حين يدور الحديث عن العيش المشترك في دولة الموطنة, لا بد من نزح مفاهيم خاطئة منحرفة عششت في عقول بعض المصريين, وأضعفت الوعي الواجب بأن الأمة المصرية هي عنوان الهوية والولاء والإنتماء لجميع المصريين مهما تكن أصولهم وعقائدهم. واستنادا الي بحوث تاريخية رصينة, ومع إبراز مآثر الحضارة العربية الإسلامية وإسهام مصر بمسلميها وأقباطها في صنعها, بدأت من قبل تصحيح تصور واهم وغير تاريخي يبشر به البعض باحياء جنة موعودة هي دولة الخلافة, وأسعي من بعد الي تصحيح زعم رائج وغير تاريخي أيضا يروج له بعض آخر بشأن جحيم مقيم عاناه أقباط مصر تحت الحكم الاسلامي. وقد وجدت في كتاب عزيز سوريال عطية تاريخ المسيحية الشرقية مرجعا علميا رصينا ونزيها, يقدم قراءة موضوعية نقدية لأحوال الأقباط من الفتح العربي حتي الحملة الفرنسية. وقد سجل باحثنا القبطي الكبير أنه بدأ في كتابه حين كان أستاذا زائرا في كلية اللاهوت بنيويورك, وكان الوازع الإيماني بين دوافعه, واستند الي مادة تاريخية موثقة من المصادر الأصلية, واستهدف فتح الأبواب كي تحمل الأجيال الجديدة شعلة البحث العلمي التاريخي حتي تتكشف الحقيقة. ويسجل عزيز سوريال أن الأقباط( أو قل المصريين آنذاك) قد عانوا العنت والاضطهاد الديني من جانب السلطات البيزنطية وبطاركتها, وكانوا غير متعاطفين مع البيزنطيين الذين أذاقوهم صنوف العذاب, وشعروا بالارتياح إذ حررهم العرب من أغلال البيزنطيين وأزاحوا كابوسهم. وكان موقف العرب من أهل الكتاب أو أهل الذمة موقفا كريما وسمحا, تأكدت فحواه من واقع العهد العمري, الذي كفل للأقباط حريتهم الدينية بشكل لم ينعموا به أبدا تحت النير البيزنطي. بعد أن استقر الحكم العربي في مصر, خرج البطريرك الشريد من مخبئه في الصحاري طيلة عشر سنوات, واستقبله القائد عمرو بن العاص باحترام شديد, ثم أعاده الي منصبه في الإسكندرية معززا مكرما ليرعي شئون كنيسته. وفي ظل الفتح العربي وبعد أن رحل البيزنطيون شهدت الثقافة القبطية انتعاشا هائلا ونهضة لم يسبق لها مثيل, من شعور ديني قومي الي انتعاش في الفنون والأدب في مناخ حر تماما, وحلت اللغة القبطية محل اليونانية في المعاملات اليومية. وعهد العرب الي الأقباط بالمناصب الحكومية التي كان يحتلها البيزنطيون, وصارت وظائف الإدارة المحلية شبه حكر علي الأقباط; فمنهم الكتبة وجامعو الضرائب والقضاة المحليون. وحين أصدر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة705 م قرارا بجعل اللغة العربية اللغة الرسمية في شئون الإدارة والحكم, تعلم الأقباط اللغة العربية, واحتفظوا بوظائفهم في سلك الإدارة. ومجمل القول أن الأقباط تحت مظلة الحكم العربي قد حافظوا علي تراثهم العريق, ونظر إليهم الحكام العرب وجيرانهم المسلمون بكل تقدير واحترام, واندمج الأقباط كعنصر إيجابي فعال في جسم الأمة العربية الإسلامية, دون أن يفقدوا هويتهم الدينية, وساهم الأقباط في المناخ الثقافي المتألق في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. واهتم العرب بجمع ضريبة الأرض أو الخراج, بجانب ضريبة الجزية علي الأقباط البالغين القادرين مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية, مع إعفاء النساء والأطفال والمسنين. وخفض عمرو بن العاص الضريبة المجباة