في القاعة المكيفة الكبيرة التي تقع وسط الجزيرة الألمانية الصغيرة لينداو كان يجلس حشد غفير من علماء الاقتصاد الحاصلين علي جائزة نوبل, في قاعة واحدة مع372 باحثا شابا من70 دولة. في مؤتمر تنظمه كل ثلاث سنوات منظمة لينداو الألمانية, تشعرك الجزيرة عندما تسير بين طرقاتها المرصوفة بالحجارة العتيقة أن السلام العالمي قد حل بين ربوع الكرة الأرضية, وأنه لا مشكلات اقتصادية تطوف حول العالم. في داخل القاعة عندما تنظر في وجوه الحاضرين ولا تجد سوي باحث شاب واحد من المنطقة العربية, هو الباحث السعودي سعد الشهراني, ربما تشعر أنك في المؤتمر الخطأ, خاصة عندما تمر بأجندة المؤتمر وتجد أن معظمها يناقش موضوعات تتعلق بالنظريات الاقتصادية أو واقع الاقتصاد الأوروبي الأمريكي المتقلبة, ويطفو السؤال فوق رأسك عما يمكن أن تكتبه في تغطيتك الصحفية عن هذا المؤتمر لقارئ الأهرام! سيحدث ذلك, حتي يبدأ الرئيس الألماني كريستيان ولف في إلقاء كلمته أن الناس تشعر بالسخط عندما يتم انتهاك مبادئ الانصاف وبرغم أن ولف كان يتحدث عن توابع الأزمة الاقتصادية العالمية التي أعقبتها أزمات أوروبية أخري, فإن ما قاله يتفق تماما مع التحليلات التي خرجت عن أسباب اندلاع الثورة المصرية, كعدم عدالة توزيع ثمار النمو! في كلمته تناول الرئيس الألماني مسببات الأزمة المالية العالمية وطرق العلاج التي انتهجتها الحكومات وقال إن العلاج حتي الآن تم بزيادة الانفاق العام والذي أدي لتراكم الدين وكان الأوفق الاستثمار في التعليم والتدريب المهني والابحاث ذات الطبيعة المستقبلية والابداع أو باختصار الأشياء التي تجعل الاقتصاد منتجا ومنافسا وبرغم أن ولف كان يقول هذا الكلام قاصدا الاتحاد الأوروبي فإنه أجاب علي سؤال ظل مطروحا في مصر فترات طويلة لماذا تهتم مصر بالاصلاح المصرفي ولا تهتم بالاصلاح التعليمي وأيهما سيكون له أثر ايجابي أكبر علي مستقبل البلاد الاقتصادي وهو سؤال وجهته كاتبة السطور لعالم الاقتصاد الشهير جوزيف ستجلتز الذي كان حاضرا للمؤتمر فكان رده أن النظام المصرفي مهم أيضا وعلي الدولة أن تحدد أولوياتها. أضاف الرئيس الألماني أن التعامل مع الأزمة المالية العالمية بزيادة الدين, أمر لا يمكن استمراره بلا نهاية وأن هذا النهج يشوبه عدم العدالة تجاه الأجيال الجديدة التي سيكون عليها دفع الدين. وقال إنه من ضمن الأخطاء الفادحة هي أن بعض الدول في الاتحاد الأوروبي قدمت احصاءات خاطئة وأنها سمحت للانفاق العام أن يخرج عن التحكم, وبدلا من أن تضع الحكومات أطر العمل التنظيمي للسوق, سمحت لنفسها بالانسياق وراء السوق وقال إن التناول السياسي للمشاكل الاقتصادية لابد أن يتسم برؤية بعيدة المدي للسياسيين وأن يتم اتخاذ القرارات- حتي ولو كانت غير شعبية- في البرلمان حيث تكمن الديموقراطية, مشيرا إلي أنه ينبغي أن يعود لأسواق المال دورها في دفع التنمية وإدارة المخاطر قبل أن يقدم شكره