«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرجل الذي يركن إلي الدعة بعد الهجوم عليه يقوي قلب العدو
ثقافة الحدود المصرية وأبعادها والأنثروبولوجية (4)
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 02 - 2015

لا ينبغي ونحن نتحرك علي الحدود أن نتعامل معها بشكل متحفي ، أو كعابري سبيل يشيرون بأصابعهم وهم يمصمصون الشفاه ، أو للتخلص من عقدة الذنب تجاه إهمالها، فالحدود ليس محض خطوط وهمية تفصل بين دولتين أو محافظتين، لكنها تقبل وتمنع، تستقبل وتصدر، تقوم بالفرز والانتقاء وتنتخب ما يتسق مع تطورها، وقد ترغم علي قبول عناصر وافدة نتيجة قوة العناصر الواردة، والقوة تشير هنا إلي مرتكزات ثقافية تعتمد عليها الثقافة الوافدة في وقت قد تعاني ثقافة المقر من الضعف نتيجة العزلة أو لحاجات اقتصادية تجعلها تساير ما يرد عليها من عناصر فتحاول تطويع ما تستطيع تطويعه والرضوخ لعناصر أخري تلح علي وجودها بحكم التواتر وبحكم ترسيخ الميديا لأهمية وجودها، ويمكننا تأمل بعض هذه المراوحات النظرية من خلال التعريج علي بعض مناطق الحدود المصرية ومنها مجتمعات حلايب أبو رماد الشلاتين، وقد آثرنا أن نرتبها علي هذا النحو بشكل جغرافي عكس ما يتواتر في معظم الكتابات، فهل ما تزال هذه المجتمعات قابضة علي جمر ما ورثته من عادات وتقاليد أم أن تغيرا قد حدث نتيجة علاقات الاتصال المستمرة مع ثقافات أخري، وما هي عناصر الثبات التي تحفظ لهذه المجتمعات تماسكها وما الذي حدث من تغير لهذه المجتمعات .
قبائل البجا وظلالها التاريخية
تنتمي القبائل التي تستوطن المنطقة إلي قبيلة / أم تسمي "البجا" بكسر الباء، وهذا تطور حديث، فقد كان المتقدمون من الكُتَّاب كالمسعودي، وابن سليم الأسواني، والمقريزي يكتبون الاسم بضم الباء، وبعدها ألف وهاء "البجاه"، وقد جاءت علي هذه الشاكلة كتابة في بدائع الزهور لابن إياس ، كما ترددت بأكثر من صورة في معجم البلدان، فمرة البجاه، وأخري البجة، وثالثة البجاء . وفي صبح الأعشي " ومن الشرق بحر القلزم مما يقابل بلاد اليمن والأمكنة المجهولة الحال شرقي بلاد الزنج في جنوبي البحر الهندي، ومن الشمال البراري الممتدة فيما بين الديار المصرية وأرض برقة وبلاد البربر من جنوبي المغرب إلي البحر المحيط والمشهور منها ست مماليك ؛ المملكة الأولي بلاد البجا، والبجا بضم الباء الموحدة وفتح الجيم وألف في الآخر، وهم من أصفي السودان لونا، قال ابن سعيد وهم مسلمون ونصاري وأصحاب أوثان، وهناك بعض الدراسات التي تعتمد علي التواتر دون ذكر أية مراجع أو مصادر، علي الرغم من الوثوقية التي تحتل جزءا كبيرا من خطابها، كاستخدام صيغ تبدأ ب "يقال"، ثم يتبعها ب "في الغالب"، ويختتمها ب "والمقطوع به" دون ثبت يؤكد علي هذه الثقة، من هذه الكتابات ما ورد في كتاب شريعة الصحراء للواء رفعت الجوهري، 1961 يقول مؤلفه "ويقال لهم البجاه، أو البجه، وهم في بادية الصحراء بين النيل والبحر الأحمر، وهم من بقايا الشعوب التي تألفت منها مملكة أثيوبيا القديمة"، ويكمل "وفي الغالب أنهم من سلالة أولاد كوش بن حام الذين هاجروا إلي السودان بعد الطوفان"، إلي أن ينتهي إلي "والمقطوع به أنهم من سلالة غير سلالة السود، وأنهم أقدم شعوب إفريقيا، ولم ينشأوا فيها، بل هاجروا إليها من آسيا عن طريق البحر الأحمر من عهد بعيد".
