هل سيكون علي الشاعر محاولة اكتشاف ما جري في الحياة - بالأحري القبض علي أثرها فيه - بعد تجربة من الهزائم المتتالية كان من جيوشها: الأمل المفرط؟ هذا الاكتشاف يحتاج إلي قدر من الخمرة والسهر والتأمل والارتداد والإرباك والارتباك، سيحتاج إلي أربعة وثمانين نصا شعريا يضمها ديوان «الأيام ليست لنودعها» الصادر عن منشورات الجمل للشاعر عبده وازن. ابن الخيبات والانكسارات والتهميش عبده قيصر وازن الذي ولد في 1957 ببيروت، وصدر له الغابة المقفلة 1982 - العين والهواء 1985 - سبب آخر لليل 1986 - حديقة الحواس 1993 - أبواب النوم 1996 - سراج الفتنة 2000- لا يمكن قراءة ديوانه هذا بمعزل عن تجربته الحياتية التي وجد كل شيء فيها محطمًا، أما هو وجيله فهم مشردون مهمشون وهذا مدخل نصي لا مناسباتي؛ فما جري لا يفترق في قليلٍ أو كثير عن أي تناص تجده داخل الديوان - لذلك فإن ما قاله وازن في إحدي شهادته، جديرٌ بالتأمل؛ لأنه سيصير صديً لعالَم الديوان، أو سيكون الديوان صديً لعالم الانكسارات والتشظيات، ومن هذا العالم: «وجدت في اندلاع الحرب ما يشبه سقوط عالمٍ بكامله، عالم الصفاء الداخلي، عالم البهجة النقية، عالم الطمأنينة الحقة. ولم أستطع أن أعبِّر عن ذينك السقوط والانقطاع إلا في المواجهة والتمرد والعصيان».. وفرضيتي بجلاء: أننا أمام اعترافات ما بعد المواجهة والتمرد والعصيان. أول ما يواجه القارئ من إنتاج المؤلف هو العنوان، وهو من الناحية النحوية ثلاث جمل في جملة واحدة معنويا - ولهذا دلالته التي ستطالنا لاحقا - فالأيام مبتدأ وخبره جملة (كانت اسمية) نسخت ب (ليس) وهو فعل ناسخ (مغير لنوع الجملة ومعناها) سالبٌ - إذ هو ينفي ما قر سابقا دونه (الأيام لنودعها) واسم هذا الفعل ضمير مستتر عائد علي المبتدأ (ولنلحظ هذا البعد الجديد؛ الارتداد) ويأتي خبر ليس (لنودعها) وفيه من الارتداد (ها) ومن التسليم (التوديع) ومن التداخل الذي يدفع القارئ لإعادة النظر في نوع هذا التركيب؛ فهل هو جملة فعلية.. وهذا ما يظهر للوهلة الأولي؟ أم أنه كما يري النحويون المتمرسون مصدرًا مؤولا مؤلفًا من أن المضمرة بعد لام التعليل، أي إن النظر إلي هذه الجملة يمكن أن يكون هكذا: الأيام ليست لتوديعها منا.. ألا يترتب علي ما أنتجت القراءة النحوية للعنوان أننا أمام حالة من التداخل والتسليم والارتداد والإخفاء.. بكلمة: الاعتراف. لا يتوقف العنوان عن (الاعتراف) بآلياته التي أسلفنا؛ فعند النظر إلي المفردات التي تكون منها النص (الأيام - ليست - نودع) سنجد هذه الأسئلة - وتبدو أجوبتها - لماذا اختار الناص الأيام دون غيرها من المفردات الدالة علي الزمن؟ هل ثمة واشجة بين الأيام في العنوان وأيام العرب بدلالاتها ومنها: الحروب «يوم ذي قار» «يوم أحد»، والجولات يوم «تحلاق اللمم» والأحداث العظام؛ «يوم الفيل» و «يوم الهجرة»؟ ثم لماذا اختيار: «نودع» بما فيها من دلالات الفقد والحنين؟ إن بنية جملة العنوان تضعنا أمام ثلاثة معان، معني مرفوض (الآن) : الأيام لنودعها.. ومعني آنيٌّ: الأيام ليست لنودعها.. ومعني يستحدثه القارئ سؤالا: ولم الأيام إذن؟ وينتجه الناص بديوانه كاملاً. لا يفوتنا أن عنوان الديوان هو سطر شعري من قصيدة «أيام» ص 15، قام هذا السطر بتقسيم القصيدة إلي محورين؛ الأول لدفع التوهم الخاطئ عن الأيام: الأيام ليست لنعدها| كما راعٍ خرافه... والثاني لدفع التوهم وطرح البديل (الأيام لننظر إليها| تسقط مثل أوراق شجرة| ثم تتطاير في هواءٍ| لم يحن هبوبه.) إن قراءة قصيدة أيام تحديدًا يكشف لنا بجلاء ارتكان الناص لكوخ الاعتراف، وترك إحصاء المكاسب والمخاسر (الأيام ليست لنعدها| كما راعٍ خرافه) لأن العبرة ليست بالعدد والوجود ليس بالكم ولا بالمعرفة: (الصحراء تجهل كم تضم| من حبات رمل| السماء لا تذكر كم غيمة عبرت) ليس للأيام تدبير محكم فهي فقط تمر: (الأيام لا تعرف كيف تمضي| لا تعلم أين أصبحت| إنها تتوالي فقط| ليس كما يحلو لها) هنا يبلغ التوتر ذروته، والتشويق مداه فلم الأيام إذن؟ تلك التي لا حول لها ولا طول تسير وفق جبر في خيط العمر غير المرئي: (الخيط الخفي الذي ينتظمها| لم ينقطع مرة) وهنا يأتي السطر القاسم (الأيام ليست لنودعها) بما يأتي مع الوداع (ليست لنتحسر عليها) إن الأيام للتأمل، لا نملك سوي التأمل (الأيام لننظر إليها| تسقط مثل أوراق شجرة| ثم تتطاير في هواء| لم يحن هبوبه) هل وضع الناص نفسه علي كرسي ليتأمل حياته وهي تتأرجح مثل أوراق الشجر كما فعل توم هانكس في فورست جامب، أم استسلم إلي الخسارة، ولاذ بالحكمة كما فعل شوقي: سُنونٌ تُعادُ وَدَهرٌ يُعيد لَعَمرُكَ ما في اللَيالي جَديد أَضاءَ لِآدَمَ هَذا الهِلالُ فَكَيفَ تَقولُ الهِلالُ الوَليد إلي هذا ينعزل المرء ويصير مثل كتاب معتزل مفتوح بلا أرقام صفحات، وتبدو الأحداث والأشخاص عدمًا عابرًا بلا قيمة (عزلة ص17): الكتاب المفتوح علي الطاولة| لا تكسر عزلته نظرة. الأصابع التي قلبت صفحاته| لم يبق لها أثر. العينان اللتان مرتا فوق الحروف| لم تتركا ضوءًا. ربما طيف ينحني فوقه.. ٍربما روح تحلق من حوله إن قراءة هذا الأسطر علي النحو الطباعي السابق يقودنا إلي أن الكتاب في عزلته التي لا تكسرها (نظرة) ولا (تقليبة أصابع) ولا (مرور عينين) إن الكتاب/ الحياة/ القلب/ الأيام في انتظار (انحناء طيف) أو (تحلُق روح) دون هذين فالكتاب ضالعٌ في وجوده الزائف وعدميته القاتلة: الكتاب المفتوح| صفحاته بلا أرقام| علي الطاولة القديمة| يستلقي بهدوء| صمته لم يعتكر مرة. وحتي اللحظة الآنية فهي محض انتظار للطي والنسيان: «الصفحة المفتوحة الآن| سيطويها الهواء غدًا. تسير كل القصائد حتي ما يُظن أنه عام علي هذه الشاكلة: اعترافات بالهزيمة والعجز لأسبابٍ غير معلنة؛ فليس القدر هو ما يتحكم في مصائر الأبطال كما يجري في الملاحم الكبري، ليس الخطأ العظيم كما في المآسي.. ليس من موت.. ليس من حياة.. فقط: اعتراف. «قبل أن يغمضوا عيونهم للمرة الأخيرة» هكذا يختتم الناص نصه: «كأنهم نائمون» ص 51، فيما يفتتحه بقوله: «إنهم نائمون» وهذا يضعنا أمام سؤال: ما الحقيقة هنا؟ هل هم نائمون.. أو في طريقهم للنوم.. أو في طريقهم للموت؟ هذا الإرباك تصنعه عتبة النص الثانية: الحاشية الجانبية (إلي أطفال فلسطين وسورية) فلم ضم الناص أطفال (فلسطين) وهؤلاء يقتلهم الاحتلال الصهيوني، إلي أطفال سورية الذين يفتك بهم من جهات عربية: النظام السوري ومعارضوه ومن استقدمه الطرفان.. هنا تفرج لك العتبة الثانية قليلا بما يكفي لتخمن: إنه الاعتراف بالعجز أمام العبث الذي يستهلك المستقبل ويقتات بقتل الأمل، علي أن قراءة النص ستدخلك في ارتباك جديد:» ملاك الموت فاجأهم في غفلة من الضوء| لم تكن لديهم بضع ثوانٍ| لينهضوا ويغسلوا وجوههم| ليشربوا كوب حليب» فلا قاتل هناك بشكل مباشر، وإنما مشاهد لأطفال يستعدون للنوم أو