كان "البار" أنيقًا خافت الإضاءة، جدرانه مغطاة بخشب الأكاجو المصقول، وكان النادل الزنجيّ الأنيق يروح ويجيء ملبيّا طلبات الزبائن بحركات دقيقة، وهو يعدّل من حين إلي آخر ربطة عنقه التي لها شكل فراشة. خلف "الكونتوار" الذي أجلس إليه، كانت هناك رفوف تحتوي علي تشكيلة مدهشة من زجاجات مختلفة الأحجام والألوان لمشروبات متنوّعة من بلدان عديدة. ورغم أن الوقت كان مبكّرا (الثانية بعد الظهر)، والبار شبه خال من الزبائن، فإنني طلبت كأس ويسكي في محاولة للتغلّب علي صداع الرأس الذي يلازمني منذ أن استيقظت علي الساعة الواحدة ظهرا: "Black Label ؟ "، سألني النادل بابتسامة مبالغ فيها أظهرت أسنانه ناصعة البياض. "Yes, please. "، أجبته دون تركيز وأنا أفكّر في سهرة الليلة السابقة. بدأت في احتساء الويسكي وأنا أتحسّس مكعّب الثلج بلساني. وعندما التفتُّ مجددا إلي يميني، لاحظت أن المقعد الشاغر الواقع بجانب الجدار المتعامد مع الكونتوار والذي تغطّيه صور بالأبيض والأسود لأشهر فناني الجاز، صارت تشغله سيدةٌ شقراء في حوالي الثلاثين من العمر تضع علي رأسها "بيريه" سوداء، ولم يكن يفصلني عنها سوي مقعد واحد. في البداية، لم أرَ من المرأة إلا كتفها وجزءًا من ظهرها وشعرها من الخلف. لكن عندما استدارت قليلا رأيت بوضوح أن عينيها مبللتان وحمراوتان. هل كانت تبكي؟ طلبت السيدة الشقراء كأس "مارتيني" شربته دفعة واحدة، ثم طلبت كأسا ثانية أفرغته بسرعة. ومسحت عينيها بكمّ قميصها وهي تعدّل "البيريه" علي رأسها، ثم وقفت تاركة ورقتَيْن نقديتَيْن علي الكونتوار. كانت صاحبة البيريه تترنّح في مشيتها أو هكذا خيّل إليّ وهي تغادر الحانة في اتجاه بهو الفندق. في البداية، لم أتبيّن شيئا بسبب العتمة التي تلفّ المكان، لكن سرعان ما لاحظت شيئا يلتمع علي المقعد الذي تَرَكَتْه للتوّ. تقدّمتُ من المكان الذي كانت تجلس فيه للتثبّت، فوجدت حافظة نقود جلديّة وحاملة مفاتيح بها اسم النزل وتحمل الرقم "777". التقطت حافظة النقود وحاملة المفاتيح اللتين نسيتهما السيدة الملغزة، وتركتُ للنادل ثمن ما شربته مع بقشيش سخيّ. ثم وثبت في اتجاه بهو الفندق محاولا اللّحاق بها. ألقيت نظرة دائرية علي المكان، فلم أرَ لها أثرا. توغّلت في الممرّ المؤدّي إلي المطعم، وقد خطر ببالي أن أبحث عنها هناك لعلّها ذهبت لتناول وجبة، لكنّني لم أجد إلاّ رجلا متقدّما في السنّ بصحبة زوجته في ركنٍ منزوٍ وهما يستعدّان لمغادرة المكان. كان واضحا أنّهما الزبونين الأخيرين في المطعم. عدت إلي بهو الفندق. كان بإمكاني أن أذهب إلي عون الاستقبال وأترك لديه حافظة النقود والمفتاح، غير أنّي لم أفعل ذلك. لماذا؟ لا أدري. وعوضا عن ذلك، توجّهت إلي المصعد وضغطت علي الرقم 7. في الطابق السّابع، وجدتني أمام الغرفة رقم 772. كانت الأرقام الفردية (771- 773- 775...) علي يميني. توقّفت أمام الغرفة 777، وكان من الغباء أن أطرق الباب، بما أن المفتاح معي بعدما نسيته صاحبته. فكّرت قليلا في ما يمكنني أن أفعل، وقرّرت في النهاية أن أعود إلي بهو الفندق. حين وصلت إلي آخر الرواق، وقبل أن أضغط علي زرّ المصعد، انفتح بابه أمامي، وخرجت صاحبة "البيريه" بخدّين متورّدين. باغتني الأمر، فلم أجد الوقت الكافي لكي أردّ الفعل، لكنّني سرعان ما استدركت عندما رأيتها تسير في اتجاه غرفتها. لحقت بها واستوقفتها وأنا أعطيها المفتاح وحافظة النقود شارحا لها بأنجليزية تقريبيّة أنها قد نسيتهما في الحانة. كان واضحا أنها لا تفهم اللغة