1 تهدل الفم العجوز لعامل (التلغراف )، كان وجهه أسمر غامقاً، وعيناه متقدتين، سلمني بيد ه المرتعشة المعروقة -برقية تلغرافية، بها كلمات قليلة، منطوقها: .( احضر فوراً لأمر عاجل). 2 امتلأ سرادق عزاء أبي بالمعزين وقفوا أمامي، مدوا أيديهم بالعزاء، وأنا أتمتم بكلمات تنم عن حزن دفين: .( شكر الله سعيكم ). 3 بعد ما يقرب من شهر .سلمني نفس العجوز برقية تلغرافية .( احضر فوراً لأمر عاجل). فانتابني شعور بالدوار، ووجدتني لا استطيع تبين ملامح هذا العجوز الشؤم، وهو يقف أمامي.. كنت فقط أسمع تردد أنفاسه المتهدجة، ووقع خطوه الرتيب علي الدرج الرخامي الحلزونية"طقة. 4 كان المشهد يتأرجح بين الوهج والظلام، عندما استقبلتني أمي بوجهها الصبوح، وطوقني أخي وأختي بحضن دافئ، تنفست الصعداء، وقر هائجي وسكن.. 5 قالت لي أمي: ضابط المباحث بالمركز طلبك وأكد علي ذلك اليوم، لأمر هام، لا نعلمه 6 عند مدخل مركز الشرطة العتيق، بأبوابه ونوافذه وتنداته المائلة.. أحسست بشئ يجذبني إلي الأرض، ولكنني تماسكت، وقفت ساهماً أحملق في النباتات الشيطانية التي ملأت الطرقة الترابية، عندما تنامي إلي سمعي من ضابط المباحث أن الجثة الممزقة التي دفناها ( الشهر اللي فات )، ليست جثة أبي ولكنها تشبهها !!! 7 الليل ساكن، والقرية نائمة، والظلام..( يبرك عليها يُفطَّسها ولما شارفت علي مداخلها، ودروبها الثعبانية، كان الحشيش المتطفل يغطي التربة، وأكوام السباخ ترقد علي رأس الغيطان، رحت أحاول أن احدد مسارات الطريق واتجاهاته، وعلي ضوء المشاعل البعيدة، كنت أري عيون الأشباح تبرق في الظلام، كان الليل ينشر رواقه، ولفتني العاصفة الهوجاء، ولاح لي النخيل يُطوق بيوت القرية، والغبار الشديد قد حجب - أمامي الرؤية تماماً، ابتسمت في مرارة،لحظتها، وجدته أمامي، عند الساقية المهجورة القبلية، حملقت في هيئته، كان طيفاً لرجلٍ طاعن السن، يرفل في رداء ( كَستور ُمقلّم )، لحيته نابتة، يرقد علي رأسه المدبوغة فودين اشتعل الشيب فيهما، زاحمت الرؤية في عيني، لحظتها، كان الفجر يحاول أن يغسل بيوت الفلاحين بالنور، والليل ينسحب بنقيقه وصريره،أحسست بيده تقبض علي ذراعي فَّي حنوٍ، سرت في جسمي رعشة، أحاول أن أرتق ذاكرتي، ابتسمت في وجهه، وكدت أن أبكي، كنت أشعر بهواء رطب ينبعث من خلفي، ملامحه الساكنة في خطوط وجهه كانت تغير تشكيل صفحة سحنته إلي زوايا حادةة. نعم هو بشحمه ولحمه.. وجدت الدم يتدفق في عروقي من جديد، عندما طن صوته في أذني وهو يقرأ ما أخرجه من حقيبته الجلدية عليها قماشة بيضاوية متهدلة ك(بادج)، مدون عليها. ( مكتب تلغراف شُبرا ) ( احضر فوراً لأمر عاجل)