بعد توقف دام نحو 4 سنوات يعود الشاعر عماد فؤاد برواية. لكن "الحالة صفر" ليست مجرد رواية، يمكن اعتبارها نتاجا لحالة خاصة يعيشها الكاتب نفسه. فالرواية التي تتناول ظاهريا مراحل نمو نبات مخدر، قرر بطل الرواية وصديقته زراعته في منزله، تعتبر بمثابة حالة اغتراب كاملة، ورغبة في التخلي عن أي قيد حتي ولو كان فكرة الوطن. ويمكن من خلال متابعة بسيطة لكتابات عماد الأخيرة السردية والشعرية التأكد من أنه يعيش الحالة نفسها. عندما سألته عن دوافعه لكتابة "الحالة صفر" قال إنه ليس هناك ما يحكي " كل ما في الأمر أنني بطيء في العمل علي مشاريعي الكتابية، وبنظرة سريعة إلي تواريخ إصداراتي ستجد أن هناك دائماً ما لا يقل عن ثلاث سنوات بين كل إصدار والذي يليه، وأحياناً تزيد المدة إلي أربع أو خمس سنوات، وهو ما يتيح لي الاشتغال علي المشروع بهدوء قبل أن أنفض يدي منه بشكل نهائي". "الحالة صفر" ليست تخليا عن الشعر ولا هجرا لكنها كما يقول وليدة إحساس بالتشبع من الشعر، حدث بعد انتهائه من مجموعته الشعرية الخامسة "عشر طرق للتَّنكيل بجثَّة"، والتي انتهي منها في أواخر العام 2009، ونشرت في مايو 2010 عن دار الآداب اللبنانية، بعد هذه المجموعة شعر عماد بأنه لن يكتب الشعر مرة أخري، وهو الشعور ذاته الذي كان يلازمه بعد كل إصدار شعري جديد "لكن هذه المرة كان له طعم مختلف" يوضح:"لم أخطط لكتابة "الحالة صفر" بقدر ما وجدتني متلبِّساً بارتكابها، وربما هذا ما جعلني أتردد كثيراً في استكمال اشتغالي عليها، فكثيراً ما كنت أهرب من كتابتها خلال هذه السنوات الأربع التي كتبت فيها، تارة بحجة أنها مشروع فاشل، وتارة أخري بحجة أنني غير قادر علي الاستمرار فيها، لكنني كنت أعود للكتابة بعد حالات التوقف التي استمر بعضها شهوراً طويلة، بل إنني توقفت عاماً كاملاً لم أكتب فيه حرفاً واحداً في "الحالة صفر"، وحتي اليوم ما زلت لا أصدق أنها صدرت في كتاب، لأنني كنت ما زلت أكتب فيها حتي بعد أن سلَّمت نسختها النهائية للنشر، ثمة فقرات كاملة في الرواية كتبت قبل أيام من دخول البروفة النهائية إلي المطبعة". اخترت الاستقرار في بلجيكا منذ وقت طويل واخترتها مسرحاً لأولي رواياتك، هل يمكن اعتبار الرواية محاولة للتأقلم مع العالم الجديد، أم تأكيد لهذه الحالة؟ الرواية ليست محاولة للتأقلم مع غربتي في بلجيكا، بقدر ما هي ثمرة لهذا التأقلم الذي حدث بداخلي منذ عدة سنوات، لكن في "الحالة صفر" ليس هناك تحديد لمكان وقوع الأحداث، رغم الإشارة المستمرة إلي مدينة أمستردام مثلاً، أو إلي مدن أوربية وعربية أخري، وحتي الصيرورة الزمنية للرواية ولأحداثها القليلة ستجد أنها غير واضحة أو محددة المعالم، وذلك لأنني لم أكن معنياً بتوضيحها خلال عملية الكتابة أصلاً، ربما لأنني لم أكن معنياً في الأساس بفكرة "الرواية" في مطلقها، بل يمكن لك أن تقول إن هدفي من "الحالة صفر" كان علي النقيض تماماً من فكرة "الرواية الحدوتة"؛ تلك التي تحكي قصة مكونة من شخصيات وأحداث درامية تتصاعد وتيرتها مع توالي القراءة، ما حاولت الحفاظ عليه في "الحالة صفر" هو كتابة نص يستفيد من جماليات السردي والشعري علي حد سواء، دون أن ينحاز إلي أحدهما علي حساب الآخر، وهو ما جعلني بالفعل أخاف من التجربة ويساورني الشك في اكتمالها، هذا الشك الذي كان سبباً في حالات التوقف التي أشرت إليها من قبل، كان تخوّفي الأساسي في هذه التجربة هو قدرتي علي التوليف بين الجماليتين السردية والشعرية في نص واحد، وبعد انتهائي من الكتابة اكتشفت أنني في حاجة إلي عيون أخري تري العمل من وجهة نظرها الخاصة وتخبرني بانطباعاتها حيال حالة الكتابة في "الحالة صفر"، فبدأت أرسل المخطوط في صورته النهائية