من مصر من عشرين مليون دينارا في ظل البيزنطيين الي ما يقرب من اثنتي عشر مليون دينار ذهبي, وإن زادها عبد الله بن سعد بن أبي السرج الوالي الذي خلف عمرو بن العاص بمليوني دينار, فأدي ثقل الضريبة الي تذمر بلغ أشده بثورة البشموريين في أحراش الدلتا سنة830/829 م. ثم أخذت الضريبة في التناقص علي عهد الأمويين والعباسيين, حتي تقننت في حدود ثلاثة ملايين دينارا في القرن التاسع. ويرجع هذا الي دخول الكثيرين من أهل مصر في الإسلام; لدرجة أن بعض الولاة كانوا لا يشجعون هذا الإقبال حفاظا علي دخل الخزانة من الجزية. ومن جهة أخري فقد انخفض الفيضان مع غياب سياسة مركزية تهتم بمشاريع الري والصرف; فانتشرت الأوبئة, وتدهورت الزراعة, وعجز الفلاحين عن سداد ما عليهم من ضريبة. ولم تفلح في علاج تدهور دخل الخزانة إجراءات تشديد الرقابة علي الجباة, وإنشاء ديوان للإشراف علي جباية الضرائب من الأرض غير المسجلة, وفرض الجزية علي الرهبان والكهنة بعد أن كانوا معفون منها. وقد تمرد المصريون بسبب ثقل الضرائب رغم تدهور دخولهم, فثاروا خمس مرات ما بين أعوام739 و773 م, وشارك في هذه الثورات الشعبية المسلمون والأقباط الذين تعرضوا للمعاناة الاقتصادية نفسها, وكانت أكبرها ثورة البشموريين سنة831 م أثناء خلافة المأمون. وعادت الضغوط الاقتصادية علي كواهل الأهالي مرة أخري سنة869 م عندما فرض آخر الولاة العباسيين في مصر دفع حصة محددة من الضريبة عن رجال الدين الأقباط والرهبان جميعا. وقد قام البطريرك بتعيين اثنين من كبار رجال القبط لتقديم التماس إلي الخليفة المعتز في بغداد لتخفيف عبء الضريبة علي كاهل القبط, واستجاب الخليفة لهذا المطلب, ثم صدر قرار بإعفاء رجال الدين والأقباط من الضريبة في عهد الخليفة المهتدي. ولا ينسي مؤرخنا الموضوعي أن يشير الي إرتباط فتح العرب للإسكندرية بما اعتبره تلفيقا كاذبا ومن نسيج الخيال حول حريق مكتبة الإسكندرية علي يد عمرو بن العاص تنفيذا لأوامر الخليفة عمر بن الخطاب, مؤكدا أنه لا توجد مصادر معاصرة أو حولية تشير الي هذا من قريب أو بعيد, ويضيف أنه من المشكوك فيه أصلا أن يكون قد بقي شيء من مكتبة البطالمة, التي أحرقت علي يد يوليوس قيصر عند هجومه علي الإسكندرية, وعندما صارت للمسيحيين الغلبة هاجموا ودمروا كل ما اعتبروه من بقايا الوثنية ومنه ما تبقي من مكتبة البطالمة, وما أفلت من حرائق قيصر ومسيحيي القرن الرابع من لفائف البردي وغيرها لابد أنها قد بليت بفعل الزمن وقت وصول العرب الي مدينة الإسكندرية سنة642 م. وبمرور الوقت تأقلم الأقباط مع الأوضاع السائدة, ولم تكن بعض المشكلات التي واجهوها نتيجة لسياسة عامة, وإنما نتاج تصرفات فردية من بعض الولاة. وأما الحالات الاستثنائية من الضيق, من قبيل ما حدث علي عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله, مثلا, فإنما مرجعه شخص الحاكم نفسه, الذي كان متقلب الطبع والمزاج مع الجميع. لكن الحملات الصليبية كانت أشد الكوارث هولا علي الأقباط وغيرهم من المسيحيين الشرقيين, الذين عانوا من الحروب الصليبية, ومن حكامهم المسلمين, ومما ولدته علامة الصليب التي ارتبطت هنا بالإثم والعدوان من كراهية مريرة في نفوس الناس. وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم