علاء الديب واحد من "كتاب الستينات" البارزين.لكننا حين نقرأ رواياته اليوم نجد بها طزاجة غير عادية تناسب الواقع الذي نعيشه حاليًا وليس قبل ما يدنو من نصف قرن من الزمان. فما الذي يجعل أدب علاء الديب حاضرًا بقوة في المشهد الروائي بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير التي لم تؤت ثمارها؟ ربما يساعدنا علي الفهم ما كتبه الروائي بنفسه كتصدير لطبعة مكتبة الأسرة المعنونة "ست روايات قصيرة"لعلاء الديب. يعطينا الديب الإجابة بنفسه في جملة مفتاحية: "في الثلاث روايات الأول تسيطر علي الأفق كله فاجعتينلم تفلح مباهج الدنيا كلهافي أن تجعلني أفارقها أو تفارقني للحظة واحدة:تالهزيمة العربية الكبري في 1967، واندحار الاشتراكية في الداخل والخارج وما مثله ذلك من اندحار لقيمة العدل والكرامة الإنسانية." فإذا ما استبدلنا هزيمة يونيو واندحار الاشتراكية بانتصار الثورة المضادة في استعادة الأرض المسلوبة من نظام مبارك، وجدنا النتيجة واحدة وهي "اندحار قيمة العدل والكرامة الإنسانية اللتين نادت بهما ثورة يناير. إن الإكليشيه "الفن مرآة المجتمع"، ينطبق أول ما ينطبق علي الإبداع الأدبي في الأجناس الأدبية المختلفة وما يتبعه من حركات نقدية.ونجد أن التحولات السياسية والاجتماعية الكبري يتبعها بالضرورة تحول في النزعات الأدبية مثلما حدث في آداب ما بعد الحربين العالميتين الأولي والثانية من تحول إلي الحداثة، ثم كخطوة إضافية نحو التشظي، إلي ما بعد الحداثة. ويبدو جليًا أن القاسم المشترك بين "لا أبطال" الروايات الثلاث محل الدراسة، "القاهرة" و"زهر الليمون" و"أيام وردية" كما في أعمال روائيين آخرين من "كتاب الستينات"هو مرورهم بأزمات وجودية حادةتعقبت التحولات الكبري التي حدثت في مصر بعد هزيمة يونيو 1967. تتعدد أسباب الهم إذن:تالسجن (كما في حالة الشيوعي عبد الخالق المسيري بطل "زهر الليمون")، الهزيمة، الانفتاح وتغير قيم الطبقة المتوسطة ولهاثها وراء المال، وحال المثقف المأزوم واحد يتيه في التساؤل الأبدي "هل سقط العدل والخير والحق والجمال" (تكوين، ص538)، ويتساءل: "لم يفهم أبدًا لماذا انتصر الانتهازيون والضباع في كل مكان. لماذا انزوي كل وجه نبيل وكل قيمة شريفة؟" (أيام وردية، ص189) إن بطل علاء الديب هو بطل مهزوم يرحب بالموت كفتحي في رواية "القاهرة" بعد أن قتل زوجته وطفلهما في أحشائها كي يتأكد من "أنني لم أترك أثرًا. . أن حياتي لن تلوث الجيل القادم. .توأن الدنيا لن تشهد فتحي آخر"(القاهرة ص71).هو بطل، أو لا بطل بالأحري، يري نفسه"إمكانية مهدرة ووقت ضائع" (زهر الليمون، ص 82)، ولا يستطيع أن يفعل شيئًا حيال ذاته سوي أن يراقب "نفسه الكبيرة الخاوية"(القاهرة، ص 53) ولا يستطيع شيئًا حيال الواقع المرير الذي يحياه بلت"كان مشغولًا بالفراغ الذي يسقط فيه" (القاهرة، ص53)، بينما يحاول عبثًا إيجاد"أي طريق. .توسط الصحراء" (القاهرة، ص41) فيفر أحيانًا إلي الخمور والحشيش ويلجأ أحيانًا أخري للتخلص من الحياة "لأن "روحه قد جفت" (زهر الليمون، ص 82). وعدم التواصل بين البطل والمحيطين به يعد تيمة متكررة في الروايات الثلاثة وهو ملمح آخر من ملامح الأزمات النفسية والوجودية التي مروا بها نجد البطل مسجونا داخل ذاته ولا يستطيع، وربما لا يريد، التواصل مع من حوله وهم بدورهم يفسرون تهذيبه علي أنه تكبر. ويختلط العام بالخاص فنجد فتحي بطل "القاهرة" يقتل المومس التي حملت منه فاضطرته للزواج منها، وعبد الخالق المسيري بطل "زهر الليمون" تتركه زوجته وحب حياته