وفي اللسان : بجا بجا بجاء، قبيلة، و البَجاوِيَّاتُ من النوق منسوبة إليها، قال ابن بري، قال الرَّبَعِيُّ : البجاويات منسوبة إلي بجاوة قبيلة يطاردون عليها، كما يطارد علي الخيل قال، وذكر القزاز بجاوة وبجاوة بالضم والكسر، ولم يذكر الفتح، وفي شعر الطرمّاح بجاوية بضم الباء منسوب إلي بجاوة موضع من بلاد النوبة، وهو
" بجاوية لم تستدر حول مثبر
ولم يَتَخَوَّنْ درَّها ضَبُ آفن "
"إن مزا أو مجا التي جاء ذكرها في النقوش ( يقصد النقوش المصرية القديمة )، هي بلاد يسكنها قوم من البدو الرحل ويحتمل أنها تقابل قبيلة بجا الحالية " موسوعة مصر القديمة، سليم حسن، الجزء العاشر(تاريخ السودان المقارن إلي أوائل عهد بيعنخي)، ويبدو أن الاسم قديم، إذ إن شعب البجا كان معروفاً للمصريين القدماء باسم الماروي أو الماجوي، ويبدو أنه قد تم في تطور لغوي لاحق إبدال الميم بالباء، وهو أمر ليس غريبا في اللغات السامية، كما هي الحال في مكة و بكة (تاريخ القبائل المصرية، لواء : صلاح الشايب)، وكلمة البجا التي اشتقت من "البجاوي" بعد الإبدال معناها في الفرعونية الحارس أو المحارب، وقد اكتسبت قبائل البجا هذه الصفات المتعلقة بالقوة من خلال استعانة المصريين القدماء بهم في أعمال الحرب وحراسة حدود الصحراء (الشعوب والسلالات الإفريقية، د. محمد عوض محمد) ففي الحملة التي قام بها بيبي الأول علي بدو سيناء نجد أن الجيش الذي كان يقوده "وني" أحد كبار الموظفين الذي عاصر ملوكا كثيرين ابتداء من الملك "تيتي" و قد دفن في "العرابة"، لمحاربة بدو سيناء يحتوي علي فيالق من الأقاليم، أو القبائل التي تقطن المنطقة الجنوبية والشرقية لمصر وضمنها البجا بطبيعة الحال (موسوعة مصر القديمة، سليم حسن، الجزء العاشر) كما استعان بهم رمسيس الثاني في حربه ضد الهكسوس نظراً لمهارتهم وقوتهم، وبعد إحراز النصر أطلق عليهم اسم "ماجو"، وقد مجدهم بأن نقش صورهم بجواره في الحرب، واللوحات الموجودة بمعبد إدفو شاهدة علي ذلك (تاريخ القبائل المصرية، مرجع سابق)، ومما يؤكد هذه العلاقة المتواصلة بين المصريين وقبائل البجا أن الملك بيبي الأول قد أصدر منشورا يخاطب فيه رئيس المترجمين "للمجا" و هو ما يشير إلي حد ما إلي أنهم كانوا يخضعون لسلطان القضاء المصري (موسوعة مصر القديمة)، كما يعكس وجود أحد المترجمين في هذا العهد دلالة مهمة، وهي احتفاظ هذه القبائل بلغتها بما لها من خصوصية، كما يعكس أيضا دلالة أكثر أهمية وهي احترام القدماء المصريين للغات الهامشية التي تخالف لغتهم في أجروميتها . (يوميات باحثة مصرية في حلايب) ويقال إن اسمهم قبل "البجا" كان "البليمين". وتعد قبائل البجا من الجنس الحامي الذي عبر البحر الأحمر من آسيا إلي إفريقية، وهم غالبا من سلالة أولاد كوش بن حام الذي هاجروا للسودان بعد الطوفان، وقبائل البجا تعيش في الصحراء الشرقية علي امتدادها في مصر والسودان منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد (موسوعة مصر القديمة) وتدل البراهين علي أن موقع بلاد "مزاو" (مجاو) في عهد ختام الأسرة السادسة كان يقع شمالي الشلال الثاني، ومن المشكوك فيه كثيراً أنها كانت تمتد وراء ذلك الإقليم المصري الصغير وكانت تعيش علي صيد الحيوانات التي كان يموج بها موطنها، وعندما اكتشف الفراعنة الذهب استعانوا بهم في استخراجه، و" منذ العهد العتيق، أو بعبارة أدق منذ عهد ما قبل الأسرات عندما ظهرت لأول مرة مساكن الفالحين للأرض في وادي النيل، أخذ المصريون يوطدون التجارة و العلاقات الثقافية مع الأقوام و القبائل المجاورة، يؤكد ذلك أنواع المواد المختلفة التي جلبت إلي مصر و بخاصة الذهب والعاج والنحاس، فقد تسلم المصريون الذهب من الصحراء الشرقية الواقعة بين النيل والبحر الأحمر . وكانوا يجلبونه غالبا من الجزء الجنوبي من هذا الإقليم الواقع جنوبي طريق قفط القصير . و الواقع أن المركز الرئيس علي أية حال هو المنطقة الواقعة علي الحدود الجنوبية لمصر، و قد اجتهد المصريون في اختراق مجاهل هذه الأقاليم و إيجاد روابط تجارية مع القبائل المتوطنة هناك"( موسوعة مصر القديمة) لقد عاشت قبائل البجا، تقدس إيزيس وأوزوريس، كما كانت تزور معبد فيلة، وتحمل معها تمثال إيزيس، كيما تبارك لهم الحياة، بعدها أقامت البجا لنفسها معبداً خاصاً في جزيرة "بجه" المواجهة لجزيرة فيلة بأسوان كما نزل الكهنة لموطن البجا لإقامة الشعائر الخاصة بالإله "آتون" ومن هنا تعلمت البجا اللغة المصرية (تاريخ القبائل المصرية)، وقد قويت العلاقة بين الفراعنة والصحراء، وسكانها، ومن سواحلها خرجت أساطيل حتشبسوت لبلاد بنط، وخرج الإله "منتو" إله الحرب الذي اتخذ له مقراً في وادي الحمامات، وآخر بوادي العلاقي الذي كان يتمتع بسحر خاص وقداسة لدي الفراعنة،
وفي ذكر ابن إياس لملوك الديار المصرية في أول الزمان يقول : "إنه بعد أن مات خصليم تولي من بعده ابنه فقال، وكان عالما بعلوم الطلسمات والسحر، وقيل إنه عمل سردابا تحت النيل ينتهي في بلاد الصعيد، ولما هلك تولي ابنه شهلوق، وفي أيامه ظهر معدن الفضة في بلاد البجة من أعلي بلاد الصعيد، فأثار منه أشياء كثيرة، فكان جميع أوانيه فضة، حتي أنعال خيله(!!)"، وكما دلت الشواهد التاريخية الواردة في موسوعة مصر القديمة أن "البجا" شعب محارب، فقد أكد هذه الدلالة أنهم حاربوا جنباً إلي جنب مع المصريين، ووصفهم الملك حابي في الدولة الوسطي في الألف الثانية قبل الميلاد في كتاب إلي ولي العهد وسماهم "الأعراب" بالقوة، وأكد : لا تعادهم ولا تحاربهم، لأنهم يضربون ضربتهم، ويهربون في الجبل، وحربهم غير مجدية لأنهم لا يملكون سوي أرواحهم، كما أرسل "سنوسرت الأول" بعض الحملات لإخضاع القبائل المغيرة الخارجة عن النظام في تلك البلاد، لدرجة أنه نصب علي هذه الحدود لوحته المشهورة التي يتحدث فيها للمصريين عن الكفاح في سبيل الوطن والمحافظة علي حدود البلاد، فاستمع إليه وهو يقول : لقد جعلت تخوم بلادي أبعد مما وصل إليه أجدادي .. إلي أن يقول : لست بالرجل الذي يرضي لبه بالتقاعس عندما يعتدي عليه، أهاجم من يهاجمني حسبما تقتضيه الأحوال و إن الرجل الذي يركن إلي الدعة بعد الهجوم عليه يقوي قلب العدو"، وقد أثبتت بحوث علماء علم الإنسان الذين فحصوا الجماجم البشرية في كلا القطرين أن كلا من المصري والسوداني ينسب إلي سلالة واحدة هي السلالة الحامية، وقد ظلت هذه السلالة نقية حتي عهد الأسرة الثامنة عشرة حوالي 1580 ق.م . وذلك عندما أخذت السلالة الزنجية الجنوبية تختلط بالسلالة الحامية في الشمال بعض الشيء "( موسوعة مصر القديمة)، كما أثبت "سلجمان " أن البجه والمصريين القدماء ينحدرون من سلالة واحدة، أو من سلالات متقاربة، وعلي الأخص سكان مصر الجنوبية الذين لم تمتزج دماؤهم بالمهاجرين من آسيا عن طريق برزخ السويس، وقد اعتمد سلجمان علي مقارنة الجماجم لإثبات وجهة نظره، ومن خلال مقارنته وجد أن هناك تشابهاً تاماً بين أشكال المصريين القدماء ومنهم بعض الملوك وأشكال البجا الذين يعيشون في مواطنهم الحالية، فالشعبان ينتميان إلي أصل واحد، وإن كانت طبيعة البيئة قد سلكت
بالمصريين طريقاً وأسلوباً في الحياة، وسلكت بالبجا مسلكاً أخر، وانفصلت أوطان الفريقين فترة من الزمن إلي أن نشأت بينهما صلات لم يكن إلا أن توجد بحكم التجاور والتاريخ، وبعد ذلك فقدت الدولة المصرية قدرتها في السيطرة علي جنوب مصر خاصة بعد أن قويت البجا، وأخذت تغير علي سكان وادي النيل وتقوم بأعمال السلب والنهب، وتعود ثانية للصحراء، معتمدة علي تفوقها المتعلق بعلمها بطرق الصحراء ودروبها، واستطاعت البجا أن تفرض سيطرتها علي جنوب مصر لمدة قرن من الزمان من 525425 ميلادية، وذلك بعد اضمحلال الدولة المصرية القديمة، وتمكن الرومان من فرض سيطرتهم علي مصر، وهدمهم لمعبد "إيزيس" الموجود بجزيرة "بجه"، بعدها تقهقرت البجا، وانعزلت داخل موطنها، ونزل الرومان إلي الصحراء لإحكام السيطرة علي البجا، واستغلال مناجم الذهب المنتشرة بوادي عباد، ووادي العلاقي، وبعد انحسار البجا حاولت أن تجد مصدراً آخر للدخل فأنشأت ميناء حلايب /"أيديهاب" كمحاولة لتعويض ما فقدته من أعمال السلب والنهب(يمكن مراجعة د. نادية بدوي، يوميات باحثة مصرية في حلايب)، وبعد نشأة الميناء صنعوا مراكب بدائية، وهي عبارة عن جذوع نخيل الدوم المربوطة بحبال التيل، وذاع صيت الميناء بعد أن أصبح جسراً بين المنطقة، والجانب الآخر من البحر الأحمر (اليمن الجزيرة العربية الهند ..) وبدأت تنتعش تجارة العبيد والتوابل وجلود الحيوانات، وريش النعام، والبخور، وزاد دخل البجا و ازدادوا ثراءً، وأصبح ميناء حلايب هو الميناء الرئيس والوحيد لنقل حجاج إفريقية، وذلك كما ورد في تاريخ القبائل المصرية"، وقد أقام الحجاج نحواً من مائتي سنة لا يتوجهون إلي مكة إلا من صحراء عيذاب، يركبون النيل في المراكب إلي قوص،ثم يركبون الإبل من قوص إلي عيذاب، ولم تزل مسلكاً للحجاج ذهاباً و إياباً، من سنة خمسين وأربعمائة، إلي سنة ستين وستمائة، وذلك عندما انقطع من البر في دولة الفاطميين ؛ وقيل كان بعيذاب مغاص في جزائر هناك، ولما كان ميناء حلايب يقع علي أطراف الصحراء الشرقية في مصر فقد خضع للسلطان المصري الذي أرسل نائباً عنه ليقيم به بهدف الإشراف علي إدارة الميناء، وجباية الضرائب التي بلغت نسبتها 31٪ من الدخل الكلي، ونظراً لشراسة البجا فقد كانت تقوم بسلب أموال الحجاج وأمتعتهم، وتعالت صرخات الحجاج لسلطان مصر ليحميهم من البجا، وكان الإسلام آنذاك يمارس توسعه، فقامت أربع حروب بين البجا وجيش المسلمين، انتهت كل حرب بعقد هدنة وسلام ولكن سرعان ما تنقضها البجا وتعود للحرب مرة أخري (الشعوب والسلالات الإفريقية).
وفي بدائع الزهور إشارة إلي أن الناصر محمد بن قلاوون قد عين في سنة ست عشرة وسبعمائة تجريدة إلي صحراء عيذاب، بسبب فساد العربان، فعين ستة مقدمين ألوف، وألف مملوك؛ فلما وصل إلي هناك توجهوا إلي بلاد البجاة، وجاوزوا الأقاليم الثلاثة، ولم يظفروا بأحد من العربان العصاة، فتقلق العسكر، وكان غالب قوتهم الذرة، والشرب من الحفائر، فرجعوا إلي القاهرة من غير طائل، كذلك فقد "قدم الخبر في شهر جمادي الآخرة سنة 767- بكثرة فساد أولاد الكنز، وطائفة العكارمة بأسوان، وسواكن، وأنهم منعوا التجار، وغيرهم من السفر، لقطعهم الطريق، وأخذهم أموال الناس بغير حق، وأن أولاد الكنز قد غلبوا علي ثغر أسوان، وصحراء عيذاب، وصاهروا ملوك النوبة، واشتدت شوكتهم "، كما ذكر ابن جبير في رحلته طرق السفر إلي هذه المناطق بالقوافل العيذابية، ومما ذكره " كان نزولنا علي الماء بموضع يعرف بالعشراء، علي مرحلتين من عيذاب، وبهذا الموضع كثير من شجر العشر، وهو شبيه شجر الأترج لكن لا شوك العذوبة، وهو في بئر غير مطوية، وألفينا الرمل قد انهال عليها، وغطي ماءها، فرام الجمالون حفرها واستخراج مائها، فلم يقدروا علي ذلك، وبقيت القافلة لا ماء عندها، بعدها نزلنا ضحوة علي ماء الخبيب، وهو بموضع بمرأي العين من عيذاب، يستقي منها القوافل وأهل البلد وهي بئر كبيرة كأنها الجب الكبير، ولما دخلنا عيذاب، وهي مدينة علي ساحل بحر جدة، غير مسوَّرة، أكثر بيوتها الأخصاص، وفيها الآن بناء مستحدث بالجص، وهي من أحفل مراسي الدنيا بسبب أن الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها، إضافة إلي مراكب الحجاج صادرة وواردة، وهي صحراء لا نبات فيها، ولا يؤكل فيها شئ إلا مجلوب، لكن أهلها بسبب الحجاج لهم علي كل حمل طعام يجلبونه ضريبة معلومة خفيفة المونة، بالإضافة إلي الوظائف المكوسية التي رفعها صلاح الدين، كما قدم ابن جبير وصفاً لبحرها والمراكب التي تعبره، ووصفا لأهل عيذاب، وبعض عاداتهم وتقاليدهم، ونظراً لأن هذه القبائل ازدادت شراسة، وسلبا لأموال الحجاج، فإن "بيبرس" بعد اعتلائه حكم مصر وضع خطة للقضاء علي البجا، وفي عام 1426 م خرجت الجيوش المصرية متوجهة إلي داخل الصحراء، وتحركت في الوقت نفسه المراكب المحملة بالحجارة من ميناء القصير متوجهة جنوبا إلي حلايب، ودارت هناك معركة شرسة دمر خلالها ميناء حلايب.
