في روايته سهرة في القاهرة يدعونا روبير سوليه الروائي المصري المقيم بفرنسا أن نلقي نظرة دقيقة علي أحوال مصر السياسة والدينية والاجتماعية والثقافية في عصرنا هذا وما كانت عليه خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وذلك من خلال حوار "تشارلز" راوي القصة وبطلها مع نفسه ومع من قابلهم بمصر بعد عودته اليها. وهذه ليست الرواية الأولي لروبير سوليه التي تطرح هذا الموضوع ، فبالرغم من أنه يعيش بفرنسا ويكتب أعماله باللغة الفرنسية إلا أنك عندما تقرأ رواياته تجده علي دراية عميقة بأحوال مصر وشعبها، ولروبير سوليه العديد من الروايات التي كتبها عن مصر بداية برواية الطربوش التي صدرت عام 1992 ، ثم العديد من الروايات الأخري مثل فنار الاسكندرية والمملوكة ومزاج وغيرهم، وبمرور السنوات لم تعد مصر بالنسبة له حب الطفولة فقط ولكن صارت أيضا هدفاً للدراسة: حيث نشر سوليه (مصر ولع فرنسي)، (علماء بونابرت)، (الرحلة الكبري للمسلة)، وشارك في كتب أخري مثل (حجر رشيد)، (رحلات في مصر) وترجمت أعماله الي لغات مختلفة. ويفتتح سوليه رواية سهرة بالقاهرة بجملة علي لسان راويها "تشارلز" حيث يقول "تركنا مصر مثل اللصوص بلا وداع او شكروبدون حتي ان نخبر اصدقاءنا" ، تلك الجملة التي قد تدهشك كثيرا عندما تقرأها ولكنك تستطيع فهمها بتوالي احداث الرواية . بعد هجرة أسرته من مصر، قضي تشارلز خمسة وعشرون عاما بفرنسا متناسيا مصر رافضا أن يفكر في الماضي رافضا أن ينظر إلي الوراء وحاول خلال تلك السنوات أن يقنع نفسه أنه أصبح فرنسيا خالصا حيث أصبح صحفيا ناجحا، وخاصة لأن أفراد عائلته كلهم تركوا مصر وتشتتوا في جميع أنحاء العالم في بيروت وباريس وجنيف ومونتريال وريو دي جانيرو.
وعلي عكس أفراد العائلة الذين لم يرغبوا قط في العودة إلي مصر مكتفين بالاحتفاظ بذكرياتهم بها، قرر تشارلز العودة الي مصر بعد وفاة خاله ميشيل بجنيف حيث ترك له مذكراته التي تحدث فيها عن مصر وحياته هو وعائلته بها. قام تشارلز بزيارات منتظمة ومتكررة إلي مصر حيث كان يقيم ببيت جده لأمه مع "دينا" أرملة خاله "الكس" وهي امرأة جميلة وأنيقة فبالرغم من انها تعددت الستين من عمرها، من يراها لا يمكن ان يعطيها سنها الاصلية، وهي الفرد الوحيد من افراد العائلة التي قررت العودة الي مصر بعد وفاة زوجها الكس بلبنان . وباقامته في ذلك البيت وبقراءته لمذكرات خاله ميشيل، اخذ تشارلز يستدعي ذكريات طفولته حيث كان يتجمع في ذلك البيت العريق الذي يقع في حي جاردن سيتي بالقاهرة افراد عائلة "جورج بك بتركاني" جده لامه ذلك الرجل الذي لقب بملك الطربوش لامتلاكه مصنعا عظيما لصناعة الطرابيش، وهي عائلة مسيحية منحدرة من أصول سورية لبنانية. وبالرغم من ان تشارلز كان يعيش مع أمه" فيفيان" وابوه "سليم يارد" بهيليوبوليس الا ان بيت بتركاني هوالذي يحتل المكان الاكبر بذاكرته، حيث عاش في ذلك البيت اخواله ميشيل والكس وبول الذي يكره كثيرا كل ما هو عربي وخاله الاب اندريه الذي فضل الانضمام الي اليسوعيين وخالته لولا