كان اسمه محمود وكان يشغل منصباً رفيعاً في حكومة بلاده .. ذات شتاء انتعل الرجل سيارة الوزارة صباحاً من بيته وطلب من السائق العجوز أن يقوده إلي مصلحة الشهر العقاري وهي الجهة التي تتولي توثيق البيانات الشخصية للأفراد من تسجيل المواليد والوفيات والأملاك الخاصة والعامة والإرث وخلافه. قصد الموظف المسئول وطلب نماذج خاصة بالوراثة وتغيير الأسماء.. ملأ البيانات للنموذجين وسجل في الأول نقل ملكية البيت الذي يقطنه ومعاشه التقاعدي باسم قرينته وابنتيه وسجل في الأخري تغيير اسمه من محمود إلي حبشي .. خرج بعد إنجاز المهمة المثيرة للدهشة وتوجه إلي مكتبه حيث طلب التقاعد المبكر وودع مرؤوسيه وعاد إلي البيت حيث خلع البدلة والحذاء والذي كان يعدهما بمثابة القيد وارتدي ثوباً طويلاً في لون القطن ووضع عمامة صغيرة الحجم وسلم زوجته وكريمتيه أوراق ملكية البيت والحق في المعاش وغادر راجلاً إلي جبل أجرد قريب يستقر في أحد أطرافه ضريح سلطان العشاق الشاعر الصوفي "عمر بن الفارض". اختار الرجل مساحة في ركن الضريح طولها متران وعرضها متر واحد تطل علي زقاق يكتظ بالمشاة حيث أقام منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي. كان أثاث هذه المساحة عبارة عن فراش من القماش محشو بالقطن ووسادة من المادة نفسها ومسمارين يعلق عليهما عمامته البيضاء وعصاه وستارة من ثوب قديم تحجب تلصص الفضوليين. كان نحيلاً حنطي اللون أميل إلي القصر لايكاد يميزه شيء سوي ابتسامته التي تغدق حين يشرعها حدائق من الفتنة الأسرة وسهوباً من طمأنينة توشك وأنت تستقبلها أن تطوح بيديك مبعداً غيمة افتراضية من فراشات وعصافير متخطياً بحذر حباحب ترسل ضوء شفيفاً يتوغل عميقاً حيث يلوذ القلب بارتعاشاته الواجفة.. كان صديقي.. كان هذا الكائن صديقي وكنت أحرص كلما كنت في زيارة إلي بلاده علي الذهاب إلي مرسم الفنان محمد شهدي كل ثلاثاء في أحد الأحياء الشعبية العريقة للالتقاء به. كان يهبط من مقره في الجبل الأجرد إلي المدينة الصاخبة عصر الثلاثاء للقاء حزمة من نبض العرق من شعراء وكتاب وفنانين ومهمشين يبادلهم النكات والرقص والغناء.. يقاسمهم الحكايات ومؤنة الشهر حتي ينتصف الليل فيغادر في خفة أقرب إلي طراوة الندي راجلاً صوب الضريح المزدحم بالوجد. كان يصنع مراوح من سعف مهمل يبيعها مرتين في الشهر تكفيه لشراء أرغفة الخبز ونصف لتر من الزيت ورطلين من الطماطم والخيار وحين يكون ذلك في وسعه يشتري قدراً من الحليب وحبات من التمر. يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ولا يتوقف عن قراءته ويعرف عن الإنجيل والتوراة مالا يعرفه أصحابهما إضافة إلي تفاصيل عن بوذا وكونفشيوس وبيل جيتس .. يحب الله والناس وفلسطين ويعتنق الأسئلة البسيطة والضحك يهز رأسه وهو يستقبل فكرة تروقه أو قصيدة أو أغنية أو حكاية أو نكتة يميناً ويساراً ويهتف عالياً :ياكريم.. قال لي الفنان محمد شهدي أن عم حبشي طلب وهو يرحل إلي الكريم قبل عام تقريباً أن يبلغوني محبته ودعاءه. يحكي من شارك في الجنازة أن مطراً خفيفاً هطل في غير أوانه، وأن أعشاباً طرية نبتت في أيدي المشيعين.