لمجموعة من الدول النامية التي يساعد نموها الاقتصادي الاقتصاد العالمي وهي البرازيل والصين والهند واندونيسيا مضيفا أن الناس يحتاجون الفرصة للعب دور فعال في مجتماعاتهم قبل أن يختتم حديثه بكلمات قليلة استعارها من الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون لابد أن يكون اختيارنا ما بين الاقتصاد والحرية أو بين الاسراف والعبودية. علي مدي أيام المؤتمر الأربعة دارت في أجواء قاعة المؤتمر الكثير من الجلسات عن نظريات الاقتصاد, منها ما يمكن وضعه في جمل مفيدة كسلبية الاختيار وتنظيم أسواق التأمين الصحي والفقر واللا عدالة والطعام ومنها ما يصعب ترجمته عربيا, لكن في الوقت نفسه لم يغب العالم العربي وربيعه الثوري عن القاعة! وكانت المنطقة العربية أكثر حضورا في كلمة البروفيسور إدموند فيلبس الحاصل علي جائزة نوبل في عام2006 كان حديثه عن إعادة هيكلة الاقتصادات الرأسمالية أوinsider والذي يؤدي وجودها إلي منع استفادة الشعب من الفرص المتاحة, وضرب مثالا من تونس بهؤلاء الذي احتفظوا بعلاقات بالأسرة الحاكمة هناك وفي مصر ببعض أفراد الجيش الذين حصوا علي حصص من ملكية أو إدارة الشركات التي تمت خصخصتها وقال إن الشباب الذي خرجوا إلي التظاهر في مصر وتونس أرادوا البدء في مشروعاتهم الخاصة والالتحاق بسوق العمل, والآن في تونس مصالح البنوك الأجنبية معا مع بعض العالمين ببواطن الأمور يبدأون جولة جديدة من إطلاق مشروعات البنية التحتية ويتضمن ذلك كاتدرائية في الصحراء, وهو أمر لا يسهم في حل مشكلات الشباب التونسي الذي يسعي لأن يكون له مسار مهني لا وظائف مؤقتة, وفي مصر الحكومة المؤقتة بالتعاون مع الجيش تسعي للحصول علي بعض القروض من أجل إقامة مشروعات بنية تحتية. في خارج القاعة كانت هناك لافتات عدة تزين الحائط يقول بعضها عالم آخر ممكن والبعض الآخر يحث علماء الاقتصاد علي إجابة العالم علي سؤال واحد لماذا حدثت الأزمة الاقتصادية؟علي مدي أيام المؤتمر الأربعة ارتفع التصفيق مكررا, لكن بقي أحد أعلي التصفيقات صدا في القاعة من نصيب الكلمات التي ختم بها جوزيف ستجلتز كلمته موجها رسالة إلي الاقتصاديين الشباب طالبا منهم أن يعملوا من أجل مجتمعات أفضل لا من أجل بنوك أكثر ثراء. وعودة إلي العالم العربي فرق فيلبس بين الرأسمالية أوcapitalism وما يمكن أن يوصف في العربية بالشراكتية أوCorporatistism وهو النظام الاقتصادي الذي تسيطر فيه الحكومة بالتعاون مع أصدقاء الحكومة وزبائن الحكومة علي مقاليد الأمور, ويكونون وحدهم مجموعة لتدير اقتصاد البلاد في ظل غياب مبدأ التنافسية ودون وجود فرصة حقيقية لخلق شركات جديدة لديها أفكار جديدة. وقال فيلبس إن في كثير من الأحيان يخلط البعض بين الرأسمالية بمفهومها الحديث والفعال والشراكتية! وطرح سؤالا هاما للغاية يحتاج إلي إجابة هو إلي أي مدي يمكن أن تتبع التطورات السياسية الايجابية في مصر وتونس والانتخابات