«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللعبة اساس الحرية
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 02 - 2015

تحشد الكثير من أعمال الفنانين التشكيليين باللعبة بمفهومها التراثي والشعبي، والتي ظهرت جلية في أعمالهم، تلك التي اختفي كثير منها من حياتنا المعاصرة، ومن بينهم علي سبيل المثال لا الحصر الفنانة زينب السجيني، والفنان سيد سعد الدين، والفنان الراحل فاروق وجدي والفنان سمير فؤاد والفنان حلمي التوني والفنان عصمت داوستاشي وغيرهم.
فالمتأمل مثلا في أعمال الراحل فاروق وجدي يستشعر أنها توثيق حي لرموز التراث الشعبي، ففي كثير من معارضه الفردية والجماعية قدم لوحات تحشد بالرموز المرتبطة بالتراث المصري والفلكلور الشعبي بما في ذلك العادات والتقاليد والفنون الشعبية وغيرها.
وكان الفنان الراحل قد تناول لعب الأطفال من هذا المنطلق في معرض مستقل استضافه جاليري قرطبة منذ عدة سنوات تحت عنوان "سوسة كف عروسة" فوظف ألعاب الأطفال ليس بمفهومها الحالي وإنما تلك اللعب بمفهومها الشعبي، وقدم الفنان 25 لوحة من الألعاب المستمدة من التراث الشعبي والتي كادت أن تختفي تماما اللهم في بعض القري ومنها الحجلة وملح الجمال والاستغماية ونط الحبل وغيرها. .
وكان الفنان فاروق وجدي- رحمه الله- قد تحدث عن تلك الفكرة آنذاك قائلا: إن الأساس في أعمالي هو البحث عن الحرية، فمثلا عندما يستهل الطفل حياته فإن أول ما يبحث عنه هو حريته المتمثلة في اللعب علي سجيته، كما أن لكل لعبة دلالتها فلعبة ضرب الكفوف تمثل نشاطا جماعيا يندمج فيه الأطفال وهي تعبر عن السلام والحب فهي أقرب إلي التسليم بالأيدي، أما لعبة "جمال الملح" فهي انعكاس لواقع مجتمعي في الصعيد، فنظرا لعدم وجود مصدر لإنتاج الملح هناك، كانت العادة أن يأتي الملح محملا علي جمال من الملاحات، وهي أصل اللعبة التي ينحني فيها طفل علي قدميه ورجليه ويركب علي ظهره طفلان متشابكا الأيدي ممثلين جوالي الملح.
وقد استطاع الفنان فاروق وجدي أن يحقق تكاملية في أعماله بين الرموز الشعبية وبين معني الحرية، ولعل ذلك الثراء الفكري واللوني الذي يتضح في أعمال الفنان لم يتأت من فراغ فقد جاء ذلك نتيجة لدراسة متخصصة حيث درس بكلية الفنون التطبيقية، وكذلك كنتيجة للإطلاع ومزيج من المشاهدات المتعمقة لتلك الموروثات المتأصلة في نسيج المجتمع. وكان الفنان يفضل استخدام ألوان الزيت لأنها ساعدته بنص قوله: في أن أضع أحاسيسي علي الورق، وعلي الرغم من أن اللوحة تقدم بعدين فقط فيما يعرف بالتسطيح تساعد الألوان علي تعميق بعد اللوحة.. وحينما أري الألوان يتراءي أمامي شريط طويل من تراث الإنسانية العظيم ويتجسد الشكل وينمو داخلي ثم يخرج مرتبطاً بكل الفنون التي ولدت علي أرض وتراب مصر.
الحرية في أعمال سيد سعد الدين
ربما كان الشعور بالحرية كذلك هو ما يجذبني بقوة للتحاور مع أعمال الفنان سعد الدين ، حيث تمنحك لوحاته براحا عجيبا لا تدرك إن كان بداخل اللوحة أم ينتقل ليسكن داخل نفسك التي تنجذب لتلك الانسيابية المفرطة في أعماله.. ومع تلك الانسيابية والعذوبة تجد الشموخ ربما ذلك الذي تشعر به حين تري تمثال نهضة مصر أو حين تقف أمام صرح حضاري ضخم ..
هذا الإحساس بالشموخ في أعمال سيد سعدالدين هو ما يصفه الناقد صبحي الشاروني قائلا: في تشكيلاته المختلفة تحليل تتجلي فيه قوة البناء ورسوخه بإحساس المثال المتمكن مما يشيع في لوحاته جوا من التعبد والصوفية.. بل إنه كما يقول الناقد سامي البلشي: يجري بروحه في رحاب عالمه الرقيق.. يطير ويسبح في فراغات اللوحة.. يحلم مع الحالمين .
وقد كانت اللعبة أيضا من العناصر التي تكررت كثيرا في لوحات المبدع سيد سعد الدين .. واللعبة بالنسبة له مفهوم شاسع منها ما يرتبط بعالم الصغار مثل الحجلة ونط الحبل والطوق ومراجيح المولد ، ومنها ما يرتبط بعالم الكبار مثل التحطيب والمبارزة والرقص بالعصا وغيرها.. ولأن الفنان سيد سعد الدين باحث عن البهجة والأصالة في أعماله، فإن اللعبة هي أكثر الأشياء التي تجسد السعادة الممتزجة بالبهجة والجمال ، وهو يقول كذلك إن الفنان حين يتناول اللعبة يختلف عن الأديب مثلا لأنه يضيف إليها وتضيف إليه بالإيقاع والتكوين والسكون والحركة واللون وغير ذلك..
