الجيش نتيجة لتصديه لاحتجاجات شعبية من المؤكد أنها ستتكرر بشكل أو بآخر مادامت مسبباتها وجذورها قائمة ولم تعالج. وسيظلم الجيش نفسه قبل أي طرف آخر عندما يوضع في مثل تلك المواقف. شخصيا اصدق ما قاله أعضاء المجلس العسكري بأن الجنود لم يكن معهم ذخائر وان الدهس بالمركبات ليس من العقيدة العسكرية للقوات المسلحة غير أن هناك من قتل دهسا أو بالرصاص. واصدق أيضا ما أعلنه قداسة البابا من أن الأقباط لم يكن معهم أسلحة ومع ذلك قتل بعض الجنود سحلا. في كل الأحوال سالت دماء المصريين وسقط ضحايا وامتلأت النفوس بالمرارة والغضب وأطلت الفتنة بوجهها القبيح. وحتي لو صحت التأكيدات الحكومية بأن عناصر مشبوهة اندست بين المتظاهرين وأطلقت النار فان هذا يعيدنا مرة أخري إلي قضية الأمن الغائب, والأسباب غير المفهومة التي تجعل المجلس العسكري ينتظر كل هذه الشهور دون أن يبدأ في إصلاح وإعادة هيكلة وزارة الداخلية لاستئناف دورها الطبيعي. استمرار الانفلات الأمني وشيوع السرقة بالإكراه والسطو المسلح وقطع الطرق معناه ببساطة تفكك الدولة تدريجيا وتصنيفها باعتبارها من الدول الفاشلة حيث لا سيطرة لحكومتها علي كامل إقليمها. ومعناه أيضا الانهيار الاقتصادي لأنه بدون امن لن تأتي استثمارات من الخارج وسيهرب الموجود منها. وتصاب خطوط النقل البري بالشلل وتتوقف التجارة الداخلية وبالتالي يتوقف الإنتاج وتقفز معدلات البطالة. أما السياحة فلن تقوم لها قائمة. لا تبدو الصورة قاتمة بهذا الشكل لأننا نراها كذلك بل لان هذه هي الحقيقة. ليس المطلوب ردا علي كل هذا معاقبة الداخلية أو تصفيتها ولكن إعادة بنائها علي غرار ملحمة إعادة بناء القوات المسلحة بعد هزيمة.67 وسيكون الشرفاء والمخلصون من قادة وضباط وأفراد الشرطة, وهم الأغلبية فيها, اكبر المستفيدين من هذا الإصلاح. فلن تستعيد الشرطة هيبتها واحترامها لدي الرأي العام إلا عندما يقتنع المواطن العادي بأن هذه المؤسسة الوطنية الضخمة قد طهرت نفسها من الفاسدين وقتلة المتظاهرين وزبانية التعذيب وان من بقي فيها جدير بالاحترام والثقة. الشرطة مثل كل مؤسسات الدولة ابتليت بالفاسدين الذين خدموا نظاما أكثر فسادا ووحشية وليس من العدل أن يتم تحميلها وحدها كل أوزار ذلك العهد البغيض. ألا نؤمن بقول ربنا تعالي ولا تزر وازرة وزر أخري ونؤمن أيضا بحكمة السيد المسيح عليه السلام التي تتجلي في قوله ولماذا تنظر القذي الذي في عين أخيك, وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟. المزيد من مقالات عاصم عبد الخالق