زيارة مهمة من وفد جامعة الدفاع الوطني الباكستانية ل مشيخة الأزهر    أوقاف شمال سيناء تعقد برنامج البناء الثقافي للأئمة والواعظات    بيانات سوق العمل الأمريكية تهبط بالدولار .. و«الإسترليني» يتعافى    مدير مركز مصر لريادة الأعمال تؤكد أهمية الاستثمار في التعليم والصحة    بنك التعمير والإسكان يحصد 5 جوائز عالمية في مجال قروض الشركات والتمويلات المشتركة    «الأونروا»: الأوضاع في رفح الفلسطينية تزداد مأساوية وقتامة يومًا بعد يوم    منظمة العفو الدولية: الحكومات التي تمد إسرائيل بالسلاح تنتهك اتفاقية الإبادة    البيت الأبيض: سيتعين على بايدن اتخاذ قرارات بشأن شحنات الأسلحة إلى إسرائيل إذا اجتاحت رفح    أحمد الطاهري: المفاوض المصري يعمل على تقريب وجهات النظر لوقف الحرب    قرار لا رجعة.. سلوفينيا تعتزم المصادقة على قرار الاعتراف بدولة فلسطين    الإسماعيلي يفلت من كمين الداخلية بهدف في الوقت القاتل بالدوري المصري    تشكيل النصر أمام الأخدود.. رونالدو يقود الهجوم    أمينة عرفي تتأهل إلى الدور الثاني من بطولة العالم للاسكواش    لطلاب الشهادة الإعدادية بالدقهلية.. عرض النماذج الاسترشادية للامتحانات    إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم على طريق جمصة- المنصورة بالدقهلية    أحمد العوضى يحسم الجدل: طلاقى من ياسمين هو انتهاء نصيب وليس انتهاء حب    روبي تتصدر ترند X قبل 24 ساعة من إصدار «الليلة حلوة»    البيت الأبيض: حماس تعانى الآن خسائر بشرية ومادية أكثر من أى وقت مضى    خالد الجندي ب"لعلهم يفقهون": أركان الإسلام ليست خمس فقط    أمين الفتوى: «مطالب الزوجة الزيادة تجعل الزوج ضعيف الإيمان مرتشيًا» (فيديو)    "الخارجية" تستضيف جلسة مباحثات موسعة مع وزير الهجرة واللجوء اليوناني    تفاصيل مشروع تطوير عواصم المحافظات برأس البر.. وحدات سكنية كاملة التشطيب    «الهجرة» تكشف عن «صندوق طوارئ» لخدمة المصريين بالخارج في المواقف الصعبة    مصطفى غريب يتسبب في إغلاق ميدان الإسماعيلية بسبب فيلم المستريحة    "فاصل من اللحظات اللذيذة" يتجاوز حاجز ال 49 مليون جنيه إيرادات    لمواليد برج العقرب والسرطان والحوت.. توقعات الأسبوع الثاني من مايو لأصحاب الأبراج المائية    30 مايو الحكم على حسين الشحات في التعدي علي لاعب نادي بيراميدز    مصرع سائق في انقلاب سيارتين نقل على الصحراوي الشرقي بسوهاج    هل من زار قبر أبويه يوم الجمعة غُفر له وكُتب بارا؟.. الإفتاء تجيب    رئيس الوزراء يتابع جهود إنشاء مركز جوستاف روسي لعلاج الأورام فى مصر    متحور كورونا الجديد «FLiRT» يرفع شعار «الجميع في خطر».. وهذه الفئات الأكثر عرضة للإصابة    وزير الصحة يشهد فعاليات المؤتمر العلمي السنوي لهيئة المستشفيات التعليمية    فصائل عراقية: قصفنا هدفا حيويا في إيلات بواسطة طائرتين مسيرتين    محافظ الشرقية: الحرف اليدوية لها أهمية كبيرة في التراث المصري    مساعد وزير الصحة: تسليم 20 مستشفى نهائيا خلال العام الحالي    قوات الدفاع الشعبى تنظم ندوات ولقاءات توعية وزيارات ميدانية للمشروعات لطلبة المدارس والجامعات    بعد قرار سحبه من أسواقها| بيان مهم للحكومة المغربية بشأن لقاح أسترازينيكا    على معلول يحسم مصير بلعيد وعطية الله في الأهلي (خاص)    نشرة «المصرى اليوم» من الإسكندرية: تأجيل محاكمة المتهمين بأحداث سيدي براني وسموحة يصطدم ب«زد»    بعد ظهورها مع إسعاد يونس.. ياسمين عبد العزيز تعلق على تصدرها للتريند في 6 دول عربية    "الخشت" يستعرض زيادة التعاون بين جامعتي القاهرة والشارقة في المجالات البحثية والتعليمية    وزير الصحة: دور القطاع الخاص مهم للمساهمة في تقديم الخدمات الطبية    حكم هدي التمتع إذا خرج الحاج من مكة بعد انتهاء مناسك العمرة    محافظ الغربية يوجه بتسريع وتيرة العمل في المشروعات الجارية ومراعاة معايير الجودة    "العمل": تحرير عقود توظيف لذوي الهمم بأحد أكبر مستشفيات الإسكندرية - صور    تأجيل محاكمة المتهمين في قضية فساد التموين ل 8 يوليو    وزيرة التضامن تشهد انطلاق الدورة الثانية في الجوانب القانونية لأعمال الضبطية القضائية    السيسي يستقبل رئيس وزراء الأردن    مستشفى العباسية.. قرار عاجل بشأن المتهم بإنهاء حياة جانيت مدينة نصر    القبض على المتهمين بغسيل أموال ب 20 مليون جنيه    21 مليون جنيه.. حصيلة قضايا الإتجار بالعملة خلال 24 ساعة    دفاع حسين الشحات يطالب بوقف دعوى اتهامه بالتعدي على الشيبي    جهاد جريشة يطمئن الزمالك بشأن حكام نهائي الكونفدرالية أمام نهضة بركان    معدل التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية يسجل 31.8% في أبريل الماضي    مصدر عسكري: يجب على إسرائيل أن تعيد النظر في خططها العسكرية برفح بعد تصريحات بايدن    اليوم.. وزير الشباب والرياضة يحل ضيفًا على «بوابة أخبار اليوم»    دعاء الامتحانات مستجاب ومستحب.. «رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري»    تامر حسني يقدم العزاء ل كريم عبدالعزيز في وفاة والدته    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرجل الذي يركن إلي الدعة بعد الهجوم عليه يقوي قلب العدو
ثقافة الحدود المصرية وأبعادها والأنثروبولوجية (4)
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 02 - 2015

لا ينبغي ونحن نتحرك علي الحدود أن نتعامل معها بشكل متحفي ، أو كعابري سبيل يشيرون بأصابعهم وهم يمصمصون الشفاه ، أو للتخلص من عقدة الذنب تجاه إهمالها، فالحدود ليس محض خطوط وهمية تفصل بين دولتين أو محافظتين، لكنها تقبل وتمنع، تستقبل وتصدر، تقوم بالفرز والانتقاء وتنتخب ما يتسق مع تطورها، وقد ترغم علي قبول عناصر وافدة نتيجة قوة العناصر الواردة، والقوة تشير هنا إلي مرتكزات ثقافية تعتمد عليها الثقافة الوافدة في وقت قد تعاني ثقافة المقر من الضعف نتيجة العزلة أو لحاجات اقتصادية تجعلها تساير ما يرد عليها من عناصر فتحاول تطويع ما تستطيع تطويعه والرضوخ لعناصر أخري تلح علي وجودها بحكم التواتر وبحكم ترسيخ الميديا لأهمية وجودها، ويمكننا تأمل بعض هذه المراوحات النظرية من خلال التعريج علي بعض مناطق الحدود المصرية ومنها مجتمعات حلايب أبو رماد الشلاتين، وقد آثرنا أن نرتبها علي هذا النحو بشكل جغرافي عكس ما يتواتر في معظم الكتابات، فهل ما تزال هذه المجتمعات قابضة علي جمر ما ورثته من عادات وتقاليد أم أن تغيرا قد حدث نتيجة علاقات الاتصال المستمرة مع ثقافات أخري، وما هي عناصر الثبات التي تحفظ لهذه المجتمعات تماسكها وما الذي حدث من تغير لهذه المجتمعات .
قبائل البجا وظلالها التاريخية
تنتمي القبائل التي تستوطن المنطقة إلي قبيلة / أم تسمي "البجا" بكسر الباء، وهذا تطور حديث، فقد كان المتقدمون من الكُتَّاب كالمسعودي، وابن سليم الأسواني، والمقريزي يكتبون الاسم بضم الباء، وبعدها ألف وهاء "البجاه"، وقد جاءت علي هذه الشاكلة كتابة في بدائع الزهور لابن إياس ، كما ترددت بأكثر من صورة في معجم البلدان، فمرة البجاه، وأخري البجة، وثالثة البجاء . وفي صبح الأعشي " ومن الشرق بحر القلزم مما يقابل بلاد اليمن والأمكنة المجهولة الحال شرقي بلاد الزنج في جنوبي البحر الهندي، ومن الشمال البراري الممتدة فيما بين الديار المصرية وأرض برقة وبلاد البربر من جنوبي المغرب إلي البحر المحيط والمشهور منها ست مماليك ؛ المملكة الأولي بلاد البجا، والبجا بضم الباء الموحدة وفتح الجيم وألف في الآخر، وهم من أصفي السودان لونا، قال ابن سعيد وهم مسلمون ونصاري وأصحاب أوثان، وهناك بعض الدراسات التي تعتمد علي التواتر دون ذكر أية مراجع أو مصادر، علي الرغم من الوثوقية التي تحتل جزءا كبيرا من خطابها، كاستخدام صيغ تبدأ ب "يقال"، ثم يتبعها ب "في الغالب"، ويختتمها ب "والمقطوع به" دون ثبت يؤكد علي هذه الثقة، من هذه الكتابات ما ورد في كتاب شريعة الصحراء للواء رفعت الجوهري، 1961 يقول مؤلفه "ويقال لهم البجاه، أو البجه، وهم في بادية الصحراء بين النيل والبحر الأحمر، وهم من بقايا الشعوب التي تألفت منها مملكة أثيوبيا القديمة"، ويكمل "وفي الغالب أنهم من سلالة أولاد كوش بن حام الذين هاجروا إلي السودان بعد الطوفان"، إلي أن ينتهي إلي "والمقطوع به أنهم من سلالة غير سلالة السود، وأنهم أقدم شعوب إفريقيا، ولم ينشأوا فيها، بل هاجروا إليها من آسيا عن طريق البحر الأحمر من عهد بعيد".
وفي اللسان : بجا بجا بجاء، قبيلة، و البَجاوِيَّاتُ من النوق منسوبة إليها، قال ابن بري، قال الرَّبَعِيُّ : البجاويات منسوبة إلي بجاوة قبيلة يطاردون عليها، كما يطارد علي الخيل قال، وذكر القزاز بجاوة وبجاوة بالضم والكسر، ولم يذكر الفتح، وفي شعر الطرمّاح بجاوية بضم الباء منسوب إلي بجاوة موضع من بلاد النوبة، وهو
" بجاوية لم تستدر حول مثبر
ولم يَتَخَوَّنْ درَّها ضَبُ آفن "
"إن مزا أو مجا التي جاء ذكرها في النقوش ( يقصد النقوش المصرية القديمة )، هي بلاد يسكنها قوم من البدو الرحل ويحتمل أنها تقابل قبيلة بجا الحالية " موسوعة مصر القديمة، سليم حسن، الجزء العاشر(تاريخ السودان المقارن إلي أوائل عهد بيعنخي)، ويبدو أن الاسم قديم، إذ إن شعب البجا كان معروفاً للمصريين القدماء باسم الماروي أو الماجوي، ويبدو أنه قد تم في تطور لغوي لاحق إبدال الميم بالباء، وهو أمر ليس غريبا في اللغات السامية، كما هي الحال في مكة و بكة (تاريخ القبائل المصرية، لواء : صلاح الشايب)، وكلمة البجا التي اشتقت من "البجاوي" بعد الإبدال معناها في الفرعونية الحارس أو المحارب، وقد اكتسبت قبائل البجا هذه الصفات المتعلقة بالقوة من خلال استعانة المصريين القدماء بهم في أعمال الحرب وحراسة حدود الصحراء (الشعوب والسلالات الإفريقية، د. محمد عوض محمد) ففي الحملة التي قام بها بيبي الأول علي بدو سيناء نجد أن الجيش الذي كان يقوده "وني" أحد كبار الموظفين الذي عاصر ملوكا كثيرين ابتداء من الملك "تيتي" و قد دفن في "العرابة"، لمحاربة بدو سيناء يحتوي علي فيالق من الأقاليم، أو القبائل التي تقطن المنطقة الجنوبية والشرقية لمصر وضمنها البجا بطبيعة الحال (موسوعة مصر القديمة، سليم حسن، الجزء العاشر) كما استعان بهم رمسيس الثاني في حربه ضد الهكسوس نظراً لمهارتهم وقوتهم، وبعد إحراز النصر أطلق عليهم اسم "ماجو"، وقد مجدهم بأن نقش صورهم بجواره في الحرب، واللوحات الموجودة بمعبد إدفو شاهدة علي ذلك (تاريخ القبائل المصرية، مرجع سابق)، ومما يؤكد هذه العلاقة المتواصلة بين المصريين وقبائل البجا أن الملك بيبي الأول قد أصدر منشورا يخاطب فيه رئيس المترجمين "للمجا" و هو ما يشير إلي حد ما إلي أنهم كانوا يخضعون لسلطان القضاء المصري (موسوعة مصر القديمة)، كما يعكس وجود أحد المترجمين في هذا العهد دلالة مهمة، وهي احتفاظ هذه القبائل بلغتها بما لها من خصوصية، كما يعكس أيضا دلالة أكثر أهمية وهي احترام القدماء المصريين للغات الهامشية التي تخالف لغتهم في أجروميتها . (يوميات باحثة مصرية في حلايب) ويقال إن اسمهم قبل "البجا" كان "البليمين". وتعد قبائل البجا من الجنس الحامي الذي عبر البحر الأحمر من آسيا إلي إفريقية، وهم غالبا من سلالة أولاد كوش بن حام الذي هاجروا للسودان بعد الطوفان، وقبائل البجا تعيش في الصحراء الشرقية علي امتدادها في مصر والسودان منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد (موسوعة مصر القديمة) وتدل البراهين علي أن موقع بلاد "مزاو" (مجاو) في عهد ختام الأسرة السادسة كان يقع شمالي الشلال الثاني، ومن المشكوك فيه كثيراً أنها كانت تمتد وراء ذلك الإقليم المصري الصغير وكانت تعيش علي صيد الحيوانات التي كان يموج بها موطنها، وعندما اكتشف الفراعنة الذهب استعانوا بهم في استخراجه، و" منذ العهد العتيق، أو بعبارة أدق منذ عهد ما قبل الأسرات عندما ظهرت لأول مرة مساكن الفالحين للأرض في وادي النيل، أخذ المصريون يوطدون التجارة و العلاقات الثقافية مع الأقوام و القبائل المجاورة، يؤكد ذلك أنواع المواد المختلفة التي جلبت إلي مصر و بخاصة الذهب والعاج والنحاس، فقد تسلم المصريون الذهب من الصحراء الشرقية الواقعة بين النيل والبحر الأحمر . وكانوا يجلبونه غالبا من الجزء الجنوبي من هذا الإقليم الواقع جنوبي طريق قفط القصير . و الواقع أن المركز الرئيس علي أية حال هو المنطقة الواقعة علي الحدود الجنوبية لمصر، و قد اجتهد المصريون في اختراق مجاهل هذه الأقاليم و إيجاد روابط تجارية مع القبائل المتوطنة هناك"( موسوعة مصر القديمة) لقد عاشت قبائل البجا، تقدس إيزيس وأوزوريس، كما كانت تزور معبد فيلة، وتحمل معها تمثال إيزيس، كيما تبارك لهم الحياة، بعدها أقامت البجا لنفسها معبداً خاصاً في جزيرة "بجه" المواجهة لجزيرة فيلة بأسوان كما نزل الكهنة لموطن البجا لإقامة الشعائر الخاصة بالإله "آتون" ومن هنا تعلمت البجا اللغة المصرية (تاريخ القبائل المصرية)، وقد قويت العلاقة بين الفراعنة والصحراء، وسكانها، ومن سواحلها خرجت أساطيل حتشبسوت لبلاد بنط، وخرج الإله "منتو" إله الحرب الذي اتخذ له مقراً في وادي الحمامات، وآخر بوادي العلاقي الذي كان يتمتع بسحر خاص وقداسة لدي الفراعنة،