والإنسان المصري البسيط والكادح هو بطل أعمال هذا الفنان ربما هو الفلاح البسيط أو العامل أو ربة المنزل.. حيث تجده يقول: الإنسان هو العنصر المطلق في لوحاتي .. ولذا فإن أعمالي هي تسجيل لحياته اليومية، وهنا تجد مواضيع شتي لها علاقة بالأمومة والطفولة والعمل واللعب وغيرها .
والفنان سيد سعد الدين من مواليد قنا عام 1944، وقد نشأ في بيئة تحتشد برموز الأصالة والتراث ولذا تجد أن مصرية أعماله ترتبط بتلك الذكريات التي نحتت طفولته وشبابه، يقول الفنان عن الألعاب في فترة طفولته: ربما لم تكن هناك رفاهية في الألعاب ولذا كنا نخترع اللعبة مثل الطوق والعجلة أو الطائرات الورقية.. وكان ابتكار الألعاب يفتح سبل الخيال وعوالم الفانتزيا.. وكانت اللعبة تحفز المهارات الذهنية واليدوية.. أما الآن فقد أصبح الاستسهال هو السمة السائدة.. وهذا الاستسهال يوقف خيال الطفل الذي أصبح يحصل علي ما يريد بضغطه..
عرائسية ملامح شخصيات علي الدسوقي
لعل التراث الشعبي المرتبط باللعبة هو ذلك الذي أثر في وجدان الكثير من الفنانين التشكيليين، حيث قدم الفنان علي دسوقي علي مدار تاريخه الفني عددا من اللوحات التي سجلت "اللعبة" من خلال ما ترسخ في أعماقه من عادات وتقاليد البيئة المصرية الشعبية، من ألعاب الأطفال في الأحياء الشعبية القديمة لعبه "الدحلة" أو "العجلة الحديدة" التي عبر عنها في كثير من اللوحات الباتيك أو الزيت.
بهذه الكلمات عبرت الفنانه مي حشمت عن رؤيتها لأعمال الفنان علي دسوقي مضيفه إنه لخص شكل الألعاب التي ارتبطت بالمناسبات والطقوس الدينية المختلفة برؤية خاصة فنجد الأطفال في لوحاته يلعبون بالفوانيس في لوحات رمضانية حتي إن تعبيره عن عروسة المولد والحصان في لوحاته لها أجواء احتفالية أسطورية مستوحاة من ذكريات طفولته واستماعه للقصص الشعبية القديمة، كما أن الأشخاص أنفسهم داخل أعماله لهم ملامح "عرائسية" برؤية الفنان الخاصة.
حلمي التوني ولعب البنات
مما لا شك فيه أن الفنان حلمي التوني يعد واحدا من أبرز الفنانين الذين قدموا رسومات للأطفال، غير أن أعمال الفنان التشكيلية احتفت كثيرا بالمرأة .. إما المرأة البالغة أو الطفلة، وتكاد تخلو لوحات التوني من الرجل.. ولذا فإن اهتمامه بالطفلة في أعماله الفنية نابع من انحيازه الواضح للمرأة .. حتي إنه قدم في عام 2006 معرضا خاصا بجاليري بيكاسو تحت عنوان "لعب البنات وآلهة الإصلاح"، وخصص جزءا منه لألعاب البنات.
وأذكر الآن ما كتبه محمد الفقي عن المعرض علي لسان الفنان الذي قال: أنا أسكن بمنزل يطل علي مدرسة للبنات وأستيقظ كل صباح علي صراخ وضجيج وضحكات البنات الصغيرات في حوش المدرسة قبل الدخول إلي الفصول.. و تأتي هذه اللوحات متجاوزة المشهد الطبيعي المعتاد للوحات الفنانين التي عالجت"ألعاب الطفولة" تجاوزتها في حالة شبه سحرية ذات أجواء يشوبها غموض ناتج عن تداعي وتجاوز عناصر كالأبواب والأهرامات والأسماك.. كلها وليدة العقل الباطن دون تفكير في منطق أو معقولية العلاقة فيما بينهما.
ولكن حلمي التوني قدم تنويعات مختلفة علي مفهوم اللعبة، واهتم اهتماما كبيرا بالعروسة ونط الحبل والحجلة، وهي ألعاب ترتبط بالفتيات، فالعروسة ترتبط بالفتاة وبحلم الأمومة الذي يسكن كل فتاة حتي قبل أن تدركه ، كما أن توظيفه لنط الحبل يأتي لأسباب جمالية وفنية وبصرية حيث تضفي إيحاء بالحركة علي اللوحة.
ويتضح من أعمال الفنان المبدع حلمي التوني اهتمامه المفرط بالحصان، حيث يقول: للحصان رمزية كبري وهو من أجمل المخلوقات في عالم الحيوان.. ولعل الحصان والهدهد هما من أكثر المخلوقات انتشارا في أعمال حلمي التوني.
أما الحصان الخشبي فهو يرتبط بالفروسية والشجاعة والإقدام، وعندما تمطي الفتاة الحصان فإن لذلك رمزية كبيرة حيث يصبح هنا رمزا للشجاعة أكثر منه لعبة ونوعا من التمكين لفئة مستضعفة.