إلي عدد من الأصدقاء الذين أثق في رأيهم، وحين بدأت آراؤهم الإيجابية في أغلبها تصل لي، بدأت مخاوفي الأولي تجاه التجربة تتبخّر، وهو ما شجعني في النهاية علي إصدارها. صحيح اللغة في الرواية محملة بشعرية لكن السرد هو البطل رغم انني توقعت أن تنحاز له كما أشرت لك، لم يكن لديّ هدف من كتابة "الحالة صفر" سوي كتابتها، لم أكن أريد أن أقول للآخرين إنني قادر علي كتابة رواية، علي العكس من ذلك، وجدت نفسي أكتب دون الاهتمام بفكرة هل هذه رواية أم نص سردي محمل بشعرية ما، كتبت "الحالة صفر" ولم أكتب عن "الحالة صفر"، وثمة فارق كبير بين الأمرين، النص في صورته الأخيرة هو تعبير عفوي عن مفهومي الشخصي عن "الحالة صفر" التي حاولت التعبير عنها في الرواية، حالة شخص واقع تحت تأثير مخدر ما، ويبدأ في تناول تفاصيل عالمه المحيطة به وهو تحت تأثير هذه الحالة الفريدة من الغياب عن الوعي، وهو ما جعلني أشعر بأن الشعرية المسيطرة علي حالة الكتابة في "الحالة صفر" ليست غريبة عنها، بل إنها أحد أعمدتها الرئيسية. هل تعتقد أن هناك موضوعات معينة يصعب علي الشعر الخوض فيها؟ أومن بأن أي موضوع قابل للتناول بأي شكل من أشكال الكتابة، حين يكتب الشاعر عن فقير أو شحاذ يمد يده إلي الناس في الطرقات، فهو إنما يتناول وضعاً سياسياً أو اقتصادياً معيناً، يضعه تحت مجهر التساؤل إن لم يكن مجهر المحاسبة، وهنا تكمن المهمة الحقيقية للكتابة من وجهة نظري، أياً تكن أشكالها أو قوالبها المتعارف عليها، مهمتها الأساسية هي ألا تستسلم لفكرة التنميط أو القولبة، أن تكون هناك صفات تميز القوالب الكتابية عن بعضها البعض فهو تعنت ونوع من القيود التي تفرض علي حرية الكتابة، ليس هناك موضوعات معينة يصعب علي الشعر الخوض فيها، لكن هناك متسعا في الرواية للتعبير عما هو شعري وسردي في الآن ذاته، الرواية تسمح بالخلق والتجانس اللغوي والتآلف مع ما هو سردي صرف وشعري صرف في نسيج واحد، وهنا تتبدي مهارة الكاتب الحقيقي من سواه. هناك حس إيروتيكي في قصائدك انتقل معك إلي الرواية، كيف تري توظيف الإيروتيكا في نصوصك بشكل عام؟ تريد الحقيقة؟ أكثر شيء يضايقني هو وصفي بأنني شاعر إيروتيكي، لمجرد أن لديّ بعض القصائد التي يمكن وصفها ب"الجريئة"، لكل كاتب الحرية الكاملة في الاستفادة من جميع أشكال الكتابة، والإيروتيكا إحدي هاته الأشكال التي أحب التعبير من خلالها عن نوازع كثيرة تمور وتتصارع داخل النفس البشرية، لكن أن تبتسر قصائدي وكتابتي في المنحي الإيروتيكي وحده، فهذا ما لا أستسيغه. - إقامتك في الغرب..كيف أثرت علي اختيارك لموضوع الرواية، وعلي جرأة كتاباتك بشكل عام؟ الصدام الأول بين كتابتي والذوق العام حدث حين كنت لم أزل مقيماً في مصر وليس بعد إقامتي في الغرب، ولست وحدي ممن عاني من هذا الصدام، فهناك كثيرون من أجيال عديدة واجهوا صداماً أعنف مني بكثير، وصل إلي درجة تغييبهم عمداً عن الصورة الأدبية في مصر، وإلا فقل لي أين يذكر اسم مثل "ياسر الزيات" باعتباره أحد أهم الأصوات الشعرية التي مهدت لظهور جيل التسعينيات مثلاً، أو أسماء أخري مهمة حاربت لوجود مفهوم "قصيدة النثر" في بيئة كانت تحارب هذا المفهوم آنذاك، مثل "كمال عبد الحميد" أو "عصام أبو زيد" أو "ياسر شعبان" أو "فاطمة قنديل" أو "علي منصور" أو "ميلاد زكريا يوسف"، ثمة حروب واجهها أصحاب هذه الأسماء أدت إلي ابتسار حقهم عليناً، وغيرهم كثيرون ممن تم تغييبهم أو نسيانهم لصالح آخرين يتسيدون المشهد الآن، جرأتي في "الحالة صفر" نابعة من إيمان عميق من أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن الكتابة لا بد أن تتجرأ علي مصطلح الكتابة ذاته لتستطيع أن تخلق لنفسها دربها الخاص، والذي لا يتشابه أو يتقاطع مع غيره من الطرق التي يحفرها الآخرون. - كتبت شروط الدخول إلي "الحالة صفر" والتي لن تكون إلا عبر المرور العكسي من: الزهرة، فالورقة، فالساق، فالجذر، فالبذرة، كما أن هناك فصولاً بصوت البطل الذي لم نعرف اسمه، وأخري بصوت البطلة "ميشيل".. كيف خططت للبنية الفنية لهذا العمل؟ لم أخطط لشيء في هذه التجربة، لأن أغلبها كتب بلا إرادة مني تحت تأثير مخدر الماريجوانا، لذلك قلت لك في البداية أنني ضبطت نفسي متلبِّساً بالتورِّط في "الحالة صفر" لأنها كتبت وأنا في شبه غياب عن الوعي، لكن البنية الفنية للعمل هي ما شغلني لفترة طويلة، خاصة وأنني لا أملك حكاية يمكن أن تحكي، كنت أمام هذيانات تكتب تحت تأثير المخدر، ثمة نص في الرواية أتحدث فيه عن الكتابة وعن تمسكي بها بوصفها: "محاولتي الأخيرة لأنقذ نفسي من مصير السّقوط المدويّ"، هذا النص تحديداً هو تعبيري الصريح حول أسباب كتابتي ل"الحالة صفر"، لو لم أُخرج "الحالة صفر" بالشكل الذي ظهرت عليه بين دفتي كتاب، فلم أكن لأكتب أي شيء آخر بعد مجموعتي الشعرية الأخيرة "عشر طرق للتّنكيل بجثَّة"، "الحالة صفر" جاءت نتيجة صراع كبير داخلي حول جدوي الكتابة في ما نحياه حالياً من واقع عبثي بكل المقاييس، واقع سوريالي بامتياز. - بالحديث عن الواقع بدأت الرواية في يونيه 2011 وأنهيتها في 2014 كما تقول، مرت خلالها أحداث سياسية خطيرة، لكنك رغم ذلك التزمت بموضوعك ولم تنجرف للواقع العبثي كما تقول؟ في ظنِّي أن "الحالة صفر" هي تعبير مباشر عن انعكاس الواقع السياسي العربي خلال السنوات الخمس الماضية، ليس علي شخصيتي وحدها، بل علي شخصية أجيال بكاملها في عالمنا العربي، فالأحداث السياسية التي شهدتها مصر وبلدان عربية أخري كانت النواة الأولي التي أثمرت عن هذه التجربة بداخلي، وفي تغييب هذه الأحداث كلها عن عالم الرواية دليل علي ذلك، فأنت حينما تكتب عن حدث كبير تكون أمام أمر من اثنين، إما أن تكتب عنه في محاولة الإلمام بأطرافه لتتفهمه وتستطيع تفكيكه وسبر أغواره، وإما بالهروب منه ومحاولة تفادي رؤيته، وأعتقد أنني في الرواية اخترت الحل الثاني، ربما لذلك أعتبر أن "الحالة صفر" هي محاولتي للتعبير عن هروبي من الواقع الذي نشهده الآن في بقع مختلفة ومتعددة من عالمنا العربي التعيس. كتبت من قبل أيضا عن "الكتابة في زمن الدم"..وربما تشرح "الحالة صفر" طريقة تعاطيك مع هذا الأمر، لكن هل فكرت حقاً في التوقف عن الكتابة؟ أعتقد أن أي كاتب في أي بقعة من العالم تأتي عليه لحظة ما من الشك في جدوي الكتابة، ما الذي تقدمه الكتابة لكل هؤلاء الفقراء في هذا العالم؟ ما الذي قدمته الكتابة لضحايا غزة أو دوما التي تحترق يومياً تحت نيران البراميل المتفجرة؟ ما الذي قدمته الكتابة ذ هذا الترف السخيف ذ إلي ضحايا الدولة الإسلامية في العراق وسوريا وليبيا واليمن وسيناء؟ نحن لا شيء يا صديقي، مجرد مساكين نكتب لنكوي جروحنا، نكويها تكفيراً عن عجزنا الفاضح في لملمة هذا النزيف المستمر لدمنا الذي يراق يومياً، مرة بالطلقات التي تسكن في الرؤوس، ومرة بالذبح كما الشياه، صرنا نقتل لمجرد أن ديننا غير مرغوب فيه، وصرنا نقتل لأننا لا نعرف عدد ركعات صلاة الفجر أو صلاة الظهر، وأنت تسألني عن "الكتابة في زمن الدم"؟ الدم يا صديقي هو الأبقي، والكتابة أياً تكن أهميتها، إلي زوال. - هل ستعود إلي الرواية مرة أخري؟ لا أعتقد أنني سأعود إلي كتابة الرواية بعد هذه التجربة، ثمة مشروع شعري يسيطر عليّ الآن، وبدأت في الاستسلام لمنحه الأعوام الخمسة المقبلة من حياتي ذ إن استمرت - ليكتمل فيها علي راحته، أو يموت فيها أيضاً علي راحته، فلست في سباق مع أحد، أكتب لمتعتي الشخصية، وهذا يكفيني.