لليقظة، يداعبون النجوم.. لكن يحرسهم ملاك (أرجواني جريح) عجز عن حماية نفسه.. إن براءتهم تنتظر الأم دفئًا وحماية وسكنًا وأملا، لكن الموت يخطفهم دون أن يشعروا به..: «وجوههم أعذب من ماء الجنة| عيونهم علي نصف إغماضة| لكنهم يحدقون في نجمة أبصروها البارحة| قبل أن يغمضوا عيونهم لمرة أخيرة» لكن المعترف يقرر في لحظة ما أن يتوقف عن اعترافه، أن يخفيه، أن يحاول التعلق بأستار المقاومة تري ذلك في الإهداء: «إلي الشاعر| أنسي الحاج| الساطع بحضوره أبدًا» وتري ذلك في نصوص تعد علي أصابع اليد، أختار منها :»النائمة» فهذا النص كالإهداء الذي فاجأنا بالسطوع دلالة علي القدرة والإرادة والمقاومة.. فالنص علي غير عادة نصوص الديوان؛ فهو أطول النصوص 22 صفحة في مقابل متوسط ثلاث صفحات، فلماذا آثر الناص أن يتخلي عن منهجه؛ نصوص قصيرة ذات راوٍ بين السكر والإفاقة وإن كان هذا وتلك لا يؤثران فيه يغلب عليها التسليم بما جري وبما سيتلو؟ هل تكفي هذه الأسئلة؟ بالطبع لا؛ فثمة علاقة تستدعيها المفردة المركزية للنص: «الجميلة» هذه العلاقة بين أنسي الحاج ونصه: «الرسولة بشعرها الطويلة» تحديدًا مفردة: «الرسولة» التي تعد انحرافًا بامتياز؛ فمن ناحية الشرع لدينا رسول ونبي، ومن ناحية اللغة يستوي المذكر والمؤنث في صيغة فعول: «عجوز» نموذجًا.. لكن الانحراف هنا جاء للتفرد.. أما لدي وازن فقد اختار مفردة تنفرد بها الأنثي، ولا يجوز وصف الرجل بها، وقد عد النقاد وصف الخنساء لأخيها بالجميل مثلبة، وادعي رواة أنها قالت «الجريء»، وتأول البعض بأنها قصدت جمال الفعال في قولها: أعينيّ جودا ولا تجمُدا ألا تبكيانِ الجريءَ الجميلَ ألا تبكيانِ لصخرِ النّدي ؟ ألا تبكيانِ الفَتي السيّدا؟ لكن مقارنة عنوان القصيدة مع عناوين قصائد الديوان - بعلاماته النحوية؛ (وصف - لمؤنث -معرف بأل) يكشف لنا بهذا واحد من ثلاثة (الساهرة الحالمة النائمة)، وعند قراءة النصوص، ومحاولة كشف لا إيجاد العلاقة بينها نجد أن الساهرة - الواقفة علي النافذة - تنتظر غير عابئة بما سيجري من الانتظار، كأنها بنلوب في الأوديسة (97)، وعندما تحلم فإنها لا تغادر كنبتها الزرقاء كالسماء الصافية (ص136)، أما النائمة فهي مرثية تليق بفاتنه، مرثية تليق بعاشق تأخر كثيرًا.. إنه الآن مشدوه بما جري.. تنثال منه الكلمات اعتذارًا ومقاومة وأسي وشجنًا: الجميلة النائمة التي ستظل جميلة نائمة التي ستظل جميلة التي ستظل نائمة. ليس من تلاعب لغوي.. إنما هو تدرج في الاعتراف: الجملة الأولي «الجميلة النائمة» غاب عنها مبتدؤها:( هذه تلك) أو فعلها (أري رأيت) فمع الحذف يصح الذكر بما تؤرجحه حالة القارئ، فيما ينشغل الناص بجميلته دون أن يحمل عبء وجوده هو؛ أو حتي إخباره لنا بمكان وجوده؛ فلو قال: هذه. لعلمنا أنه بجوار التي انتظرته حتي سقطت في مهوي الأربعين. الجملة الثانية: «التي ستظل جميلة نائمة» إنها التحدي، أو الإنكار، فيما تأتي الثالثة محاولة للإمساك بما قد يروح: «التي ستظل جميلة» فيما تأتي الرابعة حالة وسطًا بين الإنكار والاعتراف: «التي ستظل نائمة». نحن إذن أمام نص واحد وإن تعددت أجزاؤه، إنها رحلة أوديسوس هذا الزمان، أوديسوس الذي لم ينتصر في معركة، لم يحركه القدر، لم تغضب عليه الآلهة، واجه وقاوم وتمرد.. أما الآن فإنه لم يكلف نفسه عبء البحث عن سببٍ لما جري، أو ما يجري، أو ما سيجري، فقط يقدم اعترافه بأن الأيام ليست لنودعها.