كان إبراهيمُ المازنيُّ يعتقدُ كما ذكرَ في (حصادِ الهشيم) أنَّ الشِّعرَ بصفتِهِ جنسًا أدبيًّا ينتمي إلي الدراما بما هي حركةٌ دءوبةٌ تصعدُ من نقطةٍ إلي التي تليها حتي تنتهي إلي غايتِها، وذلك وجهٌ يُبعِدُ الشِّعر عن اللوحة التشكيلية القائمةِ علي السكونِ وتثبيتِ الزمن .. طالما حاولَ الشعراءُ إحداثَ تماهٍ بين الشِّعر واللوحة، وكانت النتيجةُ غالبًا بحسب المازنيِّ كذلك سقوطًا حتميًّا في فخِّ الدراما، ربّما لأنَّ الشِّعر يصلُ تدريجيًّا إلي المتلقّي وليس دفعةً واحدةً كما يحدثُ في الفنونِ البصريةِ الساكنة. يفاجئنا (محمد إبراهيم يعقوب) منذ الأبيات الأولي في ديوانه بأنَّ الأمرَ ليسَ كما نظنّ .. أري أنّ (يعقوب) ينجحُ إلي درجةٍ بعيدةٍ في الاقتراب بالشِّعر من سكون اللوحة التشكيليةِ مُضَحِّيًا بحركيةِ الدراما .. ولنتأمَّل قولَهُ في القصيدةِ الافتتاحية (سِوَي اعترافِكَ بي): "شغفي بحرفِ الجيمِ إرثٌ من أبي/ كم في الأُبُوَّةِ من ضلالِ طيِّبِ .. شجرُ الكلامِ مكيدةٌ يا سيّدي/ والوقتُ كاللغةِ التي لم تُحطَبِ .. يا طينةَ المعني الخؤونِ أما ترَي/ مطرًا يَخِفُّ وفكرةً لم تُعشِبِ .. علِّقْ علي الفصلِ الأخيرِ مدينةً/ كانت تغنّي للفراغِ المُخصِبِ .. لا تقترحْ طقسًا يُطيلُ نهايتي/ أنا صيغةُ الرّكضِ التي لم تتعَبِ". صحيحٌ أنَّ صورةً كُلّيّةً تتخللُ هذه الأبياتَ وما بعدَها وهي تعتمدُ علي تشبيهِ حالةِ إنتاجِ المعني التي تستبطنُ الإبداعَ الشِّعريَّ بإنباتِ الزروعِ من الأرضِ لكنَّها صورةٌ شديدةُ التعقيدِ تروحُ وتجيءُ في اتجاهَي التشبيهِ دون سابقِ إنذارٍ، فالكلامُ شجرٌ يَكيدُ برَوعتِهِ لشاعرِنا فيعزمُ علي إنتاجِ شجرِهِ الخاصِّ، والوقتُ الذي يمثّل خلفيةً حتميةً لإنتاجِ المعني/الزَّرعِ كاللُّغةِ التي تشبهُ بدورِها غابةً بِكرًا لم تُحتَطَب، والمعني المراوغُ طينةٌ يُقرِّعُها (يعقوبُ) باللوم من طرفٍ خفيٍّ حين يصرّحُ بأنَّ المطرَ يخِفُّ والفكرةَ ظلّت بذرةً كامنةً في باطنِها ولم تُعشِبْ بما يكفي لأن تُفصِحَ عن مكنونِ نفسِ مَن خطرَت له .. ربَّما كان الوقتُ في نظرِ (يعقوب) لغةً بكرًا لم تُحتَطَبْ بعدُ لأنهُ يريدُ أن يملأهُ معانيَ تفصِحُ عن نفسِها في جُمَلٍ حُبلَياتٍ بالرموزِ والأفكارِ، ففعل هذا وكان كلُّ بيتٍ صورةً موغلةً في الهُجنَةِ والتركيبِ، حتي لم يدَعْ موضِعًا في وقتِ القصيدةِ يتّسِعُ لمعنيً آخرَ، فقتلَ هذا الوقتَ، ولا ننسي أنَّ الوقتَ هو خلفيةُ الدراما الحتميةُ، فلمّا ماتَ لم يعد من الممكن أن نقتفيَ أثرَ الحركةِ كما هو في الشِّعرِ خارجَ الديوانِ، فتحوّلت