وفي ذكر ابن إياس لملوك الديار المصرية في أول الزمان يقول : "إنه بعد أن مات خصليم تولي من بعده ابنه فقال، وكان عالما بعلوم الطلسمات والسحر، وقيل إنه عمل سردابا تحت النيل ينتهي في بلاد الصعيد، ولما هلك تولي ابنه شهلوق، وفي أيامه ظهر معدن الفضة في بلاد البجة من أعلي بلاد الصعيد، فأثار منه أشياء كثيرة، فكان جميع أوانيه فضة، حتي أنعال خيله(!!)"، وكما دلت الشواهد التاريخية الواردة في موسوعة مصر القديمة أن "البجا" شعب محارب، فقد أكد هذه الدلالة أنهم حاربوا جنباً إلي جنب مع المصريين، ووصفهم الملك حابي في الدولة الوسطي في الألف الثانية قبل الميلاد في كتاب إلي ولي العهد وسماهم "الأعراب" بالقوة، وأكد : لا تعادهم ولا تحاربهم، لأنهم يضربون ضربتهم، ويهربون في الجبل، وحربهم غير مجدية لأنهم لا يملكون سوي أرواحهم، كما أرسل "سنوسرت الأول" بعض الحملات لإخضاع القبائل المغيرة الخارجة عن النظام في تلك البلاد، لدرجة أنه نصب علي هذه الحدود لوحته المشهورة التي يتحدث فيها للمصريين عن الكفاح في سبيل الوطن والمحافظة علي حدود البلاد، فاستمع إليه وهو يقول : لقد جعلت تخوم بلادي أبعد مما وصل إليه أجدادي .. إلي أن يقول : لست بالرجل الذي يرضي لبه بالتقاعس عندما يعتدي عليه، أهاجم من يهاجمني حسبما تقتضيه الأحوال و إن الرجل الذي يركن إلي الدعة بعد الهجوم عليه يقوي قلب العدو"، وقد أثبتت بحوث علماء علم الإنسان الذين فحصوا الجماجم البشرية في كلا القطرين أن كلا من المصري والسوداني ينسب إلي سلالة واحدة هي السلالة الحامية، وقد ظلت هذه السلالة نقية حتي عهد الأسرة الثامنة عشرة حوالي 1580 ق.م . وذلك عندما أخذت السلالة الزنجية الجنوبية تختلط بالسلالة الحامية في الشمال بعض الشيء "( موسوعة مصر القديمة)، كما أثبت "سلجمان " أن البجه والمصريين القدماء ينحدرون من سلالة واحدة، أو من سلالات متقاربة، وعلي الأخص سكان مصر الجنوبية الذين لم تمتزج دماؤهم بالمهاجرين من آسيا عن طريق برزخ السويس، وقد اعتمد سلجمان علي مقارنة الجماجم لإثبات وجهة نظره، ومن خلال مقارنته وجد أن هناك تشابهاً تاماً بين أشكال المصريين القدماء ومنهم بعض الملوك وأشكال البجا الذين يعيشون في مواطنهم الحالية، فالشعبان ينتميان إلي أصل واحد، وإن كانت طبيعة البيئة قد سلكت
بالمصريين طريقاً وأسلوباً في الحياة، وسلكت بالبجا مسلكاً أخر، وانفصلت أوطان الفريقين فترة من الزمن إلي أن نشأت بينهما صلات لم يكن إلا أن توجد بحكم التجاور والتاريخ، وبعد ذلك فقدت الدولة المصرية قدرتها في السيطرة علي جنوب مصر خاصة بعد أن قويت البجا، وأخذت تغير علي سكان وادي النيل وتقوم بأعمال السلب والنهب، وتعود ثانية للصحراء، معتمدة علي تفوقها المتعلق بعلمها بطرق الصحراء ودروبها، واستطاعت البجا أن تفرض سيطرتها علي جنوب مصر لمدة قرن من الزمان من 525425 ميلادية، وذلك بعد اضمحلال الدولة المصرية القديمة، وتمكن الرومان من فرض سيطرتهم علي مصر، وهدمهم لمعبد "إيزيس" الموجود بجزيرة "بجه"، بعدها تقهقرت البجا، وانعزلت داخل موطنها، ونزل الرومان إلي الصحراء لإحكام السيطرة علي البجا، واستغلال مناجم الذهب المنتشرة بوادي عباد، ووادي العلاقي، وبعد انحسار البجا حاولت أن تجد مصدراً آخر للدخل فأنشأت ميناء حلايب /"أيديهاب" كمحاولة لتعويض ما فقدته من أعمال السلب والنهب(يمكن مراجعة د. نادية بدوي، يوميات باحثة مصرية في حلايب)، وبعد نشأة الميناء صنعوا مراكب بدائية، وهي عبارة عن جذوع نخيل الدوم المربوطة بحبال التيل، وذاع صيت الميناء بعد أن أصبح جسراً بين المنطقة، والجانب الآخر من البحر الأحمر (اليمن الجزيرة العربية الهند ..) وبدأت تنتعش تجارة العبيد والتوابل وجلود الحيوانات، وريش النعام، والبخور، وزاد دخل البجا و ازدادوا ثراءً، وأصبح ميناء حلايب هو الميناء الرئيس والوحيد لنقل حجاج إفريقية، وذلك كما ورد في تاريخ القبائل المصرية"، وقد أقام الحجاج نحواً من مائتي سنة لا يتوجهون إلي مكة إلا من صحراء عيذاب، يركبون النيل في المراكب إلي قوص،ثم يركبون الإبل من قوص إلي عيذاب، ولم تزل مسلكاً للحجاج ذهاباً و إياباً، من سنة خمسين وأربعمائة، إلي سنة ستين وستمائة، وذلك عندما انقطع من البر في دولة الفاطميين ؛ وقيل كان بعيذاب مغاص في جزائر هناك، ولما كان ميناء حلايب يقع علي أطراف الصحراء الشرقية في مصر فقد خضع للسلطان المصري الذي أرسل نائباً عنه ليقيم به بهدف الإشراف علي إدارة الميناء، وجباية الضرائب التي بلغت نسبتها 31٪ من الدخل الكلي، ونظراً لشراسة البجا فقد كانت تقوم بسلب أموال الحجاج وأمتعتهم، وتعالت صرخات الحجاج لسلطان مصر ليحميهم من البجا، وكان الإسلام آنذاك يمارس توسعه، فقامت أربع حروب بين البجا وجيش المسلمين، انتهت كل حرب بعقد هدنة وسلام ولكن سرعان ما تنقضها البجا وتعود للحرب مرة أخري (الشعوب والسلالات الإفريقية).
وفي بدائع الزهور إشارة إلي أن الناصر محمد بن قلاوون قد عين في سنة ست عشرة وسبعمائة تجريدة إلي صحراء عيذاب، بسبب فساد العربان، فعين ستة مقدمين ألوف، وألف مملوك؛ فلما وصل إلي هناك توجهوا إلي بلاد البجاة، وجاوزوا الأقاليم الثلاثة، ولم يظفروا بأحد من العربان العصاة، فتقلق العسكر، وكان غالب قوتهم الذرة، والشرب من الحفائر، فرجعوا إلي القاهرة من غير طائل، كذلك فقد "قدم الخبر في شهر جمادي الآخرة سنة 767- بكثرة فساد أولاد الكنز، وطائفة العكارمة بأسوان، وسواكن، وأنهم منعوا التجار، وغيرهم من السفر، لقطعهم الطريق، وأخذهم أموال الناس بغير حق، وأن أولاد الكنز قد غلبوا علي ثغر أسوان، وصحراء عيذاب، وصاهروا ملوك النوبة، واشتدت شوكتهم "، كما ذكر ابن جبير في رحلته طرق السفر إلي هذه المناطق بالقوافل العيذابية، ومما ذكره " كان نزولنا علي الماء بموضع يعرف بالعشراء، علي مرحلتين من عيذاب، وبهذا الموضع كثير من شجر العشر، وهو شبيه شجر الأترج لكن لا شوك العذوبة، وهو في بئر غير مطوية، وألفينا الرمل قد انهال عليها، وغطي ماءها، فرام الجمالون حفرها واستخراج مائها، فلم يقدروا علي ذلك، وبقيت القافلة لا ماء عندها، بعدها نزلنا ضحوة علي ماء الخبيب، وهو بموضع بمرأي العين من عيذاب، يستقي منها القوافل وأهل البلد وهي بئر كبيرة كأنها الجب الكبير، ولما دخلنا عيذاب، وهي مدينة علي ساحل بحر جدة، غير مسوَّرة، أكثر بيوتها الأخصاص، وفيها الآن بناء مستحدث بالجص، وهي من أحفل مراسي الدنيا بسبب أن الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها، إضافة إلي مراكب الحجاج صادرة وواردة، وهي صحراء لا نبات فيها، ولا يؤكل فيها شئ إلا مجلوب، لكن أهلها بسبب الحجاج لهم علي كل حمل طعام يجلبونه ضريبة معلومة خفيفة المونة، بالإضافة إلي الوظائف المكوسية التي رفعها صلاح الدين، كما قدم ابن جبير وصفاً لبحرها والمراكب التي تعبره، ووصفا لأهل عيذاب، وبعض عاداتهم وتقاليدهم، ونظراً لأن هذه القبائل ازدادت شراسة، وسلبا لأموال الحجاج، فإن "بيبرس" بعد اعتلائه حكم مصر وضع خطة للقضاء علي البجا، وفي عام 1426 م خرجت الجيوش المصرية متوجهة إلي داخل الصحراء، وتحركت في الوقت نفسه المراكب المحملة بالحجارة من ميناء القصير متوجهة جنوبا إلي حلايب، ودارت هناك معركة شرسة دمر خلالها ميناء حلايب.
لقد كان النسب في قبائل البجا أموميا قبل دخولهم الإسلام، ثم تحول إلي النظام الأبوي، بعدها عرفت قبائلهم بأسمائها العربية (البشارية العبابدة الهدندوة الأمرار بني عامر ...إلخ ) ومعظم هذه القبائل وفروعها لازالت تقطن الصحراء وتتكلم اللسان البيجاوي، وهم يطلقون علي كلامهم عرفا اصطلاح" الرطانه"، وتزاوج معظم القبائل بين الرطانة واللغة العربية، فقبائل العبابدة مثلا تتحدث العربية إضافة إلي إجادة معظمهم للرطانة التي لها أجرومية خاصة تحتاج إلي جمع وتصنيف وتحليل لصوتياتها وأبنيتها المختلفة، ويقال إن العبابدة تحدثوا العربية خلال سيطرتهم علي ميناء عيذاب والذي كان الميناء الرئيس لسفر الحجاج ؛ ومعظمهم بالطبع يتحدث العربية الآن، أما باقي قبائل البجا فلغتهم حامية الأصل، وهي المسماة التبداوي أو بداويت، ويرجع البعض مفردة "بِدَا " إلي أصولها في مفردة "بجا" التي حدث لها تطور، ووصلت إلي "بَدِوْ"، ثم إلي "البدو" ويستثني من هذا العشائر الجنوبية "بني عامر"، ومن يجاورهم من الجماعات القليلة التي تتكلم لغة "تجره" وهي إحدي اللغات السامية المنتشرة في "إريتريا" وبلاد الحبشة، وإن كان بعضهم يتكلم التبداوية، ومعظم قبائل البجا يعرفون العربية إلي جانب لغتهم (التبداوية تجره)، لكن اللغة العربية ليست اللغة الأصلية بالنسبة لهم، علي الرغم من احتفاظ بعضهم بورقة يسمونها "نسبه"، وهي ترجع بنسبهم إلي قريش، فاللغة العربية ماهي إلا أثر من آثار النفوذ العربي الذي دخل في عهد متأخر نسبيا إلي أوطانهم، وقد قمنا الباحث بجمع ميداني في المنطقة للغة البجا "الرطانة" في محاولة للتعرف علي أبنيتها التركيبية والصوتية، ولما كانت هذه المحاولة شاقة وتحتاج إلي وقت أكبر وجهد نوعي جمعا وتصنيفا وتحليلا، خاصة بعد أن قطع في رحلة الجمع الميداني شوطا مهما حول جمع مفردات اللغة كي يستطيع فهم شعر البشارية تحديداً حيث إن أشعارهم لا تؤدي إلا رطانة، ويأمل الباحث أن يواصل جمعه في محاولة لفهم ومعرفة شعرهم الذي يحمل قيماً جمالية وصوتية (موسيقية لغوية) مغايرة ومفارقة لأشعار العبابدة والرشايدة، ويحتاج هذا الحكم إلي تأكيد علمي بمواصلة الجمع الميداني وتصنيف ما تم جمعه والعكوف علي تحليله وفهمه
(يتبع)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.