لعل من مفارقات القدر, أن يفقد العالم في خلال أسبوع اثنين من أهم العقول البشرية, هما ستيف جوبز مؤسس شركة آبل, والدكتور رالف ستاينمان أستاذ المناعة بجامعة روكفلر بالولايات المتحدة والحاصل علي جائزة نوبل في الطب لهذا العام وكلاهما توصل لإنتاج علمي لخدمة البشرية لسنوات قادمة, كما أن كليهما مات بنفس المرض سرطان البنكرياس. ونسب الإصابة بسرطان البنكرياس قليلة عالميا إذا ما قورن بالأورام الأخري إلا أنه يحتل المرتبة الرابعة في قائمة الأورام المسببة للوفاة, لأنه لا يكتشف إلا في المراحل المتأخرة بعد انتشار الورم لباقي أعضاء الجسم, لذلك يطلق عليه العلماء اسم القاتل الصامت, والبنكرياس عبارة عن غدة وظيفتها إنتاج العصارة البنكرياسية التي تساعد علي هضم الطعام وهرمونات الإنسولين التي تتحكم في معدل السكر بالدم. وهناك نوعان من أورام البنكرياس, الأول والأكثر شيوعا يحدث في الأنابيب التي تحمل العصارات البنكرياسية, وهو ما أصيب به الدكتور ستاينمان, وغالبا ما يتسبب في حدوث الوفاة خلال مدة زمنية قصيرة لا تتعدي عدة شهور لصعوبة التحكم في انتشار الورم, أما النوع الثاني الأقل شراسة من النوع الأول فيحدث في الخلايا التي تنتج الأنسولين المعروفة علميا باسم جزر لانجرهانز, وهو ما أصيب به ستيف جوبز ويمكن التحكم في الورم لعدة سنوات, وهو ما حدث لجوبز والذي خضع للعلاج مدة8 سنوات, وهي نفس الفترة التي أنتج خلالها جوبز أهم ابتكاراته التكنولوجية من أجهزة الكمبيوتر باللمس آي باد وأجيال الهواتف الذكية. وبالرغم من إصابة ستاينمان بالنوع الأول من سرطان البنكرياس, إلا أنه تمكن من التعايش مع المرض والسيطرة عليه لمدة4 سنوات, وهي مدة أطول بكثير مما توقعه الأطباء عند اكتشافهم لإصابته, كما أن فرص البقاء علي قيد الحياة بعد عام من اكتشاف الإصابة لا تتعدي5%. والسر وراء هذا الأمر يرجع لأبحاث ستاينمان نفسه والتي نال عنها جائزة نوبل للطب هذا العام, باكتشافه أحد أنواع الخلايا المناعية والمعروفة باسمdendriticcells والتي وظيفتها في الجسم, حيث وجد أن لها دورا مهما في التعامل مع الخلايا السرطانية والفيروسات التي تهاجم الجسم, كما تمكن من شرح طريقة التقاط هذه الخلايا المناعية للإنزيمات التي تنتجها الفيروسات, وذلك للتحكم بشكل مسبق في المرض خلال مراحله الأولي, وهو ما قد يمهد لإنتاج لقاحات لمواجهة العديد من الفيروسات والأورام التي تهاجم الإنسان, وهو ما يفتح الباب لطب العلاجات الوقائية. وحتي يثبت ذلك عمليا, أخضع ستاينمان نفسه لثماني تجارب علاجية مختلفة باستخدام هذه الخلايا المناعية أملا في الشفاء من سرطان البنكرياس والسيطرة علي الورم, وهو ما تحقق بقدر كبير, حيث عاش لمدة زمنية يصعب أن يصل لها من هم في نفس حالته, لكن المشكلة التي خلفها ستاينمان للعلماء هي أنه من الصعب اليوم تحديد أي من التجارب الثماني التي أجراها علي نفسه كانت الأكثر نجاحا, إلا أنه أثبت أن هذا النوع الجديد من العلاجات يزيد احتمالات الشفاء من المرض.