المرتقبة بتطورات إيجابية علي الجانب الاقتصادي؟. وأشار إلي أنه كانت هناك مخاوف من أن تتحول هذه الدول الراسخة- مصر وتونس- إلي ما يمكن أن نطلق عليه دولا هشة حين يؤدي التوتر الاجتماعي والديني إلي صراع داخلي مستمر وركود اقتصادي, ولكن الخوف الحقيقي- وفقا لفيلبس- ليس تحول مصر وتونس إلي دولة هشة, بل علي العكس, الخطر الحقيقي هو أن تصبح دولا قوية بينما يبقي الاقتصاد بها ذا طبيعة مغلقة, يديره بعض العالمين ببواطن الأمور لمصالحهم الخاصة. قال فيلبس إن المظاهرات التي خرجت لم تكن من أجل عدالة الدخل أو الثروة, بل كانت من أجل عدالة توزيع الفرص, من أجل دخول سوق العمل بصورة عادلة والحصول علي فرص عمل قال فيلبس ليس من المتوقع أن يتم تلبية هذه المطالب في ظل الحكومات الحالية, الجيش المصري متردد في أن يتخلي عن دوره المؤثر في الاقتصاد. ولم ير سياسات الاقراض أمرا محمودا, بل رأي أن إعطاء مصر وتونس حزمة قروض مقدارها20 مليار دولار من مجموعة العشرين أمر سوف يعيد الدولتين إلي كونهما اقتصادات تديرها الدولة وتؤثر فيها أطراف خارجية. كما رأي أنه من الأفضل أن تنتهج الدولتان نموذجا رأسماليا كالذي نفذ في بريطانيا والولايات المتحدة في النصف الأول من القرن التاسع عشر والذي ساعدهم علي بناء اقتصادهم الناجح وكانت دعائمه توفيرالحقوق المدنية, حماية الملكية, إبرام عقود آمنة, وجود محاكم قادرة علي إرساء القانون, ووجود بنوك محلية قادرة علي التعامل مع صغار رجال الأعمال المحليينentrepreneurs وتوفير رأس المال المبدئي وتسهيل دخول السوق للشركات الجديدة. وفي أمريكا, يقول فيلبس, هناك علامات علي التأثير السياسي لأسواق المال, والمراوغة للانصياع للتنظيمات الجديدة, بالاضافة إلي الانفاق الكبير علي مجموعات التأثيرlobbyiests. وختم حديثه أنه من الصعوبة أن تنظر البلدان العربية إلي البلدان والمجتمعات الغربية الآن كنموذج للرأسمالية الحقيقية, وبالتأكيد فمشروع انشاء كاتدرائية في الصحراء في تونس, وهو المشروع الذي تم تمويله من صندوق النقد الدولي, ليس هو الحل لمشكلات الاقتصاد التونسي. الحل الوحيد هو القيام بكل أمر ممكن لتعزيز انشاء المشروعات والابتكار, وهذا يتطلب أن يتم توفير البيئة اللازمة لبدء أعمالهم, وضمان حق الجميع في الحصول علي الفرص المتاحة في الشركات, وإزالة القيود علي أن يصنع الناس مبادرات! الدول التي مرت بالربيع العربي تمر بتغيرات درامية, لابد أن نأمل أن شعوبها, خاصة الجيل الجديد يجرب تغيرات اقتصادية علي نفس نهج التغيرات السياسية, تغيرات تجلب لهم الفرص للتطور المهني والشخصي. انتهي المؤتمر وبقيت كثير من العبارات في ذهني حوله ولكن أكثرها صدي جاءت في كلمة الرئيس الألماني أن من أهم التحديات الكبري إصلاح النظام التعليمي, تحسين التدريب المهني, ازالة العوائق البيروقراطية والتي ربما كانت وصفة أكثر من جيدة لإصلاح كثير من الأحوال في عالمنا العربي.