الحب.. وسنوات المنفي الروائي والشاعر الروسي ايفان بونين, الذي فاز بجائزة نوبل للأدب عام3391 أمضي الثلاثة والثلاثين عاما الأخيرة من عمره في المنفي في باريس, وعاني كثيرا وطويلا, وكان يتجرع مرارة الوحدة والاغتراب عن الوطن. وقد عبر عن ذلك في قصة قصيرة كتبها عام0491 وسماها( في باريس) ويصور في أجوائها الحزينة الحالة النفسية للمنفيين والمهاجرين الروس الذين هربوا من روسيا في أعقاب ثورة7191 التي أطاح خلالها الشيوعيون بالحكم القيصري. وبطل القصة جنرال روسي سابق حالفه الحظ إلا قليلا عندما التقي بإمرأة روسية تعمل نادلة في مطعم بباريس. ونمت مابين الجنرال العجوز والمرأة الشابة مايمكن اعتباره بوادر قصة حب. ولكن الحب لم تكن عواطفة مشبوبه, وإنما كان توقا انسانيا لتبديد شعورهما بالوحدة. وراق هذا المعني لاحد المثقفين والفنانين المولعين بآداب ايفان بونين, وهو الممثل وراقص الباليه الروسي الشهير ميخائيا باريشنكوف, ولم يتردد في تمويل عملية تحويل القصة القصيرة إلي مسرحية, واضطلع بدور البطولة فيها, فهو يبلغ من العمر مايربو علي الستين عاما. وكان بدوره قد هرب من بلاده إلي باريس عام4791 ويتم عرض المسرحية هذه الأيام في العاصمة الفرنسية, ومن المقرر أن تعرضها الفرقة المسرحية في عواصم أخري. ذلك أن الفنانين والمثقفين في أوروبا وأمريكا يطيب لهم أن يلفتوا انتباه القراء والمشاهدين من الأجيال الجديدة لروائيين كبار ومؤلفاتهم عبر اعداد عمل أو أكثر لهم ليصبح فيلما سينمائيا أو مسرحية. واذا كان الجنرال الروسي قد خفت حدة وحدته في القصة والمسرحية, إلا أن ايفان بونين لم يجد في سنوات المنفي الطويلة أي عزاء أو سلوي, فقد كان يؤرقه اعتقاده الجازم أن بلاده الجميلة انزلفت إلي دهاليز عالم الظلمات منذ ثورة أكتوبر.7191 حدث حاسم ومن ثم كانت تلك الثورة الحدث الحاسم في حياة الروائي, فلم يتريث في شق عصا الطاعة عليها. ووجه لها انتقادات حادة, لكنه لم يصطدم اصطداما سافرا بالثورة علي نحو ما اصطدم بها كاتبان وروائيان روسيان كبيران هما بوريس باسترناك والكسندر سو لجنتين. فقد ناصبت السلطات السوفيتية العداء لباسترناك بسبب مؤلفاته ورواياته, وبلغت المواجهة أوجها عندما فاز بجائزة نوبل للأدب عام8591, عن روايته الشهيرة الدكتور( زيفاجو) لكنه اضطر مرغما للاعتذار عن قبول الجائزة, وكان يخشي انه في حالة سفره لتسلم الجائزة, ألا تسمح السلطات بعودته إلي بلاده, ومات باسترناك مقهورا وحزينا عام.0691 أما سولجنستين فقد اعتقلته السلطات السوفيتية عام4791 ورحلته قهرا وقسرا علي متن طائرة إلي المانيا, وسافر من هناك إلي المنفي الاجباري في أمريكا, غير انه عاد إلي روسيا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي ونظامه الشيوعي الشمولي عام1991, ومن أبرز مؤلفاته التي أحججت غضب السلطات السوفيتية عليه روايته أرخبيل الجولاج التي فضح فيها ممارسات الطاغية السوفيتي جوزيف ستالين. أما ايفان بونين فلم يستطع الحياة في ظل ثورة7191 سوي ثلاث سنوات فقد هرب إلي فرنسا عام0291, وكان في نحو الخمسين من عمره, وعاش في باريس حتي مات عام3591, وكان قد تجاوز الثمانين وتم دفنه في مقابر الروس هناك. والسؤال الآن لماذا خاصم بونين الثورة وانتقدها بعنف؟ في محاولة للاقتراب من الاجابة تجدر الاشارة إلي أنه كان ينتمي بالنشأة والثقافة لطبقة النبلاء الاقطاعيين, وبرغم ان اسرته قد داهمتها أزمة مالية قذفت بها خارج هذه الطبقة إلا أنه ظل متأثرا بما اعتبره قيمها التي أغارت عليها الثورة ودكتها دكا, ومن ثم تصور أن روسيا دخلت في نفق معتم. وكان ايفان بوتين قد حقق شهرته الأدبية منذ نشرة ديوان قصائد عام.1981 وكان في نحو العشرين من عمره, وفاز بجائزة بوشكين للآدب عام.3091 وتم انتخابه عضوا في الاكاديمية الروسية عام.9091 فلما هل عام1191 نشر روايته( الأرض) وحلقت به في فضاء الشهرة. وتبوأ مكان الصدارة في الجيل الي آتي بعد الروائي العظيم تولستوي وعبقري القصة القصيرة انطون تشيكوف. عنوان صارخ وقد أرقت ثورة7191 ايفان بوتين, وتصور انها قوضت عالمه, وزجت بروسيا في عالم الظلمات, وحرص في خلال السنوات الثلاث التي أمضاها في روسيا قبل تمكنه من الهرب إلي المنفي علي رصيد وتسجيل الأحداث والتطورات التي تعزز فكرته المناوئة للثورة. ونشر هذه الملاحظات عام6391 في كتاب صارخ عنوانه هو( الأيام الملعونة) وجرت ترجمة الكتاب إلي اللغة الانجليزية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي, وتزايد الاهتمام بآدب بوتين. وليس أدل علي ذلك من ان البروفسير توماس ماروللو استاذ اللغة الروسية وآدابها في جامعة نوتردام هو الذي ترجم الكتاب, كما كتب مقدمة مستفيضة عن حياة بوتين وأفكاره. وكان ماروللو قد نشر كتابين عن الروائي الروسي أولهما تناول مسيرته في خلال الفترة من عام5891 حتي0291, وثانيهما عن حياته في المنفي من0291 وحتي فوزه بجائزة نوبل عام.3391 ويوضح البروفسير ماروللو أن يوميات بوتين عن الثورة هي مجرد انطباعات تتسم بالرفض والغضب, غير أن أبرز ما فيها رؤيته.. فقد أدرك مبكرا ان انتصار الشيوعيين في ثورة7191 يعني ان الأسوأ قادم. ولم يجانب الصواب رؤيته. ويكشف ايفان بوتين في يومياته عن مقته الشديد لما أطلق عليه الشيوعيون السوفيت( الأدب الثوري), ويشير إلي أن السوقية في ذلك الادب صدمته, وخشي علي ما اعتبره تدميرا للغة الروسية التي ازدهرت وتألقت بفضل كتاب وروائيين عظام مثل تولستوي وتشيكوف. وهما من الأدباء الروس الذين كان بوتين يكن لهما اعجابا عظيما وكبيرا. ومايتعين ذكره أن معين بوتين الأدبي لم ينضب بسبب شعوره بالوحدة والاغتراب في المنفي بفرنسا ذلك انه واصل الابداع ونشر مجموعات قصصية منها جنتلمان من سان فرانسيسكو, والدروب المظلمة, وكانت روايته الأخيرة هي( حياة أرسينيفا). وكانت وصيته الأخيرة ان الحب وحده هو الذي يمنح الإنسان القدرة علي خوض غمار الحياة. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي