أريحونا به!! أرحنا بها يا بلال.. حديث نبوي شريف يحمل عبير توجيه من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه إلي مؤذنه بلال بن رباح بأن يرفع الآذان حتي ترتاح قلوب المؤمنين وهي تقف علي أعتاب رحمات الصلاة, وما تحمله لحظاتها من أمل في نفوس تتوق إلي اقتباس السكينة والتوازن ما بين جسد لا يتوقف عن السؤال, وروح تنشد السمو والترفع.. وهذا هو حال الإنسان دوما في كبد!! ويتنامي إلي آذان كل الناس وأذناي صوت الآذان خمس مرات في اليوم الواحد داخل أورقة هذه المدينة البائسة بأهلها القاهرة ينادي الناس إلي أعتاب الراحة أيضا: الصلاة!! ولكن تغيرات شتي قد طرأت علي مذاق هذا الآذان تستوقفني بحق: نفس الكلمات, ونفس المعني, ونفس الغرض السامي, ولكن المذاق اختلف يعلوه كثير من صدأ وأعتذر عن اللفظ لأنني لم أجد أكثر منه تعبيرا عما أردت التعبير عنه صدأ في الأداء, وصدأ في الروح ذاتها!! ولكن تري ما هو السبب القابع وراء ذلك ؟ أرحت رأسي علي المخدع, وعدت بالذاكرة إلي أباطرة رفع الآذان, الذين تربت علي أصواتهم العذبة آذان جيلي والأجيال التي سبقته, لعلي أتبين السبب, فقفزت إلي مخيلتي أسماء بعينها بسرعة البرق: الشيخ محمد رفعت, الشيخ محمد النقشبندي,الشيخ عبد الباسط عبد الصمد,الشيخ مصطفي إسماعيل,الشيخ محمود الحصري.. أسماء لامعة دوي صوتها في عنان سماء هذا البلد ترفع الآذان بمذاق خاص وعبق قلما يتكرر!! وشرعت استحضر أداءهم الرفيع, فقمت بتحميل آذانهم عبر الشبكة العنكبوتية, وطفقت أستمع وأستمع,لكن أذناي في هذه اللحظات لم تكن لتمرر الأشياء أو تأخذها علي عواهنها كمثل ما كنتا تستمعان إليهم في كل مرة, وإنما رحت أغوص في دهاليز ما كانوا يصنعون بأذن وحس وعقل الدارس للموسيقي ومقاماتها وكثير من أسرارها فتجرأت و أخضعت أداء هؤلاء إلي معايير التحليل الفني لعلي أفهم!! ولا يخفي علي عاقل في هذا المضمار أن أداء هؤلاء للآذان هو أداء مصاغ علي نغمات موسيقية واضحة وضوح الشمس, وما دمنا قد ذكرنا النغمات, فلا محيص من أن نتطرق إلي المقامات الموسيقية, ومادمنا قد تطرقنا إلي المقامات الموسيقية العربية, فنحن في مهب بحر واسع من العلم لا يضاهيه بحر آخر; ذلك لأن المقامات العربية هي مجموعات متجانسة من توافيق وتباديل مستقاة في الأصل من نحو تسعة مقامات أساسية يتألف كل منها من8 نغمات, وينقسم المقام الواحد منها إلي قسمين, كل قسم قوامه أربع نغمات, فيسمي القسم الأول بجنس الأصل,وتسمي الأربع نغمات التي يتألف منها القسم الثاني بجنس الفرع, هذا الأخير قابل للاستبدال بأربع نغمات مغايره له تماما( من حيث المسافات والأسماء),فلما يتغير جنس الفرع, إذا باسم المقام ومذاقه يتغير, ومن ثم فنحن أمام احتمالات كثيرة جدا تجعل المقامات الموسيقية العربية فضفاضة مليئة بالاحتمالات والتفاصيل فيما لا يضاهيها فيه أي نوع آخر من الموسيقي في العالم!! نحن أمام بحر نغمات, كلما ارتشف منه مرتشف طمع في المزيد!! وحتي وقت قريب كنت لا أفهم سرا واضحا لسحر صوت الشيخ محمد رفعت; فما أن ينطلق صوت الآذان بصوته, إذا بك تستشعر شيئا مختلفا يصعب عليك تفسيره, حتي وإن كنت مدركا للمقام الموسيقي الذي يستخدمه في الأداء, ولقد ظل حالي هكذا إلي أن شرعت في إخضاع أدائه للتحليل, فاكتشفت شيئا غريبا ربما سيتفهمه الموسيقيون بشكل أكثر تفصيلا: فالرجل اختار في أدائه المسجل والمتاح لدينا الآن مقام الراست, وهو مقام معروف لا يحتاج إلي مجهود في التعرف عليه, بيد أن الرجل يتحرك في داخله بشكل لم يسبقه إليه أحد;فهو يبدأ بجنس الأصل علي الراست في التكبيرة الأولي, ثم يرتفع بهذا الجنس إلي مسافة نصف تون ليؤدي التكبيرة الثانية; أي أنه يزحزح النغمات عن درجة ركوزها دون سند موسيقي من حيث اختيار زمن هذا التحول, ولكنه سند عبقري في نفس الوقت; ذلك لأنه كمن رفع حماسة الأداء درجة إلي أعلي, فأعطي قوة للمعني, ثم تجده راح ينطلق في رحاب هذا الرفع ليطوف بك ما بين النغمات الثماني فيؤكد شخصية المقام بحرفية أداء تمتلك ناصية الأمر علي نحو غير متوقع أتحدي عتاة الغناء أنفسهم أن يقتربوا منها!! وأترك الشيخ رفعت, وأتحرك نحو الشيخ النقشبندي, فأجد الرجل قد اختار لآذانه مقاما مختلفا تماما, ألا وهو مقام الحجاز حيث جنس الأصل حجاز وجنس الفرع نهاوند,وكم يأتي الاحساس بالكلمة مرهفا عند شيخنا وهو ينتقل من هذا المقام إلي مقام آخر من نفس قماشته ألا وهو مقام الحجاز أويج, فيبدل جنس الفرع من النهاوند إلي الراست.. وما أدراك ما مذاق الراست!! وعند أعتاب صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أقف متعجبا; فلقد اختار شيخنا نفس مقام الشيخ رفعت مقام الراست, ولكنه لم يقلده بالمرة في التسجيل المتاح;إذ اختار ألا يبدأ أذانه علي درجة ركوز المقام, وإنما فاجأنا بالبدء علي الدرجة الثالثة فيما هو ليس معتادا.. ولكن شيخنا اختار ذلك!! ثم أرحل كي ألامس أعتاب الشيخ مصطفي إسماعيل فأجد عنده حرفية بالغة أخري تميز بها عن غيره في آذانه, فبالرغم من أنه قد اختار مقام الشيخ النقشبندي( حجاز أويج) إلا أن الرجل بدأ آذانه بجنس مختلف تماما وهو جنس البياتي, فأوحي لسامعه بأنه سيبدأ في مقام البياتي حسب انطلاقة تكبيرته الأولي,ثم سرعان ما نجده يرتد إلي مقام الحجاز أويج في التكبيرتين التاليين مباشرة, ثم يعود فيختتم بالتكبيرة الرابعة علي جنس البياتي مرة أخري!! تنقل غريب بين نغمات لا توجد علاقة مباشرة بينها في علوم الموسيقي إلا في عقول المخضرمين القادرين علي إقناعك بما ليس في الكتب; ذلك لأنهم بحق مبدعون!! أما شيخنا الحصري فلقد اختار الراست أيضا, ولكنني أتحداك أن تجده قد تشابه في أدائه أو حلياته مع الشيخ رفعت أو الشيخ عبد الباسط رغم تشابه الفكرة الآذان والهدف والمضمون والمقام المستخدم!! نحن إذن أمام مقامات موسيقية بعينها جنح إليها الأقدمون رأوا فيها صخرة ارتكزوا عليها لتمرير موسيقية الآذان.. صخرة تناسبت شخصيتها مع شخصية موضوع الآذان نفسه, حتي وكأنه أصبح من الصعب علي الأذن أن تتقبل نغمات الآذان في مقامات خارج هذه المقامات التي اختارها الأولون!! إن رفع الآذان فن له أصوله وطرائقه التي تربي عليها الناس ثقافيا لأجيال وأجيال, حتي أن صوت الآذان نفسه قد أصبح أداة فاعلة من أدوات التأثير الثقافي فيما لا يجوز الاستهانة به, بل وأصبح في تراجع سطوته دليلا علي تراجع السطوة الثقافية بالمفهوم الواسع لكلمة ثقافة!! وأترك هؤلاء العمالقة في سماء الحرفية والإبداع,ثم ألتفت اليوم إلي من جردوا هذا الفن الرفيع من أدواته وتجرأوا علي آذاننا يطلقونه جافا في عنان السماء.. فأتحسر!! فهلا أرحتمونا به!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم