يتصدر هذا العنوان كتاب الدكتورة هبة شريف والصادر عن دار سلامة (2014). يقع الكتاب في حوالي 110 صفحات في قطع متوسط، ومكتوب بلغة واضحة وسلسة، الحقيقة أن تلك الأوصاف لا معني لها، أردت القول إن الكتاب متميز للغاية في طرحه، وممتع في عرضه لأفكار معقدة بشكل سلس (وكاشف ومؤلم وقاسٍ وصريح)، كما أن قراءات الكاتبة ومعرفتها تشف من خلف السطور، فلم تكن في احتياج لهوامش واكتفت بقائمة مراجع في النهاية. يناقش الكتاب ما وقع في نهاية القرن التاسع عشر، وأقول وقع لأنه حدث لم يتطور في مصر كعملية مستمرة ينبغي أن تتطور مع الزمن، بل كان الأمر وكأنه ولادة مفاجئة، وهو مسألة وصول الحداثة. وصلت الحداثة مع الحاكم، عن طريق السلطة، فكانت تتلون طبقا لأمزجة وأهواء المسيطر، وظل الواقع الحقيقي بمنأي عنها. وصلت الحداثة نقلا عن الغرب، لكن جوهرها لم يصل، وبقيت الحداثة هيكلية، شكلية، خالية من الجوهر، وصل الشكل عبر إنشاء مؤسسات لم تطور نفسها من الداخل، وعليه لم تصل الأركان الأساسية التي يقوم عليها أي فكر حداثي: الديمقراطية، والحرية، والمساواة أمام القانون، وهي النقطة المفصلية التي يقوم عليها الكتاب. وصلت الحداثة إلي مصر شكليا بدون المضمون، وقد أدي ذلك إلي انتشار مظاهر "التهجين" بين القديم والحديث في المشهد الثقافي كله بداية من المؤسسة وانتهاء بالمنتج الثقافي. لابد من الإضافة أن هذه الإشكالية تتوافر ربما في العالم العربي علي اتساعه، وقد ناقشت عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي هذه الإشكالية- من زاوية مختلفة- في كتابها "الإسلام والديمقراطية: الخوف من الحداثة"، وأوضحت مثلا أن معظم دول العالم العربي قد وقعت وصدقت علي اتفاقية إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة، من أجل الأخذ بمظاهر الحداثة تحت أضواء الأممالمتحدة، في حين أن الواقع يشي بغير ذلك تماما. يطرح الكتاب فكرته عبر النظر إلي ما كان كائنا قبل يوليو 52 وما حدث بعدها. كانت الحداثة تحاول بصعوبة الدخول إلي مجتمع تقليدي، فوقفت لها الأمية بالمرصاد. لكن بالرغم من ذلك كان هناك تنوع فكري وثري ملحوظ، فتواجدت علي الساحة الثقافية والسياسية عدة خطابات: القومي، الليبرالي، اليساري، الإسلامي. وتشهد كل روايات نجيب محفوظ التي تدور أحداثها قبل 52 علي ذلك (علي طه ومأمون رضوان وأحمد بدير في القاهرة الجديدة علي سبيل المثال، وربما لا يجب أن نستثني محجوب عبد الدائم). أما بعد 52 ومع مركزية الدولة الشديدة وإحكامها السيطرة علي كل المنابر في أكبر حالة من حالات تأميم الأفكار فقد انتفي التعدد والتنوع، ووقع الفكر أسيرا لخطاب شمولي. فتغولت المؤسسات وأنشئت المتاحف والمسارح لتسود مظاهر الحداثة شكلا بدون مضمون، أو بالأحري لتبقي مشروعا غير مكتمل، لا يسمح بمنافسة ثقافية أو اختلاف في الخطاب. ومن المفارقة أن يورجين هابرماس الألماني قد كتب مقالا شهيرا في الثمانينيات من القرن الماضي عنوانه "الحداثة: مشروع غير مكتمل"، وقام فيه بتحميل المسئولية للطليعة العشرينية التي لم تسع إلي التواصل مع المجتمع فكان التحديث الاجتماعي بدون الحداثة الفكرية. في كتاب هبة شريف تتحمل الدولة المركزية المسئولية عن الحداثة المبتورة، وهو البتر الذي حدث عن طريق الرقابة، وحل الجمعيات الأهلية، وسيطرة الدولة علي منابر الإعلام والإنتاج الثقافي في كل أشكاله. وبعد انفتاح السبعينيات (المصيبة) بدأ هامش حرية في التسعينيات، ليس برغبة الدولة، بل لظهور الشركات العابرة للقارات، متعددة الجنسيات، وظهور القنوات الفضائية (وإن كانت لا تزال في بدايتها في ذاك الحين) ورأس المال الذي تجاوز حدود الدول. كان ظهور القطاع الخاص أيضا له تأثير علي هذا الهامش من الحرية فمنحه مزيدا من المساحة. وتطور الأمر حتي وصلنا إلي اللحظة الحالية (الكارو بجانب المرسيدس)، لحظة تهجين بامتياز، لكن يبقي بها أمل وحيد هو لا مركزية الثقافة والنخبة والجمهور. فبعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وأشكال جديدة من المنتج الثقافي (في الموسيقي والمسرح والمحاكاة والكتابة والفن التشكيلي) أصبح من المستحيل التشبث بصور الماضي والإبقاء علي ذائقة واحدة ونخبة مركزية، لكن المثقف القديم (الذي اسميته المثقف الأبوي في كتاب "المثقف الانتقالي") لا يفارقه الحنين لزمن الستينيات، زمن غابت فيه المنافسة تماما وكانت الوصاية للدولة كاملة غير منقوصة. وعلي ذكر تفتت مركزية النخبة، لابد أن يأتي ذكر الجمهور. فالجمهور متنوع وذائقته مختلفة، لكن الدولة بكل مؤسساتها الثقافية لا تزال تصر علي الفصل الشديد بين الفن الرفيع (ما تقدمه أجهزتها) وبين فن الثقافة الدارجة، ما يُسمي أحيانا "الفن الهابط" أو "الشعبي"، وهذا الأخير له قطاعات عريضة في الجمهور. لكن الدولة ومعها النخبة يحاولان رفع ذائقة الشعب! وهي مفارقة لا تزال باقية من زمن الاستعمار الذي كان يقسم أي مدينة إلي نصفين، نصف للمستعمر ونصف للمستعمر (بفتح الميم)، ولا تتداخل الثقافتان مطلقا، لكل عالمه، ولذلك أندهش كثيرا من كل المتحسرين علي زمن الإسكندرية الكوزموبوليتانية، فالثقافات الوافدة لم تتداخل مع ثقافة أهل المدينة (راجع رواية "الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس" لطارق إمام و"ميرامار" لنجيب محفوظ وكتاب "الكوزموبوليتانية السكندرية" لهالة حليم). وبالرغم من أن الثقافة الدارجة قد أصبحت تشكل مجالا مستقلا في البحث العلمي في حقل الإنسانيات تُصر الدولة (ومعها النخبة) علي عدم أخذها في الاعتبار، فيبقي الجمهور مُعرضا عما تقدمه المؤسسة الرسمية، في حين يُقبل علي ما يقدمه القطاع الخاص الذي يسعي إلي تلبية رغبات الجمهور بهدف الربح من بين أشياء أخري. بسبب هذا التجاهل لما يجذب الجمهور تشكلت حالة من حالات الاغتراب بين الجمهور وبين المنتج الثقافي، وهو ما يستفيض فوكو في شرحه في مقاله "الفرد والسلطة"، ويشرح أن السلطة دائما ما تسعي إلي تعميق حالة الاغتراب تجاه الفن من أجل منع التواصل بين الجمهور. وفي خطاب محاولة الإعلاء من الذوق العام لا تتردد النخبة في المشاركة، فالنخبة متعالية، آسفة لهبوط الذوق، متحالفة برأس مالها الثقافي (الرمزي) مع رأس المال الاقتصادي، وقد أثبت بيير بورديو من قبل علاقتهما الوثيقة، وأثبت لنا الواقع الثقافي نفس الشيء. ربما لم يأت كتاب المرسيدس والكارو علي ذكر مسألة ارتحال النظرية التي طرحها إدوارد سعيد، لكن الجدلية التي يشتبك معها تبدو مثالا حيا لانحراف مسار هذا الارتحال. جاءت الحداثة عبر السلطة وهي متخفية في رداء المركزية، التي تطورت إلي شمولية، وفي لحظتنا هذه اقتصرت علي التخوين المباشر والاتهام المرسل. وفي النهاية تطرح الكاتبة سؤالا محوريا: "هل يُعد هذا مؤشرا علي أن المجتمع المصري لا يناسبه شكل الحداثة كما هي موجودة في مجتمعاتها؟" ربما، فكل مجتمع يُطور شكله بما يناسبه، لكن الأكيد أن القيم التي أرساها الكتاب كأحد أهم أشكال الحداثة: الديمقراطية، والحرية (ومعها بالطبع حرية التعبير)، والمساواة أما القانون لابد أن تكون الأساس الذي نُرسي عليه أي شكل من أشكال الحداثة.