ولعل ارتباط الفنان حلمي التوني بالتراث وكذلك بعالم الأطفال من خلال رسوماته الموجه للطفل هو ما دفعني كي أسأله عن رأيه فيما تقدمه كتب الأطفال لهم اليوم، وما الذي سيبقي في وجدان الطفل.. فنان الغد.. فأجابني أنه يشعر بالاستياء من تغريب كثير من كتب الأطفال الموجودة بالمكتبات ،التي تعبر عن ظاهرة مرضية موجودة في ثقافتنا الحالية والمتمثلة في احتقار الذات والانبهار بالآخر.. وربما تجد الأم التي تحرص علي تعليم ابنها في مدارس لغات تنهره إذا تحدث بالعربية.
يقول التوني لننظر مثلا إلي عروسة المولد وما أصابها، أصبحت بلاستيكية ولها شعر أصفر، ويضيف أنا لست ضد الانفتاح علي الآخر ولكن ضد أن نحتقر أنفسنا وأن نتنكر لذاتنا.. فعلي الأقل في مجال الوجدانيات لا نريد أن ننهزم وجدانيا.
سمير فؤاد.. لعب الأطفال والفنان التشكيلي
يقال إن الفنان التشكيلي دائما يعود لطفولته بحثا عن مصادر وعناصر لفنه، ولعل أحد أمتع الحكايات التي يمكن أن تستمع إليها عن علاقة الفنان التشكيلي بألعاب الطفولة هي تلك التي رواها الفنان سمير فؤاد حيث يقول: عندما كنت طفلا كنت مغرما بالعربات خاصة عربات الإطفاء وعربات نقل الجنود كما كنت مغرما بالأسلحة خاصة الخوذة والسيف الروماني.. ربما يكون هذا من تأثير الأفلام التاريخية عن العصر الروماني وبالطبع كانت الأفلام السينمائية من أهم المحفزات البصرية لدي.
كانت الخوذة النحاسية المتوجه بالريش الأحمر والدروع البراقة والتوجا الحمراء التي يرتديها الجنود الرومان تثير خيالاتي.. ولكن الألعاب جاهزة التصنيع لم تكن بهذه الوفرة لضيق ذات اليد كما أنني كنت مغرما بتفكيكها لمعرفة كيف تعمل وبالتالي كانت لا تصمد كثيرا وتتحول لقطع من الصفيح ولهذا بدأت أصنع الألعاب الخاصة بي، أولا من بكر الخياطة الذي وفرته لي جارة يهودية اسمها بيرتا كانت تعمل حائكة للملابس.. وصنعت من البكر عربات.. ثم تحولت إلي زعف النخيل الذي كنت أحصل عليه من نخلة وحيدة بحديقة المنزل.. صنعت القوس والسهم مثل الهنود الحمر.. كما صنعت السيوف والرماح.. وصنعت غطاء الرأس من أوراق الجرائد علي هيئة مركب مقلوبة والدروع من العلب الكرتون.. وكان عندي حصان خشبي كنت أمتطيه وأنا أستعمل هذه الأسلحة.. وكانت قمة المتعة مصدرها ذلك الغطاء الخشبي لماكينة الخياطة السنجر الخاصة بوالدتي.. عندما أقلب هذا الغطاء رأسا علي عقب كان يصبح علي هيئة قارب.. كنت أحشر جسمي الصغير في هذا القارب وأستعمل يدي لدفعه من ناحية لأخري فأتأرجح كأنني في قارب يصارع الأمواج .
وقد مرت الأرجوحة معي بمراحل عديدة من الطفولة الأولي حتي الشباب.. من غطاء ماكينة الخياطة السنجر الذي كنت أجلس بداخله وأتأرجح من ناحية لأخري بدفعه بيدي.. إلي الأرجوحة في النادي عندما أصبحت صبيا إلي الأرجوحة في الملاهي أو اللونابارك كما كنا نسميه عندما أصبحت شابا..وفي كل هذه المراحل كان الإحساس بالسباحة والاندفاع في الهواء يعطيني إحساسا بالحرية والتخلص من قوة الجاذبية حتي ولو كانت حرية مقيدة بتلك الحركة البندولية.
ولهذا السبب ظهرت الأرجوحة كثيرا في أعمال الفنان سمير فؤاد الذي يقول عن علاقة لعب الأطفال بالفنان التشكيلي: إن لعّب الأطفال تؤثر علي الرؤية البصرية والوجدانية للفنان التشكيلي من زاويتين رئيسيتين، الأولي تتمثل في تنمية خياله وعلاقاته مع الأشكال المرسومة والمجسدة وهو في طور النمو ، والثانية عندما يستعير منها بشكل مباشر أو غير مباشر ويجعلها جزءا من رموزه وتكويناته التشكيلية، وأعتقد أنه بالنسبة للطفل خاصة الذي حباه الله بموهبة الفن فإن صناعة اللعبة تصبح جزءا من المتعة فيلعب هنا الخيال مرتين مرة في صناعة اللعبة والأخري أثناء اللعب بها.
ولعل طفولة الفنان سمير فؤاد الثرية تركت بصمة قوية في وجدانه اتضحت في عدة رموز منها الحصان الخشبي وعروسة المولد والأرجوحة والطرطور التي تعاود الظهور في لوحاته من آن لآخر.
حيث يقول الفنان : ربما يرجع سر تعلقي بالحصان الخشب لأنه كان اللعبة التي أتخيل فيها نفسي فارسا، وبالرغم أن الحصان الوحيد الذي حصلت عليه اختفي لسبب أو آخر، وأنا ما زلت صغيرا إلا أن لعبتي المفضلة في اللونابارك كانت الحصان الدوار.
كما كنت أيضا مغرما بالعروسة الحلاوة بشكلها وزينتها المفضضة وورق الكوريشة الملون والخلفية المكونة من دوائر ملونة من الورق المزجج.. وربما لأنها تمثل العروسة الأسطورية أو ست الحسن من الحواديت الشعبية التي كنت أسمعها... وساهم في تعلقي بها أن الحصان الحلاوة كان يفرض علي لأنني ولد، وكان من العيب أن أشتري عروسة، وبالرغم من أنني أحببت الحصان بالعلم الأحمر ذو الهلال والنجمة الوحيدة والذي أعتقد أنه من تراث الحكم العثماني إلا أنني ظللت أحب العروسة أكثر.
عصمت داوستاشي والعروسة
كانت العروسة أيضا من الألعاب التي أثرت بقوة في أعمال الفنان التشكيلي عصمت داوستاشي ، ولكن بصورة مغايرة تماما، حيث استعان الفنان عصمت داوستاشي بتلك العرائس ليقدم من خلالها مجموعة كبيرة من الأعمال المركبة التي تحمل رمزية كبيرة تعكس ما يحدث في عالم الكبار.
ولذلك حكاية تعود إلي عام 1964، عندما كان داوستاشي وقتها طالبا بكلية الفنون الجملية بالإسكندرية، حيث يقول: عندما اشتريت عروسة بلاستك ( كانت شيئا جديدا وقتها ) من مولد السيد البدوي بطنطا وكانت العرائس من قبل بالقماش.. وكانت لعب طفولتي من الخشب والحديد.. ثم دخلت اللدائن البلاستيكية في معظم لعب الأطفال بعد ذلك.. وقتها وضعت العروسة داخل صندوق خشبي للعصافير ورشقت سكين قديم يخترق سقف الصندوق إلي رأس العروسة في دعوة لعدم انتهاك الطفولة البريئة.. كان عملا فنيا مركبا بخامات متنوعة نفذته وقت لم أكن أعرف فيه لحظتها عن العمل الفني المركب أي شيئ.. من وقتها أصبح هذا منهجي في الإبداع وحرصت علي شراء الأشياء القديمة من سوق الجمعة وعندما تزوجت ورزقت بأولاد كنت أجمع عرائسهم و لعبهم التي يحطمونها لأستعملها في تشكيل أعمالي الفنية.
وفي معرضه الشامل الذي استضافته كرمة ابن هاني و تمحور حول أعماله المركبة لعبت العروسة دور البطولة كرمز للطفولة التي تنتهك في الصراعات المحلية والدولية وفي المآسي الاجتماعية .. حيث يعلق داوستاشي: كانت القضية الفلسطينية وما يحدث من انتهاكات الصهاينة للفلسطينيين وأطفالهم تمس وجداننا وتلهمنا أعمالا فنية ضد هذا العدوان المستمر حتي الآن.. وكانت العرائس في أعمالي محطمة وممزقة.. كانت أقرب إلي الأشلاء ومغلف بالفزع والضياع .
وعن ألعاب فترة طفولته يقول داوستاشي : أعظم العاب طفولتي كانت حصانا خشبيا أركبه وأهتز فوقه للأمام والخلف وكأنني فارس همام.. ثم احضروا لي سيارة من الحديد لها بدالان أمشي بها.. ثم جاءت البندقية الرش لتتوج ألعاب فترة الطفولة لأنني بعد ذلك كنت أصنع ألعابي في ورشة أبي حتي أنه اقترح أن يركب لها "زنبلك" ليحركها وذلك قبل تحريك لعب الأطفال بالبطاريات ..
يضيف داوستاشي : لا شك أن لعب الأطفال تلعب دورا مهما وايجابيا عند الطفل من لحظة ميلاده وحتي بلوغه وربما بعد ذلك.. فالألعاب هي وسيلة الطفل للتعلم والتعرف علي العالم المحيط به.. والآن أتعجب من حال الدنيا وقد أصبحت الأجهزة الالكترونية تشغل الأطفال من سنواتهم المبكرة حتي كادت الألعاب التقليدية التي عرفناها في طفولتنا تختفي ..
لقد تغيرت ألعاب الأطفال الآن شكلا ومضمونا .. كانت ألعاب طفولتنا تعتمد علي الخيال والحكايات.. وكانت اللعبة تدخل في منظومة ينسجها الجميع: الطفل والأم والأب والجدة والأخوة.. كانت اللعبة شديدة الحيوية والتغير والتبدل كما يحلو لخيال الطفل.. اما الآن فان الألعاب أخذت اتجاها الكترونيا بصريا وسمعيا وتقدم أشكالا نمطية مصممة من قبل لتحدي ذكاء الأطفال.. إن احفادي منذ سنوات عمرهم الأولي لا يريدون شيئا غير الأجهزة الالكترونية.. إنها العاب تجاوز الطفولة وتستمر معهم إلي الشيخوخة دون أن يدروا أن طفولتهم سرقت منهم ..
كانت ألعابنا التي يبدعها الفنان الشعبي مشحونة بالفطرة والخيال وتصنع بخامات محلية بسيطة وجميلة وتجعلنا نبدع فيها من هويتنا وتقاليدنا.. والآن أصبحت الألعاب الإلكترونية لها طابع واحد علمي جامد ومحدد يضع كل الأطفال في سلة واحدة لا خيال فيها ولا فطره إنسانية حميمة.. لذلك أدخلت الالكترونيات في أعمالي الأخيرة بجوار اللعب التقليدية في حوار الحضارات الذي أوشك علي الانتهاء لصالح مستقبل رقمي جديد غامض ومخيف .
تحشد الكثير من أعمال الفنانين التشكيليين باللعبة بمفهومها التراثي والشعبي، والتي ظهرت جلية في أعمالهم، تلك التي اختفي كثير منها من حياتنا المعاصرة، ومن بينهم علي سبيل المثال لا الحصر الفنانة زينب السجيني، والفنان سيد سعد الدين، والفنان الراحل فاروق وجدي والفنان سمير فؤاد والفنان حلمي التوني والفنان عصمت داوستاشي وغيرهم.
فالمتأمل مثلا في أعمال الراحل فاروق وجدي يستشعر أنها توثيق حي لرموز التراث الشعبي، ففي كثير من معارضه الفردية والجماعية قدم لوحات تحشد بالرموز المرتبطة بالتراث المصري والفلكلور الشعبي بما في ذلك العادات والتقاليد والفنون الشعبية وغيرها.
وكان الفنان الراحل قد تناول لعب الأطفال من هذا المنطلق في معرض مستقل استضافه جاليري قرطبة منذ عدة سنوات تحت عنوان "سوسة كف عروسة" فوظف ألعاب الأطفال ليس بمفهومها الحالي وإنما تلك اللعب بمفهومها الشعبي، وقدم الفنان 25 لوحة من الألعاب المستمدة من التراث الشعبي والتي كادت أن تختفي تماما اللهم في بعض القري ومنها الحجلة وملح الجمال والاستغماية ونط الحبل وغيرها. .
وكان الفنان فاروق وجدي- رحمه الله- قد تحدث عن تلك الفكرة آنذاك قائلا: إن الأساس في أعمالي هو البحث عن الحرية، فمثلا عندما يستهل الطفل حياته فإن أول ما يبحث عنه هو حريته المتمثلة في اللعب علي سجيته، كما أن لكل لعبة دلالتها فلعبة ضرب الكفوف تمثل نشاطا جماعيا يندمج فيه الأطفال وهي تعبر عن السلام والحب فهي أقرب إلي التسليم بالأيدي، أما لعبة "جمال الملح" فهي انعكاس لواقع مجتمعي في الصعيد، فنظرا لعدم وجود مصدر لإنتاج الملح هناك، كانت العادة أن يأتي الملح محملا علي جمال من الملاحات، وهي أصل اللعبة التي ينحني فيها طفل علي قدميه ورجليه ويركب علي ظهره طفلان متشابكا الأيدي ممثلين جوالي الملح.
وقد استطاع الفنان فاروق وجدي أن يحقق تكاملية في أعماله بين الرموز الشعبية وبين معني الحرية، ولعل ذلك الثراء الفكري واللوني الذي يتضح في أعمال الفنان لم يتأت من فراغ فقد جاء ذلك نتيجة لدراسة متخصصة حيث درس بكلية الفنون التطبيقية، وكذلك كنتيجة للإطلاع ومزيج من المشاهدات المتعمقة لتلك الموروثات المتأصلة في نسيج المجتمع. وكان الفنان يفضل استخدام ألوان الزيت لأنها ساعدته بنص قوله: في أن أضع أحاسيسي علي الورق، وعلي الرغم من أن اللوحة تقدم بعدين فقط فيما يعرف بالتسطيح تساعد الألوان علي تعميق بعد اللوحة.. وحينما أري الألوان يتراءي أمامي شريط طويل من تراث الإنسانية العظيم ويتجسد الشكل وينمو داخلي ثم يخرج مرتبطاً بكل الفنون التي ولدت علي أرض وتراب مصر.
الحرية في أعمال سيد سعد الدين
ربما كان الشعور بالحرية كذلك هو ما يجذبني بقوة للتحاور مع أعمال الفنان سعد الدين ، حيث تمنحك لوحاته براحا عجيبا لا تدرك إن كان بداخل اللوحة أم ينتقل ليسكن داخل نفسك التي تنجذب لتلك الانسيابية المفرطة في أعماله.. ومع تلك الانسيابية والعذوبة تجد الشموخ ربما ذلك الذي تشعر به حين تري تمثال نهضة مصر أو حين تقف أمام صرح حضاري ضخم ..
هذا الإحساس بالشموخ في أعمال سيد سعدالدين هو ما يصفه الناقد صبحي الشاروني قائلا: في تشكيلاته المختلفة تحليل تتجلي فيه قوة البناء ورسوخه بإحساس المثال المتمكن مما يشيع في لوحاته جوا من التعبد والصوفية.. بل إنه كما يقول الناقد سامي البلشي: يجري بروحه في رحاب عالمه الرقيق.. يطير ويسبح في فراغات اللوحة.. يحلم مع الحالمين .
وقد كانت اللعبة أيضا من العناصر التي تكررت كثيرا في لوحات المبدع سيد سعد الدين .. واللعبة بالنسبة له مفهوم شاسع منها ما يرتبط بعالم الصغار مثل الحجلة ونط الحبل والطوق ومراجيح المولد ، ومنها ما يرتبط بعالم الكبار مثل التحطيب والمبارزة والرقص بالعصا وغيرها.. ولأن الفنان سيد سعد الدين باحث عن البهجة والأصالة في أعماله، فإن اللعبة هي أكثر الأشياء التي تجسد السعادة الممتزجة بالبهجة والجمال ، وهو يقول كذلك إن الفنان حين يتناول اللعبة يختلف عن الأديب مثلا لأنه يضيف إليها وتضيف إليه بالإيقاع والتكوين والسكون والحركة واللون وغير ذلك..
والإنسان المصري البسيط والكادح هو بطل أعمال هذا الفنان ربما هو الفلاح البسيط أو العامل أو ربة المنزل.. حيث تجده يقول: الإنسان هو العنصر المطلق في لوحاتي .. ولذا فإن أعمالي هي تسجيل لحياته اليومية، وهنا تجد مواضيع شتي لها علاقة بالأمومة والطفولة والعمل واللعب وغيرها .
والفنان سيد سعد الدين من مواليد قنا عام 1944، وقد نشأ في بيئة تحتشد برموز الأصالة والتراث ولذا تجد أن مصرية أعماله ترتبط بتلك الذكريات التي نحتت طفولته وشبابه، يقول الفنان عن الألعاب في فترة طفولته: ربما لم تكن هناك رفاهية في الألعاب ولذا كنا نخترع اللعبة مثل الطوق والعجلة أو الطائرات الورقية.. وكان ابتكار الألعاب يفتح سبل الخيال وعوالم الفانتزيا.. وكانت اللعبة تحفز المهارات الذهنية واليدوية.. أما الآن فقد أصبح الاستسهال هو السمة السائدة.. وهذا الاستسهال يوقف خيال الطفل الذي أصبح يحصل علي ما يريد بضغطه..
عرائسية ملامح شخصيات علي الدسوقي
لعل التراث الشعبي المرتبط باللعبة هو ذلك الذي أثر في وجدان الكثير من الفنانين التشكيليين، حيث قدم الفنان علي دسوقي علي مدار تاريخه الفني عددا من اللوحات التي سجلت "اللعبة" من خلال ما ترسخ في أعماقه من عادات وتقاليد البيئة المصرية الشعبية، من ألعاب الأطفال في الأحياء الشعبية القديمة لعبه "الدحلة" أو "العجلة الحديدة" التي عبر عنها في كثير من اللوحات الباتيك أو الزيت.
بهذه الكلمات عبرت الفنانه مي حشمت عن رؤيتها لأعمال الفنان علي دسوقي مضيفه إنه لخص شكل الألعاب التي ارتبطت بالمناسبات والطقوس الدينية المختلفة برؤية خاصة فنجد الأطفال في لوحاته يلعبون بالفوانيس في لوحات رمضانية حتي إن تعبيره عن عروسة المولد والحصان في لوحاته لها أجواء احتفالية أسطورية مستوحاة من ذكريات طفولته واستماعه للقصص الشعبية القديمة، كما أن الأشخاص أنفسهم داخل أعماله لهم ملامح "عرائسية" برؤية الفنان الخاصة.
حلمي التوني ولعب البنات
مما لا شك فيه أن الفنان حلمي التوني يعد واحدا من أبرز الفنانين الذين قدموا رسومات للأطفال، غير أن أعمال الفنان التشكيلية احتفت كثيرا بالمرأة .. إما المرأة البالغة أو الطفلة، وتكاد تخلو لوحات التوني من الرجل.. ولذا فإن اهتمامه بالطفلة في أعماله الفنية نابع من انحيازه الواضح للمرأة .. حتي إنه قدم في عام 2006 معرضا خاصا بجاليري بيكاسو تحت عنوان "لعب البنات وآلهة الإصلاح"، وخصص جزءا منه لألعاب البنات.
وأذكر الآن ما كتبه محمد الفقي عن المعرض علي لسان الفنان الذي قال: أنا أسكن بمنزل يطل علي مدرسة للبنات وأستيقظ كل صباح علي صراخ وضجيج وضحكات البنات الصغيرات في حوش المدرسة قبل الدخول إلي الفصول.. و تأتي هذه اللوحات متجاوزة المشهد الطبيعي المعتاد للوحات الفنانين التي عالجت"ألعاب الطفولة" تجاوزتها في حالة شبه سحرية ذات أجواء يشوبها غموض ناتج عن تداعي وتجاوز عناصر كالأبواب والأهرامات والأسماك.. كلها وليدة العقل الباطن دون تفكير في منطق أو معقولية العلاقة فيما بينهما.
ولكن حلمي التوني قدم تنويعات مختلفة علي مفهوم اللعبة، واهتم اهتماما كبيرا بالعروسة ونط الحبل والحجلة، وهي ألعاب ترتبط بالفتيات، فالعروسة ترتبط بالفتاة وبحلم الأمومة الذي يسكن كل فتاة حتي قبل أن تدركه ، كما أن توظيفه لنط الحبل يأتي لأسباب جمالية وفنية وبصرية حيث تضفي إيحاء بالحركة علي اللوحة.
ويتضح من أعمال الفنان المبدع حلمي التوني اهتمامه المفرط بالحصان، حيث يقول: للحصان رمزية كبري وهو من أجمل المخلوقات في عالم الحيوان.. ولعل الحصان والهدهد هما من أكثر المخلوقات انتشارا في أعمال حلمي التوني.
أما الحصان الخشبي فهو يرتبط بالفروسية والشجاعة والإقدام، وعندما تمطي الفتاة الحصان فإن لذلك رمزية كبيرة حيث يصبح هنا رمزا للشجاعة أكثر منه لعبة ونوعا من التمكين لفئة مستضعفة.
