كعادته كل مساء جلس أبو سلطان في الصالة وأمامه كأس الويسكي بالثلج وصحن خيار وجزر ولما كان الوقت صيفاً فقد فتح النافذة الواسعة المطلة علي حديقة الهايد بارك في الطابق الأول الذي تزين حائطه أشجار كثيفة يتخللها نسيم منعش خلال الستارة الشفافة ينظر للتليفزيون وإذا بشاب يقف أمامه بيده مسدس. قال الشاب والمسدس يصوب نحو أبو سلطان: "لا أريد أن أقتل أحداً، أنا لص أريد فلوس فقط". والزوجة أمينة تدخل الصالة من طرفها الجنوبي فيشير لها اللص أن تتجه نحوه ويضع المسدس خلف رأسها وتأتي الخدامة الفلبينية التي تسافر معهما بطبق لحم الغنم المشوي الذي يشتهيه أبو سلطان مع الويسكي فيشير لها اللص بأن تضع الطبق أمام أبو سلطان ويقول لأبو سلطان "اشرب كأسك" وينظر نحو مزهرية علي الطاولة المستديرة في أقصي الصالة ويطلق عليها رصاصة دون صوت فتمزقها قطعاً متناثرة ليؤكد أن مسدسه قاتل وبدون صوت. قلب أمينة يرتعد واللص يكرر "اشرب كأسك ولا تتحرك" ويسحب أمينة نحو التليفون يقطع أسلاكه ويقول لها "إلي غرفة النوم" والمسدس في رأسها يقول لأبو سلطان "إذا سمعت حركة واحدة سأطلق النار وأهشم رأسها مثل هذه المزهرية". في غرفة النوم قال لها اللص "أنا أتبعك منذ أسبوعين. أعطيني الساعة التي اشتريتيها من شوميه والشنطة التي اشتريتيها من هرمز" وهي تطيع بخوف وبلا تردد ويقول لها "أين الفلوس... لا تقلقي لن أقتلك ولكن لا تتأخري" فتحت شنطة يدها وأفرغتها علي السرير بكل ما فيها. قال لها "أريد الفلوس فقط" ثم فتحت شنطة أبو سلطان وأفرغتها علي السرير "الفلوس فقط" وضع اللص ما يريد في جيبه ونظر لها بابتسامة غامضة. "أعطيني الأقراط" يقول وهو يمد يده نحو خدها ليلمس القرط: "وهذا الخاتم، وخاتم الزواج". يضع المسدس بين نهديها ويقول "أتريدين أن أقتل هذا الرجل قبل أن أخرج". صحبها إلي الصالة وقال لأبو سلطان "سأخرج الآن... أريد دقيقتان فقط وبعدها افعل ما تشاء". وانسحب يمشي للخلف حتي النافذة، رفع الستارة بيده وقفز من حيث أتي برشاقة. وقعت أمينة علي المقعد وصدر الخدامة ما يزال يرتفع ويهبط. وأبو سلطان قام من مقعده ومد يده نحو أمينة، والخدامة أتت بالماء ورشوا به وجهها. نظرت أمينة لأبو سلطان نظرة حقودة وأبعدت يده عنها. كان اللص يلبس جينز وقميص نص كم وحذاء رياضة. في أول العشرينيات. رشيقاً، عينان خضراوتان حادتان، وفم صغير، وشعر مفلفل أقرب للشقرة، وشفتاه حمراوتان، والجبهة حادة، وابتسامة ملعونة تملأ وجهه رغم قسوة المشهد والسرعة في التنفيذ بثقة حاسمة. أمينة في قميص سماوي يحف بجسمها وبنهديها الممتلئين ينزلق فوق البنطلون الأبيض. وشعرها الناعم الكثيف يسقط علي كتفيها وقد راقت للص الذي قال لها في غرفة النوم: "ليتني عرفتك في مناسبة أخري". وهي ما زالت حتي اليوم تحكي عن لون عينيه وابتسامته