لقد كان النسب في قبائل البجا أموميا قبل دخولهم الإسلام، ثم تحول إلي النظام الأبوي، بعدها عرفت قبائلهم بأسمائها العربية (البشارية العبابدة الهدندوة الأمرار بني عامر ...إلخ ) ومعظم هذه القبائل وفروعها لازالت تقطن الصحراء وتتكلم اللسان البيجاوي، وهم يطلقون علي كلامهم عرفا اصطلاح" الرطانه"، وتزاوج معظم القبائل بين الرطانة واللغة العربية، فقبائل العبابدة مثلا تتحدث العربية إضافة إلي إجادة معظمهم للرطانة التي لها أجرومية خاصة تحتاج إلي جمع وتصنيف وتحليل لصوتياتها وأبنيتها المختلفة، ويقال إن العبابدة تحدثوا العربية خلال سيطرتهم علي ميناء عيذاب والذي كان الميناء الرئيس لسفر الحجاج ؛ ومعظمهم بالطبع يتحدث العربية الآن، أما باقي قبائل البجا فلغتهم حامية الأصل، وهي المسماة التبداوي أو بداويت، ويرجع البعض مفردة "بِدَا " إلي أصولها في مفردة "بجا" التي حدث لها تطور، ووصلت إلي "بَدِوْ"، ثم إلي "البدو" ويستثني من هذا العشائر الجنوبية "بني عامر"، ومن يجاورهم من الجماعات القليلة التي تتكلم لغة "تجره" وهي إحدي اللغات السامية المنتشرة في "إريتريا" وبلاد الحبشة، وإن كان بعضهم يتكلم التبداوية، ومعظم قبائل البجا يعرفون العربية إلي جانب لغتهم (التبداوية تجره)، لكن اللغة العربية ليست اللغة الأصلية بالنسبة لهم، علي الرغم من احتفاظ بعضهم بورقة يسمونها "نسبه"، وهي ترجع بنسبهم إلي قريش، فاللغة العربية ماهي إلا أثر من آثار النفوذ العربي الذي دخل في عهد متأخر نسبيا إلي أوطانهم، وقد قمنا الباحث بجمع ميداني في المنطقة للغة البجا "الرطانة" في محاولة للتعرف علي أبنيتها التركيبية والصوتية، ولما كانت هذه المحاولة شاقة وتحتاج إلي وقت أكبر وجهد نوعي جمعا وتصنيفا وتحليلا، خاصة بعد أن قطع في رحلة الجمع الميداني شوطا مهما حول جمع مفردات اللغة كي يستطيع فهم شعر البشارية تحديداً حيث إن أشعارهم لا تؤدي إلا رطانة، ويأمل الباحث أن يواصل جمعه في محاولة لفهم ومعرفة شعرهم الذي يحمل قيماً جمالية وصوتية (موسيقية لغوية) مغايرة ومفارقة لأشعار العبابدة والرشايدة، ويحتاج هذا الحكم إلي تأكيد علمي بمواصلة الجمع الميداني وتصنيف ما تم جمعه والعكوف علي تحليله وفهمه
(يتبع)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.