مني المصري فيهيم علي وجهه لفترة ثم يضطر لقبول الوظيفة الوحيدة المتاحة له في السويس لسابقة سجنه كشيوعي، بينما أمين الألفي تهجره زوجته بإيعاز من مديرتها وزميلاتها المحجبات فيعيش في "محارته الحميمة" ساعات ممتدة من الوحدة علي ذكري حبيبته، المرأة الحلم التي لا نعرف علي سبيل التحديد لم افترق عنها. ربما يكون منبع عدم التواصل هذا هو فقدان الثقة في كل شيء، بدءًا من النفس وقدرتها علي الفعل الإيجابي، ومرورًا بمثقفين آخرين خانوا، وانتهاءً بمؤسسات الدولة الفاشلة التي تهدر طاقات وتخشي أي تفكير منفتح. "ماذا يفعلون الآن سوي الدفاع عن تاريخ قديم. . ." (زهر الليمون، ص 157). فهناك نوع من المثقفين "الخائنين" مقبولون بالنسبة للبطل ك"الكذاب الملون المقبول" (زهر الليمون)، ونوع آخر غير مقبول إطلاقًا لأنه يدعي الشرف، بينما البطل يعرف حقيقته ويحتقره "وجد مقالة لزميل من السنوات القديمة. كان يرتدي مسوح الكهان الزاهدين. يقرأ الكلمات وكأنه يسمعها منه، كاذبة وملوثة" (زهر الليمون، ص 128). يدفع فقدان البراءة أبطال علاء الديب، الذين كانوا حالمين في بداية حياتهم، للانسحاب من الحياة في نهاية الأمر. ففتحي يطلب من القاضي القصاص منه وتخليصه من الحياة، بينما عبد الخالق المسيري يطمئن أخاه أستاذ الشريعة أنه "تاب الله علينا. . لا شيوعية ولا الشعر" (زهر الليمون، ص 151). أما أمين الألفي ف"هو قد خلع نفسه من السياسة، أو هي التي خلعته" (أيام وردية، ص90)، ف"استقر علي شطآن اللاجدوي" حيث "لا شيء يحدث، لا شيء يتغير" (أيام وردية، ص 189). وتتجلي بالقاهرة، كما بالسويس والمنصورة، هذه التحولات التي تطرأ علي الوطن فتقبح وجهه. "القاهرة صامتة لا تجيب. نوافذها موصدة غامضة، ترد الأيدي الممتدة نحوها في سؤال ورجاء. وهو يدب في طرقاتها في وهن، لا يسمع لخطواته وقع، وليس في روحه نشيد" (زهر الليمون، ص139). فيهرب منها اللابطل ويحن إليها، كحال كل من عبد الخالق المسيري وأمين الألفي، يزورها فلا يتحمل وطأة التحول الذي أصابها، ولا تزيده الرحلة العبثية إليها إلا وحدة وعزلة، بينما يرتاح الثاني لإحساسه أنه تخلص من الحنين إليها. "سافر ولم يسافر، لم يغادر نفسه، ولن يغادرها أبدًا (زهر الليمون، ص 122). بينما تبدو غربة فتحي في رواية "القاهرة" أشد لأنه أسير القاهرة لا يستطيع منها فكاكًا. فالقاهرة هي كل مصر، ورؤية التشوه الذي لحق بها بعد الانفتاح الاقتصادي وسفريات الخليج وظهور أحزمة العشوائيات حول المدن وإحلال القبح محل الجمال يزيد غربة الشخصيات المروي عنهم في الروايات الثلاث. وليس أدل من انشغال الديب بالقاهرة من عنونة أولي رواياته باسمها. ومن المثير أن نجد الراوي يتحدث عن ميدان التحرير بوصفه بمثابة القلب من القاهرة وبالتالي من مصر بكاملها. "إذا كان القلب خاويًا هكذا، فكيف تكون الأطراف" (زهر الليمون، ص166) فيبدو وكأن يستشرف الغيب فيري ميدان التحرير وقد أصبح قبلة نظر العالم بأكمله أثناء وبعد ثورة يناير. وتبدو التشوهات التي حاقت بالوطن بأكمله جلية واضحة في ميدان التحرير، فيتأسي الراوي لحال الوطن وحال نفسه، إذ يتوحدا في هذه اللحظة، هو والميدان: "كان الميدان بلا شك كأن يدا باطشة غليظة قد عبثت به [. . .] امتلأ الميدان بالسدود والجدران الخشبية وقد اعتلاه غبار ناعم يجعل الضوء ثقيلا كأنه ضوء الساعات الخانقة التي تسبق الغروب. حلت به وحدة ثقيلة، وغربة لا يعرف كيف يدفعها عن نفسه. ليست هذه هي الأماكن التي كان يقصدها، وليس هو الكائن الذي يعرفه" (زهر الليمون، ص166).