ثمة موادّ يقوم جوهرها علي تشويش تقاطيع أيّ شيء. فهي، فوق كونها جزءًا من مادة معزولة داخل أبعادها، قوّة بالفعل تجذب الأشياء كلها إلي النطاق نفسه، وتُجبِر العناصر والأشكال المحيطة علي أن تترابط وفقًا لِعلاقات جديدة. لا تستسلم لاختزالها إلي شبح: مثلما أن قوة المغناطيس تمتد حتي حدود حقل جاذبيتها، وتلتصق بالتالي بكل ما يمكن من المعادن، كذلك لا تُعرَّف هذه المواد المتناقضة من خلال شكل متميّز، بل بالأحري من خلال التحوُّل الذي تفرضه علي الأشياء الدائرة في فلك تأثيرها. أشكال الحبر في الرّقائم عند أدونيس مواد من هذه الطبيعة. فهي ليست محاولات شاعر جليل يتمرّن علي فنّ غريب عن فنّه. لأن في هذه الرّقائم كثيرًا من المُقطِّرات التي يخضع فيها الشعر نفسه لعملية تحوُّل جذرية. حيث إنّ الشعر المُمارَس، ضمن النطاق المستطيل لهذه الأوراق، في ما وراء وسائله، »خارج الكلمات، وخارج اللغة«، يفقد وجهه المعتاد، ويغدو وهجًا من توتُّرٍ لا يمكن أن نراه بالعين المجرَّدة. كلّ رقيمة من هذه الرّقائم، وكل حبرٍ فيها مغناطيس روحي يُجبِر المادةَ والدلالة، الكلمةَ والصورة، الرمزَ اللغويّ والزخرفةَ المرئية علي تعريف حقلٍ مغناطيسي من التأثير المتبادَل. إذ تكفُّ الخطوط، والبُقَع، والكلمات عن أن تكون هي ذاتها، وتُلقي طبائعها كما تُلقي أقنعة بالية، وتتحوّل إلي تدفُّقٍ، وخطوطِ توتُّر، وتكثُّفِ مجري يُحيي جُملةَ ما في العالَم من أشياء. بهذا المعني، لا تُظهِر هذه الرّقائم تمرُّنَ الفنّان علي نظام جمالي آخر: بل تدفع الفنَّ الشعري إلي ما وراء أية هوية يمكن اكتشافها. وكأنما الشعر يحتاج، كي يفهم ذاتَه، إلي أن يُهاجِر في دُكنةِ ما يجعله ممكنًا، في سواد الحبر، وضوء الورقة الخافت. ليست هذه الرّقائم روائعَ فنٍّ لا يملِك بعدُ اسمًا. بل هي أيضًا، وبوجه خاص، وثائق، وبرقيات عن هذا السفر في عمق القصيدة، هي خرائط ثمينة للنزول نحو أعماق كلّ صفحة مكتوبة باليد. 2 من المُمكِن القول إن فنَّ أدونيس يتّخذ في هذه الرّقائم مظهرًا جيولوجيًا: لم يعد الأمر متصلاً بتركيب كلمات في لحن القصيدة، بل بالتساؤل عن وجودها الفيزيائي، وعن الامتداد علي المادة التي تُكوِّنها، أي الحبر والورق. لكن هذا النزول إلي جحيم القصيدة يُغيِّر هيئة هذه الجواهر الفردة الأساسية وغايتها. إذ تكفّ الورقة عن أن تكون دعامة مادية وعارضة تمثيل أو تدوين: بل هي الفضاء الذي تنطمس فيه الحدود كافة، حيث يُصبح بياض الصفحة قوةً فعّالة من محوِ حدود الأشياء وتضاعيفها. إنها أولاً، وخصوصًا، محو الحدّ الذي يفصل فنًّا عن فنٍّ آخر. قد يبدو للوهلة الأولي أن المقصود إجراءٌ مُعتاد. فانطلاقًا من القصائد التشكيلية عند »سيمياس رودس« حتي قصائد »فونانس فورتينا« أو »رابان مور« ، ومن فن الخط الإسلامي حتي شعر الطليعيين التخطيطي، ومن القصائد التشكيلية عند أبولينير أو من طريقة الطباعة عند مالارميه حتي الشعر المرئي عند المستقبليين الإيطاليين، تكاثرت محاولات صهر الفضائي الصوتي في فضاء مرئي خالص. إذ تُصبح الكتابة في هذه المحاولات فنًّا من الفنون المرئية، وعلي العكس، ما يوضَع علي المِحَكّ إنّما هي قراءة المرئي المُتماثل مباشرة مع الرموز، كما توجد في لغة من اللغات. قد يتولّد هذا التعادل بتطبيق طرائق شديدة الاختلاف. يُمكن أن نتصرّف بالكتابة ونُشدّد علي المظهر التخطيطي للحروف، حتي نجعل تمييزه مستحيلاً: حينئذٍ تنصهر الصورة والحرف، لأن الحرف تنازل للرسم وللصورة بشكل كامل عن »حقوقه في الصورة«. الألفاظ تتكلّم، لكن من خلال شكلها المرئي، ومن خلال ألوانها، من خلال حيوية تركيبها، التخطيطية الخالصة، أكثر مما تتكلّم بدلالتها. فالحروف توجد قبل كل شيء بوصفها صُوَرًا: ويصبح المدلول الكيْفي المرتبط، في كل حرف، بالرمز، منيعًا، ويبدو الرسم التخطيطي مُنزلِقًا صوب شكلٍ زخرفي بحت. هذه هي حال فنِّ الخط، وخصوصًا في التقليد العربي: فلنُفكِّر باسم علي المُتضمَّن في لوحة إيرانية مشهورة من القرن الخامس عشر، محفوظة في متحف »توبكابّي« في اسطنبول ، حيث تُفكَّك عِصِيُّ الحروف التي تُكوِّن الكلمات، وركائزها، وقواعدها، ونقاطها، ويُعاد تركيبها