واولادها. ومن خلال قراءة تشارلز لمذكرات خاله، يلقي روبير سوليه الضوء علي أحداث هامة ومحورية في تاريخ مصر الحديث، ومن أهمها العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956 حيث انقسمت آراء عائلة جورج بتركاني حول هذه الاحداث، فكان استحقها ولكن سليم يارد ابو تشارلز أبدي انزعاجه مما يحدث حيث كان رأيه انه منذ الحروب الصليبية واي تدخل عسكري اوروبي يكون علي حساب مسيحيي الشرق. وتأخذنا مذكرات ميشيل الي احوال مصر الاجتماعية ايام حكم جمال عبد الناصر ، حيث تصف لنا الطابع البوليسي للنظام الحاكم الذي كان يتجلي يوما بعد يوم لدرجة ان افراد عائلة بتركاني كانوا يستخدمون لغات رمزية عند التحدث عن موضوعات حساسة خوفا من الرقابة الحكومية . وتقيم دينا اول ثلاثاء من كل شهر سهرة في بيت بتركاني بك حيث تستقبل مدعوين من شتي مجالات الحياة مما اتاح لتشارلز فرصة التعرف علي اشخاص كثيرة ومنهم "ياسا " الذي كان يعمل سائقا لجده جورج بك بتركاني ويشغل الان وظيفة جيدة بالمعهد الفرنسي للاثار الشرقية ، وجوزيه جوسلين عالم مصريات فرنسي يعمل ايضا بنفس المعهد ، وقد قضي تشارلز مع ياسا وجوسلين واعضاء فريق التنقيب عن الاثار اسبوعين في واحة الداخلة التي تبعد عن القاهرة بحوالي تسعمائة كيلومترا وكتب مقالا عما رأه وعاشه في تلك الواحة . هذة هي المرة الحادية اوالثانية عشر التي يزور فيها تشارلز مصر منذ ان قرر استئناف علاقته ببلده الاصلي ولكن لم تكن هذه المرة مثل بقية المرات السابقة حيث مرت ثمانية شهور فقط علي زيارته الاخيرة ولم تكن عادته ان يقوم بزيارتين متتاليتين في وقت متقارب ،فهناك مهمة حقيقية جاء من اجلها الي مصر ولكنه قرر عدم ذكرها لاحد وفكر في كذبة يذكرها لمن يسأله عن سبب زيارته وهي انه جاء ليجري بحثا عن عالم مصريات فرنسي يدعي " برنار برويار" حيث ان نتائج اعماله موجودة بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية. من خلال حوارها مع تشارلز اثناء الافطار او الغذاء، تكشف دينا عن التغير الذي حل بارض مصرحيث تعقد دينا مقارنة بين ما كانت عليه احياء مصر وشوارعها في الماضي وما هي عليه الان في الحاضر، وتتحدث عن المشكلات البيئية التي تعاني منها مصر مثل السحابة السوداء التي تجتاح مصر كل عام بسبب حرق الفلاحين لقش الارز الناتج عن حصاد محصول الأرز، ويواصل روسيه القاء الضوء علي المشكلات التي تعاني منها مصر وخاصة المشكلات المادية والاجتماعية متمثلة في شكاوي محمود الخادم لدينا حيث يشكولها سوء احوال رأي اسرته فهم ضحايا البطالة وارتفاع الاسعار وتعيش عائلة محمود بالمقابر حيث لا يجدون مكانا آدميا يعيشون فيه. لم تكن السهرة التي تقوم عليها أهم أحداث الرواية مثل بقية سهرات يوم الثلاثاء فكانت تلك السهرة هي السهرة الاخيرة التي تقام في بيت بتركاني. "لطفي سلامة" كان أول الحاضرين كعادته وهوأستاذ الأدب المقارن بجامعة القاهرة وتربطه علاقة قوية بدينا ، كما حضر السهرة جوسلين وزوجته الانجليزية بيتي . واستقبل تشارلز رفيق ناسيب وزوجته نادية