ورشاقته. وأبو سلطان كان بحجمه مرتين علي الأقل. هذا ما قالته له أمينة حين صحت من الصدمة "لماذا لم تضربه.. أنت أكبر منه؟!" ولم يقل شيئاً وهو يحاول تهدأتها وهي تصرخ به "ألم تستطع أن تضربه بالكأس التي بيدك" وهو يقول "اهدئي اهدئي" وهي تصرخ "خفت منه.. وهو دون كتفك". حين جلسا قال لها "أنتِ قلتِ لي لا تتحرك" قالت "حين أخذني للغرفة.. قلتُ لا تتحرك.. أكنتَ تريد أن تتحرك ليطلق الرصاص علي رأسي ويقتلني؟!" قال "أنتِ قلتِ هذا" قالت "لكن قبل ذلك.. قبل أن آتي للصالة.. لماذا لم تتحرك من كرسيك. جلست تشرب الويسكي جامداً مثل جبل الثلج". وهكذا ظلت الأيام الثلاثة التالية قبل قطع الإجازة السنوية المعتادة حيث اعتاد أبو سلطان أن يبقي شهرين يبتعد فيها عن الحر والغبار والرطوبة وينعم بأمسيات هانئة في شقته الواسعة بمنطقة بيسووتر وينعم بالهواء المنعش الذي يتسلل من النافذة الواسعة في الطابق الأول. الأصدقاء والأقارب استغربوا العودة المفاجئة لأبو سلطان وأمينة. وأمينة لم تخفي شيئاً عن الحادث "لا أريد العيش معه.. لم يستطع أن يحميني" والناس يهونون لها الأمر وأبو سلطان قال لها "سأشتري لك كل الأشياء التي أخذها اللص" وهي تقول "طبعاً.. طبعاً.. لكنني أريد الطلاق.. أنت لم تستطع أن تحميني". غضب أبو سلطان وصرخ بها "لقد فضحتيني.. لم يبق قريب أو صديق أو جار إلا وأخبرتيه بهذه القصة التي أنت تفسرينها علي كيفك" وتجيب صارخة وهي تشيح بوجهها عنه "سأخبر كل الناس، والحيطان والحيوانات وإلا كيف يعذرونني.." تقول "اعرف نفسك... أنت جبان" ولم تكن هناك فائدة من الكلام حتي إن أبو سلطان بكي أمامها "لا تقولي هذا الكلام.. أكنت تريدينه أن يقتلني.. ليأخذ الفلوس.. كيف أجازف والمسدس بيده" وردت عليه "كان ولداً صغيراً أنت أطول وأعرض منه.. لكنك خفت". لم تكن أمينة من النوع الذي يساوم أو يسامح. مزهوة بجمالها. أولم يتزوجها أبو سلطان بسبب جمالها. أولا يستحق هذا الجمال من يحميه؟ أشباه الرجال. تصغره باثني عشر عاماً. صديقة لابنة أخيه. حين رآها بعد عودتها من الجامعة في بوسطن تذكر كيف كانت تجلس مع ابنة أخيه وهي تميل بشعرها لليمين وللشمال. تذكر الضحكة المسترسلة المليئة بالشباب والحيوية والغنج. تذكر تلك النظرات التي تهفو لها الطيور من السماء. وتقدم لخطبتها. غني، بل مليونير، في السابعة والثلاثين. ورث عن أبيه أراضي وعمارات. سمعته جيدة وعنده فلوس. طلق زوجته الأولي وتزوج أمينة فدللها وألبسها وآنسها وسافر معها لكل مكان. لا شيء يشوب العلاقة الزوجية رغم أن أمينة لم تنجب له أبناء. يحبها.. يحب حديثها وضحكتها ورشاقتها وأصدقاءها والمطاعم التي تنتقيها. ولولا هذا اللص اللعين لاستمرت حياتهما كأحسن زوجين. وأمينة ما أن دخل حياتها هذا اللص ذو العينين الخضراوتين الحادتين والشفتين المكتنزتين