قصيدةُ (يعقوبَ) إلي لوحةٍ ساكنةٍ مليئةٍ بالتفاصيلِ، تُذَكّرُنا بدروس الرسمِ التي تلقَيناها في الصِّغَرِ، حين كانت المُعلّمةُ تُشَدِّدُ علي ألاّ نترُكَ مساحةً بيضاءَ في اللوحةِ وأن نملأها تفاصيلَ بقدرِ المستطاع .. هذا ما يحدثُ هُنا! وكأنَّ (يعقوبَ) يميلُ إلي حيلةٍ دفاعيّةٍ - لا واعيةٍ رُبَّما في قولِهِ: "لا تقترحْ طقسًا ...... لم تتعَبِ"، فهو يتوقعُ أن ينقُدَ أحدُهُم ابتعادَهُ بالشِّعرِ عن الحركيّةِ المعتادةِ التي تركنُ إليها النفسُ، فيردّ عليهِ بأنَّ هذه الحركيةَ ستكونُ طقسًا يؤجّلُ النهايةَ باستمرارِ تدفُّقِ القصيدةِ وهو ما لا يحدثُ هنا حيثُ البيتُ الأولُ كأنهُ موجودٌ مع البيتِ الأخيرِ في نفسِ اللحظة، ويردُّ عن نفسِهِ التهمةَ في ذاتِ الآنِ، فهو راكضٌ من زمانٍ ولم يتعَب، لكنّهُ الآنَ يريدُ للنهايةِ أن توجدَ أمامَ متلقّيهِ مع البدايةِ، ولذا جاءَ البيتُ الأخيرُ: "ساُمَرِّرُ الورَقَ العتيقَ، لَرُبَّما/ هذا البياضُ يقولُ ما لم أكتُبِ!" .. وكأن لا نهايةَ هناكَ لأنَّهُ ليس ثَمَّ بدايةٌ، وكلُّ ما في الأمرِ أن (يعقوبَ) يعترفُ في البيتِ الأخيرِ بأنَّهُ بذلَ ما في وُسعِهِ في (ملء المساحات البيضاء) ولكنَّ الورقَ مازالَ به الكثيرُ من البياضِ، فلعلَّ البياضَ يُفصِحُ عمّا يعتملُ بفكرِهِ أكثرَ ممّا تفعلُ الكتابة. يميلُ (يعقوبُ) في هذا الديوانِ إلي الأبحر الشِّعريةِ الطويلةِ، فمعظمُ القصائدِ جاءَ في البحرين البسيطِ والكاملِ بما يوفّر له مساحةً كبيرةً لتعشيق الصُّوَرِ وتركيبِها في البيتِ الواحدِ كما رأينا في الأبياتِ التي تمّ استعراضُها وكما نري في أبياتٍ مثل: "نخافُ من شُرفةٍ في الرُّوحِ مُشرَعَةٍ/ علي البُكاءِ، عيونٌ هذه الشُّرَفُ .. أنرتقي صخرةَ العِرفانِ؟ موجَعَةٌ/ ظلالُنا أم نري ما عنهُ ننجرِفُ؟ .. نضيءُ كالحُلمِ، نخفَي رُبّما انتبهَتْ/ غريزةُ الوقتِ، بعضُ الوقتِ يُقترَفُ" في قصيدة (خاتمةٌ لروحٍ مُتعَبَة)، ومثل: "يأسُو علي سِيرةِ الأعصابِ مصباحُ/ وتبعثُ الحُبَّ في الأرواحِ أرواحُ .. يا سيِّدَ البيدِ قُم في العُمرِ مُتَّسَعٌ .. واعبُرْ أغانِيكَ، هَمٌّ سوفَ يَنزاحُ" في قصيدة (عُد من تجلِّيك) .. وحين يُعرِضُ (يعقوب) عن هذه الأنساقِ الموسيقيةِ إلي أخري أقصَرَ كما في قصيدة (تفاصيلِ الذي يأتي) المَصوغةِ في مجزوءِ الوافرِ حيثُ يقولُ: "علي مَن لم يقِف في الصَّفِ أن لا يَدَّعي وَطَنا .. لِمَن غنَّيتَ؟ لا تَدري/ سبيلُ العارفينَ غِنا .. كمُفردةٍ بلا رئةٍ/ قضَتْ جُدرانُها شَجَنا"، وكما في قصيدةِ (كتابِ الطائرِ العبثيِّ) المصوغةِ في مجزوءِ الكاملِ حيثُ يقولُ: "تبًّا لميراثِ العُروشِ، لبِرِّهِ ولِغَصبِهِ .. وطنٌ بلا أحرارَ تغسِلُهُ انتفاضَةُ شَعبِهِ .. الجائعونَ لهم كلامٌ غيرُ ما نَهذي بهِ .. والقُوتُ خَصمُ الطيّبينَ تورَّطوا في حَربِهِ"، أقولُ حينَ يفعلُ هذا نجدُ الصُّوَرَ أبسطَ كثيرًا ، بل قد تتوارَي في تواضُعِ لتفسِحَ المكانَ لمعنيً (جماهيريٍّ) يَسهُلُ فيما أعتقِدُ تسرُّبُهُ إلي الذائقةِ الجمعيةِ باعتبارِهِ حكمةً تتجاوبُ وحاجةَ البُسَطاءِ إلي بعضِ الشِّعرِ، ولا أدَلَّ علي هذا الأمرِ من بيتِهِ: "علي من لم يقِف في الصفِّ أن لا يدّعي وطَنا". أخيرًا نصِلُ إلي القسم الأخيرِ من الديوانِ - وهو جمعٌ من قصائدِ البيتِ الواحدِ لكلٍّ منها اسمٌ سمّاهُ يعقوبُ (وَخَزاتٍ)، بعنوانٍ فرعيٍّ محتشدٍ بالتركيبِ الصُّورِيِّ، وهو (تُرَّهاتٌ نُسَمّي روائحَها مُتَّكأَ) .. من هذه القصائدِ شديدةِ القِصَرِ قولُهُ في (يقين): "آمنتُ بالصفحةِ البيضاءِ تغسِلُني/ من الخطايا، فكانت لذّتي ألَمي"، وفي (مَدَد): "بعيدونَ لا برزَخٌ لا صِراطُ/ أليسَ لهذا الغيابِ انفِراطُ؟" وفي (لُغة): "أُقايِضُ أخطائي بماذا؟ أنا أنا/ كأنّي علي بابِ الكلامِ أُضيءُ". هنا تتجلّي جماليّةُ البيتِ الواحدِ عند (يعقوبَ) وتثيرُ سؤالاً عن مشروعيةِ إدراجِ قصائده الأطولِ في الديوان كالقصيدة الافتتاحية (سِوَي اعترافِكَ بي) ضمنَ الشِّعرِ العربيِّ القائمِ علي وحدةِ البيتِ فيما قبلَ ثورةِ الرومانسيّين ومدرسةِ الديوان في مطلعِ القرن العشرين .. أعني أننا إذا حاوَلنا تبديلَ بيتٍ مكانَ بيتٍ في تلك القصيدةِ واطّرَدنا في هذه اللُّعبةِ التي مارسَها (العقّادُ) مع (شَوقيٍّ) في مرثيّته ل(مصطفي كامل)، فأظنُّ أننا سننجحُ إلي حدٍّ كبير .. وفي رأيي المتواضعِ أنَّ حلقةً مفرغةً من النسقِ الموسيقيِّ الطويلِ والمساحةِ الزمنيةِ الكبيرةِ بالتالي - والتي تُحَرِّضُ علي تعشيق الصُّوَر والإمعانِ في تركيبِها - هذه الحلقةُ كفيلةٌ بأن تجعلَ من البيتِ الشِّعريِّ وَحدةً للقصيدةِ العموديةِ قائمةً بذاتِها وفي غير حاجةٍ إلي ما يكملُها من فوقِها أو من تحتِها، ناهيكَ عن جَرْسِ القافيةِ الرّتيبِ الذي يختمُ البيتَ في شُعور المتلقّي، والّذي طالما أُشيرَ إليه في معرِضِ نَقدِ القصيدةِ العمودية. لا يسعُني في الختامِ إلاّ أن أُشِيدَ بالجهدِ الإبداعيِّ الذي بذله شاعرُنا وهو نجمُ برنامج (أميرالشعراء) في نسخته الثانية عام 2008 والّذي أقنعَنا من خلالِهِ بإمكانيةِ السيرِ خُطواتٍ كبيرةً في سبيلِ مقاربةِ الشِّعر للّوحة، وابتعادِهِ عن الدراما .. فالأمرُ فيما يبدو ليسَ كما كُنّا نظُنّ!