شيء مؤلم وموجع أن تعيش أمة بلا ذاكرة. نعم بكل أسف. ميراث يتغلغل داخلنا فنعجز عن ترتيب أي شيء؛ أوقاتنا، كتبنا، أعمالنا، أحلامنا. كل شيء متراكم ومكدس ومرحل إلي أجل غير مسمي. لا نتخلص مما لا نريد فلا يزعجنا اقتران الجمال بالقبح في أي شيء وكل شيء. منازلنا وبلكوناتنا مدكسة بما لا تطيق لا لشيء إلا لأننا لم نتعلم كيف نرمي ما لا نحتاج أو لنقل نعطيه لمن يحتاجه. كل شيء موكول للأفراد وحدهم. الأنظمة والمؤسسات خارج التاريخ والجغرافيا. وكل شيء يتم اكتشافه أو تحقيقه مصادفة. نسمع ونقرأ ونهلل مع المهللين أن العرب لم يكونوا بناة أهرامات أو قصور وإنما كان تراثهم ومصدر تميزهم "الكلمة" فصرنا أكثر شعوب الأرض كلامًا ومحصلة الأفعال صفرٌ مونديالي كبير. ومع ذلك تراثنا كله مشوب بالانتحال والسرقات ولم تقم مؤسسة واحدة يومًا ما بتنقيته أو حفظه. تتزيد القبائل في شعر شعرائها برشوة من يؤلفون لها القصائد كي تنسبها لنفسها فخرًا ومباهاة، حتي وصل الأمر للمقابر؛ نحصي الأعداد ونفاخر الآخرين بأن موتانا أكثر من موتاهم!! ألم يكن يكفي إزعاج الأحياء حتي نزعج الأموات ونقض مضاجعهم؟!!! نتجرأ علي الله ورسوله، ونتقول بما لا نعلم، ويصل الأمر ببائع الهريسة أن يصنع الأحاديث المكذوبة بسند ورواية وهميين "الهريسة تشد الظهر"!! نكفر القاصي والداني دون أن يغمض لنا جفن، بل إننا الأمة الوحيدة التي من استسهال الكفر كفرت الجوع "الجوع كافر". وهو تعبير لن تجد له مثيلا في أية لغة علي سطح هذا الكوكب. يري البعض أنَّ العرب في الجاهلية تركوا سبع معلقات طوالا، ويري آخرون أنها عشر طوال !! مئات المسائل النحوية التي لم يكن لنا بها بد لولا أن النحاة الأوائل أثقلوا كواهلنا بها إعجابًا وولعًا بالمنطق اليوناني لا أكثر ولا أقل. علي أية حال هذه كلها أفكار داهمتني وأنا أترجم بعض القصائد الكورية القديمة إلي العربية في الوقت الذي تذاع الأخبار تباعًا عمن يدمرون تراثنا الإنساني بشكل متعمد في شتي بقاع الوطن العربي، لكن الأكثر ألمًا أن يُدمر التراث دون أن نحس أو ندري. أعود لموضوع القصائد الكورية واسمها "شيجو" مكتوبة منذ ما يزيد علي خمسة قرون. وهي كلمة مكونة من مقطعين "شي- جو" ويعنيان "الوقت والإيقاع". فكيف احتفظت بها الذاكرة الكورية؟ سجل الكوريون كل شيء بدقة خلال آخر مملكة قبل الغزو الياباني عام 1910م؛ألا وهي مملكة جوصن. واحتفظوا بعدد (3600) قصيدة عثروا عليها علي هذا النمط. وهي قصائد كانت تغني وتنشد في المناسبات المختلفة. المهم هنا هو أنها ليست (3599) ولا (3601) ولم يجرؤ أحد علي التشكيك في هذا الرقم حتي يومنا هذا. الأهم هو أن عائلات "كيم" و"لي" و"سونج" و"هوانج" و"سون" و"بارك" ومئات العائلات العريقة هناك لم تتقاتل ولم تنتحل لتتزيد في شعر شعرائها، بل إن الأكثر إدهاشًا أن ملوكًا عظامًا لا تحتفظ لهم السجلات الأدبية بأكثر من قصيدة واحدة في حين بها عشرات ويزيد عن ذلك بكثير لكتاب وشعراء من عامة الشعب. و... "عمار يا كوريا" مدرس الأدب المقارن بآداب القاهرة