الحمراوتين وجرأته ودقته في الكلام "ليتني عرفتك في مناسبة أخري" يضع المسدس في صدرها بين نهديها "هيا لنخرج بسرعة وهو يدفعها تسير أمامه والمسدس في رأسها" وينسحب بخفة ويقفز من الشباك وأبو سلطان جالس في مكانه. فجأة اكتشفت شيئاً في أبو سلطان "جبان". وأصرت علي الطلاق. ورفض أبو سلطان تطليقها علي أمل أن تهدأ ولو بعد حين. أمينة طلبت من القضاء الخلع. والقاضي سألها "هل لديك أسباب أخري" قالت "ألا يكفي هذا؟" وسألها أيضاً "ألديك أقوال أخري؟" قالت "أريد الخلع وأريد نفقة مثلما كان يصرف عليّ حين كنت معه" نظر القاضي لزميليه اللذين يجلسان إلي يمينه ويساره وهما شاردا الذهن مذهولان من هذا الجمال وهذه الجرأة. ذاك النوع من النساء الذي يذيب الحديد. القمر إذا رآها رقص. وإن هي مرت علي الأشجار تساقطت أوراقها كما يقول السياب. قاضي اليمين الذي يزم أنفه دائماً كمن اشتم رائحة كريهة انفتحت منخريه وهو يسمع لها، وقاضي اليسار أراح كرسيه للوراء وحرّم جفنيه أن يرمشا وهو يصيخ السمع والرئيس في الثامنة والخمسين وقلبه أخضر. سألها القاضي ثانية "أبداً لا توجد أسباب أخري لطلب الخلع؟". تقدمت نحو منصة القضاة ووصل عطرها للقضاة الثلاثة "تزوجني من أجل جمالي ولم يستطع أن يحميه، ألا يكفي هذا؟ هل ترضون أنتم أن تعيشوا في بيت، أو بلد، لم يستطيعوا فيه حمايتكم؟!". سألها القاضي "هل لك طلبات أخري؟" قالت: "شقة لندن". في غرفة المداولة قال قاضي اليمين "بنات اليوم جريئات" فقال الرئيس "متعلمات" وتوصل الثلاثة إلي أن الجمال هبة من رب العالمين مما يوجب حمايته واتفقوا علي الخلع وأن يعطيها شقة لندن ونفقة بالمستوي الذي تصرفه حين كانا معاً وأن تنقطع هذه النفقة لو تزوجت مرة أخري. تناقشوا طويلاً ورأوا أن عنده فلوس لم يتعب في تحصيلها ولن يضيره أن يدفع لها ما تريد. ولم تتزوج أمينة ثانية. أمينة بنت حمد بن حمود بن سلمان بن داوود الفريجي. جميلة ذات عقل وكبرياء وعزة نفس. سحقت أبو سلطان الجبان كما صار لقبه عند الناس، كما تسحق رجل فيل نملة في التراب. رئيس القضاة قال لزميليه "سألت عنها.. جدة أبيها أسمها سليمة كانت أسيرة من القوقاز" قال قاضي اليسار "حريم السلطان". وهي الآن في السابعة والأربعين تذهب لنادي الرياضة كل يوم والتدليك ساعة بزيت أرجان والطراوة كجبنة بوراتا وبعد عودة المصطافين تقضي يومين من كل عام عند مصنع مولينارد بمدينة جراس لتحضير عطرها الخاص الجاذب لشهوانية الذكور. تحكي لنا في شرفة فندق الكارلتون بمدينة كان والقمر يطل عليها من بين أغصان الأشجار العالية ونحن جلوس حولها والناس ذهاب وإياب في صخب وضحك وسرور. تحكي هذه القصة كما رويتها هنا بلا زيادة أو نقصان. تحكي ووجها يضج بالحمرة وخفة الدم وتألق المنتصر وتود أنت لو رأيتها وهي تحكي أن لا تنقطع عن الكلام.