ولعل ارتباط الفنان حلمي التوني بالتراث وكذلك بعالم الأطفال من خلال رسوماته الموجه للطفل هو ما دفعني كي أسأله عن رأيه فيما تقدمه كتب الأطفال لهم اليوم، وما الذي سيبقي في وجدان الطفل.. فنان الغد.. فأجابني أنه يشعر بالاستياء من تغريب كثير من كتب الأطفال الموجودة بالمكتبات ،التي تعبر عن ظاهرة مرضية موجودة في ثقافتنا الحالية والمتمثلة في احتقار الذات والانبهار بالآخر.. وربما تجد الأم التي تحرص علي تعليم ابنها في مدارس لغات تنهره إذا تحدث بالعربية.
يقول التوني لننظر مثلا إلي عروسة المولد وما أصابها، أصبحت بلاستيكية ولها شعر أصفر، ويضيف أنا لست ضد الانفتاح علي الآخر ولكن ضد أن نحتقر أنفسنا وأن نتنكر لذاتنا.. فعلي الأقل في مجال الوجدانيات لا نريد أن ننهزم وجدانيا.
سمير فؤاد.. لعب الأطفال والفنان التشكيلي
يقال إن الفنان التشكيلي دائما يعود لطفولته بحثا عن مصادر وعناصر لفنه، ولعل أحد أمتع الحكايات التي يمكن أن تستمع إليها عن علاقة الفنان التشكيلي بألعاب الطفولة هي تلك التي رواها الفنان سمير فؤاد حيث يقول: عندما كنت طفلا كنت مغرما بالعربات خاصة عربات الإطفاء وعربات نقل الجنود كما كنت مغرما بالأسلحة خاصة الخوذة والسيف الروماني.. ربما يكون هذا من تأثير الأفلام التاريخية عن العصر الروماني وبالطبع كانت الأفلام السينمائية من أهم المحفزات البصرية لدي.
كانت الخوذة النحاسية المتوجه بالريش الأحمر والدروع البراقة والتوجا الحمراء التي يرتديها الجنود الرومان تثير خيالاتي.. ولكن الألعاب جاهزة التصنيع لم تكن بهذه الوفرة لضيق ذات اليد كما أنني كنت مغرما بتفكيكها لمعرفة كيف تعمل وبالتالي كانت لا تصمد كثيرا وتتحول لقطع من الصفيح ولهذا بدأت أصنع الألعاب الخاصة بي، أولا من بكر الخياطة الذي وفرته لي جارة يهودية اسمها بيرتا كانت تعمل حائكة للملابس.. وصنعت من البكر عربات.. ثم تحولت إلي زعف النخيل الذي كنت أحصل عليه من نخلة وحيدة بحديقة المنزل.. صنعت القوس والسهم مثل الهنود الحمر.. كما صنعت السيوف والرماح.. وصنعت غطاء الرأس من أوراق الجرائد علي هيئة مركب مقلوبة والدروع من العلب الكرتون.. وكان عندي حصان خشبي كنت أمتطيه وأنا أستعمل هذه الأسلحة.. وكانت قمة المتعة مصدرها ذلك الغطاء الخشبي لماكينة الخياطة السنجر الخاصة بوالدتي.. عندما أقلب هذا الغطاء رأسا علي عقب كان يصبح علي هيئة قارب.. كنت أحشر جسمي الصغير في هذا القارب وأستعمل يدي لدفعه من ناحية لأخري فأتأرجح كأنني في قارب يصارع الأمواج .
وقد مرت الأرجوحة معي بمراحل عديدة من الطفولة الأولي حتي الشباب.. من غطاء ماكينة الخياطة السنجر الذي كنت أجلس بداخله وأتأرجح من ناحية لأخري بدفعه بيدي.. إلي الأرجوحة في النادي عندما أصبحت صبيا إلي الأرجوحة في الملاهي أو اللونابارك كما كنا نسميه عندما أصبحت شابا..وفي كل هذه المراحل كان الإحساس بالسباحة والاندفاع في الهواء يعطيني إحساسا بالحرية والتخلص من قوة الجاذبية حتي ولو كانت حرية مقيدة بتلك الحركة البندولية.
ولهذا السبب ظهرت الأرجوحة كثيرا في أعمال الفنان سمير فؤاد الذي يقول عن علاقة لعب الأطفال بالفنان التشكيلي: إن لعّب الأطفال تؤثر علي الرؤية البصرية والوجدانية للفنان التشكيلي من زاويتين رئيسيتين، الأولي تتمثل في تنمية خياله وعلاقاته مع الأشكال المرسومة والمجسدة وهو في طور النمو ، والثانية عندما يستعير منها بشكل مباشر أو غير مباشر ويجعلها جزءا من رموزه وتكويناته التشكيلية، وأعتقد أنه بالنسبة للطفل خاصة الذي حباه الله بموهبة الفن فإن صناعة اللعبة تصبح جزءا من المتعة فيلعب هنا الخيال مرتين مرة في صناعة اللعبة والأخري أثناء اللعب بها.
ولعل طفولة الفنان سمير فؤاد الثرية تركت بصمة قوية في وجدانه اتضحت في عدة رموز منها الحصان الخشبي وعروسة المولد والأرجوحة والطرطور التي تعاود الظهور في لوحاته من آن لآخر.
حيث يقول الفنان : ربما يرجع سر تعلقي بالحصان الخشب لأنه كان اللعبة التي أتخيل فيها نفسي فارسا، وبالرغم أن الحصان الوحيد الذي حصلت عليه اختفي لسبب أو آخر، وأنا ما زلت صغيرا إلا أن لعبتي المفضلة في اللونابارك كانت الحصان الدوار.
كما كنت أيضا مغرما بالعروسة الحلاوة بشكلها وزينتها المفضضة وورق الكوريشة الملون والخلفية المكونة من دوائر ملونة من الورق المزجج.. وربما لأنها تمثل العروسة الأسطورية أو ست الحسن من الحواديت الشعبية التي كنت أسمعها... وساهم في تعلقي بها أن الحصان الحلاوة كان يفرض علي لأنني ولد، وكان من العيب أن أشتري عروسة، وبالرغم من أنني أحببت الحصان بالعلم الأحمر ذو الهلال والنجمة الوحيدة والذي أعتقد أنه من تراث الحكم العثماني إلا أنني ظللت أحب العروسة أكثر.
عصمت داوستاشي والعروسة
كانت العروسة أيضا من الألعاب التي أثرت بقوة في أعمال الفنان التشكيلي عصمت داوستاشي ، ولكن بصورة مغايرة تماما، حيث استعان الفنان عصمت داوستاشي بتلك العرائس ليقدم من خلالها مجموعة كبيرة من الأعمال المركبة التي تحمل رمزية كبيرة تعكس ما يحدث في عالم الكبار.
ولذلك حكاية تعود إلي عام 1964، عندما كان داوستاشي وقتها طالبا بكلية الفنون الجملية بالإسكندرية، حيث يقول: عندما اشتريت عروسة بلاستك ( كانت شيئا جديدا وقتها ) من مولد السيد البدوي بطنطا وكانت العرائس من قبل بالقماش.. وكانت لعب طفولتي من الخشب والحديد.. ثم دخلت اللدائن البلاستيكية في معظم لعب الأطفال بعد ذلك.. وقتها وضعت العروسة داخل صندوق خشبي للعصافير ورشقت سكين قديم يخترق سقف الصندوق إلي رأس العروسة في دعوة لعدم انتهاك الطفولة البريئة.. كان عملا فنيا مركبا بخامات متنوعة نفذته وقت لم أكن أعرف فيه لحظتها عن العمل الفني المركب أي شيئ.. من وقتها أصبح هذا منهجي في الإبداع وحرصت علي شراء الأشياء القديمة من سوق الجمعة وعندما تزوجت ورزقت بأولاد كنت أجمع عرائسهم و لعبهم التي يحطمونها لأستعملها في تشكيل أعمالي الفنية.
وفي معرضه الشامل الذي استضافته كرمة ابن هاني و تمحور حول أعماله المركبة لعبت العروسة دور البطولة كرمز للطفولة التي تنتهك في الصراعات المحلية والدولية وفي المآسي الاجتماعية .. حيث يعلق داوستاشي: كانت القضية الفلسطينية وما يحدث من انتهاكات الصهاينة للفلسطينيين وأطفالهم تمس وجداننا وتلهمنا أعمالا فنية ضد هذا العدوان المستمر حتي الآن.. وكانت العرائس في أعمالي محطمة وممزقة.. كانت أقرب إلي الأشلاء ومغلف بالفزع والضياع .
وعن ألعاب فترة طفولته يقول داوستاشي : أعظم العاب طفولتي كانت حصانا خشبيا أركبه وأهتز فوقه للأمام والخلف وكأنني فارس همام.. ثم احضروا لي سيارة من الحديد لها بدالان أمشي بها.. ثم جاءت البندقية الرش لتتوج ألعاب فترة الطفولة لأنني بعد ذلك كنت أصنع ألعابي في ورشة أبي حتي أنه اقترح أن يركب لها "زنبلك" ليحركها وذلك قبل تحريك لعب الأطفال بالبطاريات ..
يضيف داوستاشي : لا شك أن لعب الأطفال تلعب دورا مهما وايجابيا عند الطفل من لحظة ميلاده وحتي بلوغه وربما بعد ذلك.. فالألعاب هي وسيلة الطفل للتعلم والتعرف علي العالم المحيط به.. والآن أتعجب من حال الدنيا وقد أصبحت الأجهزة الالكترونية تشغل الأطفال من سنواتهم المبكرة حتي كادت الألعاب التقليدية التي عرفناها في طفولتنا تختفي ..
لقد تغيرت ألعاب الأطفال الآن شكلا ومضمونا .. كانت ألعاب طفولتنا تعتمد علي الخيال والحكايات.. وكانت اللعبة تدخل في منظومة ينسجها الجميع: الطفل والأم والأب والجدة والأخوة.. كانت اللعبة شديدة الحيوية والتغير والتبدل كما يحلو لخيال الطفل.. اما الآن فان الألعاب أخذت اتجاها الكترونيا بصريا وسمعيا وتقدم أشكالا نمطية مصممة من قبل لتحدي ذكاء الأطفال.. إن احفادي منذ سنوات عمرهم الأولي لا يريدون شيئا غير الأجهزة الالكترونية.. إنها العاب تجاوز الطفولة وتستمر معهم إلي الشيخوخة دون أن يدروا أن طفولتهم سرقت منهم ..
كانت ألعابنا التي يبدعها الفنان الشعبي مشحونة بالفطرة والخيال وتصنع بخامات محلية بسيطة وجميلة وتجعلنا نبدع فيها من هويتنا وتقاليدنا.. والآن أصبحت الألعاب الإلكترونية لها طابع واحد علمي جامد ومحدد يضع كل الأطفال في سلة واحدة لا خيال فيها ولا فطره إنسانية حميمة.. لذلك أدخلت الالكترونيات في أعمالي الأخيرة بجوار اللعب التقليدية في حوار الحضارات الذي أوشك علي الانتهاء لصالح مستقبل رقمي جديد غامض ومخيف .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.