علاء خالد حلمت بأني أسير في ممر يشبة الأنبوب الذي يصل لجسم الطائرة. في نهايته وصلت لغرفة صغيرة لها باب خشبي قديم مغلق مثل أبواب الغرف، وبجواره رجل أصلع يلبس بدلة زرقاء سألته مندهشا هل هذا الباب هو باب الدخول للطائرة؟ فأومأ برأسه بالإيجاب. بمجرد أن حرك الرجل الأكرة وسحب الباب ناحيته، واختفي وراءه؛ حتي صدمتني الأضواء والأجواء الاحتفالية بداخل الطائرة. كان هناك ركاب أجانب، رجال ونساء، يقفون في الممر ينتظرون أن يخطوا لكراسيهم، لذا تعطلت في السير قليلا. وآخرون يقفون في أماكنهم. الجميع كانوا يحملون كؤوسا ملآنة، بما يشير بتناولهم لنخب ما. أنا أيضا كنت أحمل زجاجة ويسكي صغيرة من تلك التي توزع في الطائرات. سيطر علي تفكيري ساعتها أن أبي أحد ركاب الطائرة، لذا يجب أن أنتهي من الزجاجة سريعا قبل الوصول إلي كرسيه. حدست، بعقل يقف وراء هذا الحلم، أن تكون تذكرتي محجوزة بجانبه. أخذت عدة جرعات متوالية وظلت الزجاجة في يدي، حتي قبل أن يتحرك الطابور الواقف في الممر. بمجرد أن أشحت ببصري ناحية أحد جانبي الطائرة، كانت النوافذ أكبر من المعتاد؛ شاهدت شارعا علي جدرانه إعلانات كبيرة مكتوب عليها بعض الحروف العربية، وأحيانا كلمات، ميزت منها كلمة " ألتراس". هييء لي أنهم قادمون إلي برلين لتقديم أغانيهم، واستحسنت اختيار هذا النوع الجديد من الغناء المرتجل الذي يصلح لمدينة مثل برلين. لم يظهر أمامي اسم مدينة أخري، ربما لتشابه جدران شارع الحلم مع شوارع برلين المليئة بالرسومات والكتابات. لم أسر إلا مسافة صغيرة، المسافة التي تجرعت فيها زجاجة الويسكي، وهي مسافة الخوف أو الخجل من أن أشرب الويسكي أمام أبي. لم أقابل أبي داخل مسافة الخجل هذه. ماذا لو كنت أكملت السير في الحلم وقابلت أبي؟ ربما كنت سأتيقن بأن هذه الأضواء والحالة النشوانة للمسافرين لاتحدث علي الأرض، وإنما في مكان آخر يتجمع فيه الموتي مع الأحياء. علي أساس أننا ندخل الحلم باعتبارنا أحياء. وأن أبي برغم موته منذ عشرين عاما مازال مسافرا في رحلة ترحال مابعد الموت، ولم يستقر بعد، داخل حلمي، في مكان محدد. في اليوم السابق للحلم حضرت حفلا لفرقة "إسكندريللا". كانت كل الأغاني حماسية وثورية في الكلمات والأداء من أعضاء الفرقة والجمهور. صنعت الفرقة حالة جماعية مشحونة وتوحدا مع حلم جماعي غائب. عندما حكيت الحلم لزوجتي، وقد حضرت معي الحفل، قالت ربما ظهور الأب في الحلم كان سببه هي هذه الحالة الجماعية والحماسية التي ولدتها الثورة، وتجسدت بشكل مكثف في هذا الحفل. ربما كان رمز الأب هو هذا الغناء الجماعي، هذا الأب الجماعي الطيب، وليس الأب الذي نريد قتله، كما يقول فرويد، لنتحرر. ربما ظهور أبي في الحلم هو ظهور لأب له شكل جديد، ليس أبا شخصيا، وإنما أبا جماعيا. أعتقد، عكس مايقال، أن الثورة لم تقتلع رمز الأب، ولم تنظر في هذه الناحية من الأصل. ربما لأن هذا الرمز لم يكن ممثلا بقوة في الثقافة قبل الثورة. لم تكن له سطوة، برغم غيابه، مثل أب "الطريق" عند نجيب محفوظ، أو أب" الأخوة كرامازوف " عند ديستوفسكي. لقد أمسي أبا سطحيا هشا، تداخل وتخفي تحت رموز أخري استهلاكية أضعفت من وجوده وتأثيره. ربما هالة القداسة قد نزعت، بدون ثورة، عن رموز هامة في حياتنا، ليس كفعل تحرري وإنما بسبب ضغط وجاذبية علاقات أخري. لاأتصور أن مجتمعا بكامله يمكنه أن يقتل الأب، حتي ولو كان أبا مجازيا. الأب حالة شخصية، وآثار اقتلاعه لايمكن رصدها إلا علي المستوي الفردي. أما علي المستوي الجماعي فهو شيء مستحيل. فهو عائش، بأشكال عديدة، رغما عنا جميعا. حتي في الحلم لاتنطلق حواسنا خارج نظام قديم أو حديث للثقافة، سواء ثرنا عليه أو لم نثر.