حيث تربطه بهم علاقة قوية منذ سبع سنوات، رفيق رجل اعمال استطاع ان يحقق نجاحا عظيما في مجال الاستيراد والتصدير، ولكن لاحظ تشارلز انه ليس كعادته فسأله عن السبب فحكي له رفيق عن واقعة حيرته كثيرا حيث حضرت سكرتيرته الاسبوع الماضي الي المكتب مرتدية رداء اسود يغطيها بالكامل حيث انه لم يرَ منها إلا جزء من وجهها فظن في بداية الامر انها تمزح وطلب منها ان تخلعه واذا لم تفعل فمصيرها الطرد، ففوجئ بها تترك العمل دون حتي ان تسأل عن راتبها ، وابدي تعجبه ودهشته كيف قاتلت جدتهن السيدة هدي شعراوي لتحصل علي حقها في عدم ارتداء النقاب حتي تتيح للمرأة المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية ، وكيف الآن اغلبية النساء المسلمات ترتدين الحجاب واضاف انه يظن انه قريبا ستلجأ المسيحيات ايضا لارتدائه حتي لا يتعرضن للاهانة بالشوارع، جعل هذا الكلام تشارلز يفكر في الماضي حيث كان يعيش اليهود والمسلمون والاقباط واليونانيون الارثوذكس واليونانيون الكاثوليك والايطاليون والارمن والسوريون اللبنانيون معا جنبا الي جنب في مصر وكانت علاقاتهم قوية جدا ولكنها لم تتعد لتصل الي الزواج ، ويقول تشارلز لنفسه ولكن للاسف كلنا يونانيين وايطاليين وارمن وسوريين لبنانيين اجبرنا علي ترك مصر في بداية الستينيات بسبب احداث لا دخل لنا فيها حيث تغير المناخ منذ احداث السويس.
وأثناء السهرة اخذت دينا المدعوين الي حجرة تضم كل موديلات الطرابيش التي كان يصنعها حماها بمصنعه لمدة خمسة وثلاثين عاما حيث دارت مناقشة بينهم عن الطربوش الذي كان يعتبر رمزا قوميا وعن الغاءه بعد قيام الثورة. وحضرت السهرة ايضا "اميرة"وهي استاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة ،اعجب بها تشارلز كثيرا ودار بينه وبينها حوار طويل حيث حدثته عن نظام التعليم في مصر الذي يعد كارثة بكل المقاييس، وحدثته عن الدروس الخصوصية التي يعاني منها التلاميذ في المدارس واولياء امورهم ، وقالت له:" هذا البلد يختنق بين حمقي متزمتين يدخلون الدين في كل شئ وسلطة منهكة وفاسدة، نحن بحاجة الي عدالة اجتماعية وديموقراطية" قالت اميرة هذه الجملة بكل شجاعة وحماس. وبعد انتهاء السهرة ، كشفت دينا لتشارلز عن رغبتها في بيع البيت لحسن صبري ذلك الرجل الذي كان يعمل عمه خادما لجورج بك بتركاني ، يرأس الان جمعية 1919 وهي جمعية كرست لذكري احداث 1919التي أدت إلي استقلال مصر ، أراد شراء البيت ليكون متحفا حيث أن الطربوش كان علامة مميزة من علامات أحداث 1919 ، وافق تشارلز علي البيع حيث كانت المهمة الحقيقية التي جاء من اجلها الي مصر هي ابلاغ دينا برغبة افراد العائلة في بيع البيت . وفي صباح اليوم التالي جلس تشارلز مع دينا وحدثها عن مشاعره تجاه بلده قائلا:"في كل مرة اتيت فيها الي مصر جئت علي أمل ايجاد ما تبقي من الجنة المفقودة ،جئت باحثا عن كل ما تبقي من الماضي: النيل والصحراء والفكاهة واللطف والمرونة والرضا والايمان بالقضاء والقدر "مصر الخالدة ". بول ان جمال عبد الناصر يتلقي الضربات التي