القصيدة التي تثير انتباهي، قادرة علي دفع القارئ إلي اليقظة، إنها تنقل إليه ما بداخلها من اهتمام وشغف. يحدث هذا خاصة حين أقرأ القصيدة بصوت مرتفع، وأشكل الحروف بشفتي، وأنظم الإيقاع بأنفاسي في الأعوام القليلة الماضية، قضيت أغلب وقتي في تأليف كتب عن الشعر. وأحياناً ما كنت أجلس وحدي أمام شاشة الكمبيوتر وأدخل في عملية تأمل طويلة، وأسأل نفسي: هل ما أكتب عن الشعر مجرد إهدار للوقت؟ في النهاية، العالم يواجه الكثير من المشاكل والتحديات، وهي مشاكل وتحديات قائمة طوال الوقت. ولابد أن هناك موضوعاً أكبر أهمية وأكثر فائدة من تكريس وقتي للتأمل في الشعر. ولكن هذا غير صحيح بالمرة، لقد أنجزت بالفعل أكثر من كتاب في سلسلة "عشر قصائد"، وكنت أسأل نفسي طوال الوقت: أليس ما يفعله الشعراء وما أقوم به أنا قليل من الجهد حتي لا تنفصل ذواتنا عن العالم؟ وفي الأيام الجيدة التي أواصل فيها الكتابة، أدرك أن الشعر الجيد له قدرة علي تأجيج جذوة الحياة في النفس البشرية، وتغيير الطريقة التي ندرك بها أنفسنا، بل ويمكنه تغيير العالم. إن لم تكن قد قرأت قصيدة في حياتك من قبل، وتصادف أن وقعت يدك علي ديوان شعر لأي شاعر، فلنقل بابلو نيرودا، أو رامبو، أو ماري أوليفر. افتحه علي أي صفحة علي نحو عشوائي، وسوف تجد أنك دخلت إلي عالم يحتشد بالألم والخوف والرعب والدهشة والحزن العميق والبهجة المفرطة. يخاطب الشعر الجيد أرواحنا، يحرضنا علي الانطلاق والتحرر من أسر الأساليب الآمنة للعقل الواعي. ينادينا الشعر، كما تقول ماري أوليفر، من مسافة بعيدة، مثل الإوزة البرية التي تصيح في كبد السماء. إنه فن سحري، كان ولايزال قادراً علي إطلاق طاقة اللغة، ليفتح عيوننا، ويفتح الأبواب التي نغلقها علي أنفسنا، ويقدم لنا عالماً أكثر رحابة، عالم لم نكن نجرؤ علي مواجهته في أحلامنا. لهذا يعد الشعر ضرورياً، وفي ذات اللحظة، خطيراً. ربما لأننا لن نعود كما كنا قبل قراءة القصيدة التي تمكنت من النفاذ إلي وجداننا. لن نتمكن من استعادة حالة التكلس القديمة التي حطمها سحر الكلمات. أنا أعرف تلك الحالة التي يمر بها شخص حين يجد نفسه في قصيدة، فيشعر بالانفتاح وصفاء الذهن، ويتأكد أن أحاسيسه حقيقية، وهو يراها بين مفردات القصيدة، بعد أن أخفق في التعبير عنها من قبل. إن أي شيء قادر علي خلق هذه الحالة لهو علي قدر كبير من الأهمية بالنسبة للإنسان. يتغلغل الشعر بموسيقاه وإيقاعاته إلي مملكة اللاوعي، ويوقظ الخيال ويغذيه. يقول "دابليو سي ويليامز" في قصيدة له: (من الصعب/ أن تعرف الأنباء/ من القصائد/ إلا أن الناس يموتون كل يوم في تعاسة/ لعجزهم عن العثور/ علي ما تحويه القصائد). الخيال هو أعظم هبات الوجود، والشعر هو ما يجدد الخيال ويزيده عمقاً. ويلعب الخيال دوراً محورياً علي المستويين العام والخاص. فكلما زاد خيال البشر، كانوا أكثر تعاطفاً وقدرة علي الحب، والحب هو مفتاح البقاء، وبه نحتمل الحياة. ما يوجد هناك، في مملكة الشعر، هو ما نتجاهله عادة في حياتنا اليومية دون أن نعره انتباهاً: الأشياء المعجزة، والمفاجأة، التي لم تخطر لنا علي بال. تكمن ضرورة القصائد في احتفائها بالمجهول، المجهول في أرواحنا، والمجهول في العالم الذي يحيط بنا. تأتي القصائد من مناطق لم يتم اكتشافها بعد، ويتم تشكيلها بقوة اللغة، وتتحرر وتحلق في الأفق بجناحي الاستعارة والكناية. تخيل معي عالماً كل تفاصيله معروفة وواضحة. إنه عالم ميت، لا توجد به أسئلة، ولا تعجب، ولا احتمال لحدوث شيء آخر غير الذي يحدث. عالم قاحل وكئيب. لقد اكتشفت أن الشعر هو طائر العنقاء الأسطوري، الذي أتعلق به وأطير معه إلي الأرض القديمة المجهولة، التي طواها النسيان. ولما كان كل ما بالشعر سحرا، فإنه يستخدم السمات الشائعة في الحديث اليومي. يستخدم كلمات نعرفها جميعاً، وإيقاعات مألوفة، وأفكارا نمطية وأولية؛ ولكن بترتيب يثير دهشتنا، وبطريقة تبث النور من حولنا، وتمنحنا حياة جديدة، ورؤية جديدة، ومذاقاً مختلفاً للعالم الذي عهدناه دوماً. يحرضنا الشعر علي التهام التفاحة المغوية بكاملها. ولكن يجب أن ننتبه جيداً ونحن نلتهم تفاحة الغواية. يجب أن نولي اهتماماً كبيراً لأفكارنا وخيالنا، وللعالم الفيزيائي من حولنا بنفس القدر. فالشعر وسيلة لإنقاذ العالم من النسيان، عن طريق ممارسة "الاهتمام". الاهتمام هو ما يمنح القيمة الحقيقية للبشر، وهو ما يمنحهم ما يستحقون من تميز وتفرد، وينقذهم من غموض التعميم. القصيدة التي تثير انتباهي، قادرة علي دفع القارئ إلي اليقظة، إنها تنقل إليه ما بداخلها من اهتمام وشغف. يحدث هذا خاصة حين أقرأ القصيدة بصوت مرتفع، وأشكل الحروف بشفتي، وأنظم الإيقاع بأنفاسي. لهذا يجعلنا الشعر أكثر آدمية، وأكثر ارتباطاً بالعالم. وتعبر الشاعرة "جين هيرشفيلد" عن هذه الفكرة بكلماتها حين تقول: "سواء كنت أقرأ شعراً من انجلترا، أو من الإسكيمو، أشعر أن كل ما كنت أعرف عن البشرية قد اتسع وتعمق بعد الانتهاء من القصيدة". وهناك كلمات مكتوبة علي شاهد قبر في مقبرة "لونج أيلاند"؛ حيث دُفن "جاكسون بولاك". أظن أن تلك الكلمات تلخص قيمة وضرورة الشعر في ذلك العالم القاسي الذي يكتظ بالأحزان: "الفنانون والشعراء هم الخلايا العصبية للبشرية. لا يمكنهم فعل الكثير من أجل إنقاذ البشرية وحدهم، ولكن بدونهم لن يتبقي للبشرية ما يستحق الإنقاذ".