الانجليزية، غير أنّها تعرّفت علي أشيائها التي نَسِيَتْها في الحانة وأخذتها منّي. وتوجّهت إليّ ببعض العبارات التي فهمتُ أنّها كلمات شكر واعتراف بالجميل. الواقع أنني لم أستطع أن أحدّد اللغة التي كلّمتني بها، لكنّني خمّنت أنها اليونانية أو البرتغالية... ما حدث بعد ذلك هو أنّها دعتني إلي غرفتها. وحين حاولتُ أن أعتذر بلطف، ألحّت بابتسامة مشجّعة. ولم تمرّ دقائق حتي وجدتني أجلس علي السرير الذي يتوسّط غرفتها الغارقة في فوضي عارمة: مجلات مفتوحة وممزّقة، ملابس داخلية ملقاة هنا وهناك، خزانة ملابس مفتوحة وفيها أمتعة غير مرتّبة... أشارت إلي زجاجة "كونياك" موجودة علي المنضدة الملاصقة لسريرها فابتسمتُ لها علامة علي الموافقة. أعطتني كأسا وجلست بجانبي علي السرير وهي تحمل كأسها. كانت تتحدّث بانفعال كبير وأنا لا أفهم شيئا من كلامها. وكلّما فرغ كأس ملأته من جديد. استمرّ ذلك وقتا لم أستطع تحديده، حتي فرغت زجاجة "الكونياك". قضّت دقيقتين أو أكثر وهي تحاول أن تصبّ "الكونياك" في الكأس من الزجاجة الفارغة، ولم تتوقّف عن ذلك إلاّ عندما أفهمتها بالإشارات أنه لم يتبقّ شيء في الزجاجة. حينها ألقت بها في سلّة المهملات الموجودة بجانب الثلاجة الصغيرة، وذهبت إلي خزانة الملابس. تناولت حقيبتها وبحثت فيها قليلا قبل أن تُخْرِج زجاجة "ويسكي" هذه المرّة. كان واضحا أنها قد صارت ثملة جدّا، لكنها أصرّت علي مواصلة الشّرب وأنا معها. لا أتذكّر ما حدث بعد ذلك... في الحقيقة، لم أستعد وعيي إلّا بعد ساعات، حين وجدتني أستفيق من النوم وقد بهرتني أشعّة الشّمس القويّة القادمة عبر زجاج الشرفة. كنتُ مستلقيا علي السرير الكبير تحت الغطاء، وكانت ملابسي الداخلية ملقاة قرب المنضدة. تثاءبتُ وأنا أحاول أن أفهم أين أنا، وماذا حدث خلال الساعات المنقضية، غير أن ذاكرتي لم تسعفني. قمت متثاقلا وتوجّهت إلي غرفة الحمام. فتحت الحنفية ووضعت رأسي تحت سيل الماء الدافئ لكي أستفيق تماما. حين عدت إلي الغرفة، لاحظت أنه لم يعد هناك أيّ أثر لأغراض السيدة الشقراء. ولم أرَ إلا ملابسي وربطة عنقي ملقاة هنا وهناك. كان يمكن أن يكون الأمر أضغاث أحلام أو مجرّد كابوس. غير أنني عندما خرجت من الغرفة - بعد أن ارتديت ملابسي ورتّبت هندامي-، وجدت أن الرقم الموجود علي الباب هو 777، مما يعني أن ما حدث حقيقة ولا يمكن أن يكون من نسج خيالي. لم أجد مفتاح الغرفة، فاكتفيت بسحب الباب لإغلاقه. كانت ساعتي تشير إلي التاسعة صباحا. وبمجهود ذهني تطلّب مني الكثير من التركيز، أدركت أنه لم يعد أمامي إلا ساعة واحدة كي أحزم أغراضي وأجهّز حقيبتي لأنّ سائقا سوف يأتي علي الساعة العاشرة ليأخذني إلي المطار. حين عدتُ إلي غرفتي في الفندق، لاحظتُ أنها مرتّبة ونظيفة مثلما تركتها تماما. وخطرت ببالي فكرة وأنا أرتّب حقيبتي جعلتني أتفقّد حافظة نقودي، غير أنني وجدتها في جيب بنطلوني الخلفي كما تركتها ولم ينقص منها شيء. كنت أحسّ بتعب شديد، وكانت لدي رغبة كبيرة في ملء حوض غرفة الحمّام والاسترخاء قليلا في الماء الدافئ المعطّر. غير أنّني كنت مدركا أن ما تبقّي من الوقت لن يكفيني لفعل ذلك، فطائرتي تقلع علي الساعة الواحدة، والسائق لن يتأخّر في الحضور. في طريقي إلي المطار، كانت أفكاري مشوّشة تماما، غير أنني لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في كلّ الأحداث العجيبة التي وقعت لي في الليلة السابقة، وهي أحداث لو وقعت لكاتب لدوّنها في قصّة لا يمكن أن يكون عنوانها أفضل من "777".