في مجموعتها الجديدة تنتصر سعاد سليمان لفن القص وتؤكد عودة القصة القصيرة بعد سنوات من التهميش والإقصاء، وعبر قصص المجموعة تبدو لعبة تفكيك العالم، واكتشاف الصراعات الصغيرة التي يتشكل منها بعيدًا عن الهامش الضيق الذي انسحبت إليه العديد من الكاتبات في قضية تتصورن أنها كل الحياة.. إن المرآة حاضرة في شهوة الملايكة بقوة فاعلة ومتمردة، تقوض بلا افتعال أو صراخ فكرة المركز، وتطرح سياق حياة مغاير للسياق الثقافي للرجل، بحكم التركيب النفسي الذي يؤدي حتما إلي الاختلاف في الرؤية، فالذات الساردة تقدم تجربة/ تجارب معاشة إنطلاقًا من رؤية إنسانية، وتؤكد عبر 42 قصة - نصفها ينتمي إلي ما يعرف بالقصة القصيرة جدًا- علي خصوصية فن القصة القصيرة حيث التقاطع مع الشعر من خلال التكثيف وإبراز الملامح الذاتية للسارد/ الساردة، ومع الرواية حيث الحكي والحدث ، وكان لاستحضارها ليوسف إدريس في قصة " لعنة الآي أي" والاشتباك مع نص سابق ما يؤكد الوعي بتطور القصة القصيرة، وتأثيرها وقدرتها علي الإيهام وكسر ما هو ثابت، حيث لا ندرك ما إذا كانت الساردة تعرف المريض الذي تري فيه أباها أم لا، ومن هنا كانت مواجهة الاستبداد الثقافي الذي يسعي إلي سيادة الرواية واستبعاد ما عداها من كتابات وأجناس أدبية، بلا افتعال أو صرخات، وقد منحت النصوص الصغيرة التي تضمنتها المجموعة فضاءات رحبة، وجاءت كإشارات تؤكد علي أن نصوص المجموعة متصلة ومنفصلة في آن تشكل في مجموعها سرة حياة من خلال أحداث تبدو بسيطة للغاية، وتمثل في اللحظة ذاتها إشكاليات كبري تتفاعل معها بتلقائية وانسيابية فالثورة بمفهومها الإنساني حاضرة بقوة ، وتتجاوز الحدث المعرفي المعاش إلي جوهر الثورة كصراع فكري في الأساس، نهدف من ورائه إلي استعادة وجودنا، وإنسانيتنا، سواء تمثل هذا الصراع في التفاعل بين جيلين كما في قصة " الرجل ذو العمامة "، والتباين بين رؤية الطالبة، والأب، والمسافة الشاسعة بين مايراه طلبة الجامعة، والرجل المحافظ القادم من الصعيد الذي يذهب للجامعة ليعرف أخبار ابنته فيواجه بسخرية زملائها،وعجزها عن الدفاع عنه نتيجة رفضها لتلك الأبوية التي تشكل مفاهيمه وحياته، وفي قصة "الدعاء المستجاب" حيث تسأل البنات أمهن عن سبب إخراج ثديها الأيسر عند الدعاء عليهن فتجيب الأم أنها عادات موروثة عن الأمهات والجدات و تنتهي بلوم الأبنة المقربة لها بقولها: ( و لا كنا نقدر نسأل السؤال البايخ ده) إن هذا الصراع وإن بدا عاديًا بين جيلين، إلا أنه يشكل في ذاته ثورة ضد الثابت والموروث، وتجلي ذلك بصورة أكثر حضورًا في عبارات قاطعة الدلالة جاءت طبيعية في سياق الحدث، و تلقائية مثل: خاتمة قصة " ست الحبايب" ص45 ( مسحت دموعي ولم أستطع أن أقول لها: إنني أريد الأم التي في الأغنية).... أو في قصة " بنت المجنونة ص25 ( لن أكون مثل أمي، لن أرضي بنفس مصيرها) وامتد هذا الرفض والتمرد ضد الأبنية القائمة عبر قصص المجموعة من خلال الحدث وهو ما بدا ساطعًا في جسد النص مثل قصة "قبر العندليب" حيث تثور الساردة ضد مطربها المفضل الذي عشقته، وتماهت مع رومانتيكية أغنياته، والتي تتعارض مع قسوة حياتها، وواقعها الأليم، حيث جسدها المباح مقابل مايسد جوعها، أو في قصة " سمكة الرزق" حيث تتخلص البطلة من السمكة التي أهدتها إليهم جارتها، وتلقي بالأسطورة والوهم في بالوعة المجاري،؟ وتبدأ في الاشتباك مع العالم بالسعي من أجل الرزق بعد اكتشافها خديعةالموروث، وكانت مواجهة الخطاب الديني في جدلية واضحة دوره داخل المجموعة لاسيما في قصتي " صلاة القلوب" و" عظمة يا ست " أن المسكوت عنه يشكل مساحة في فضاء النص، وجسده ، وهي ليست محاولة للتأويل إذ القصص قابلة لتأويلات عديدة، والخطاب السردي يحمل العديد من الإشارات ، ومفاتيح القراءة مثل التناص مع ما هو شعبي وحياتي كالأغنيات التي شكلت دورها داخل الوعي الفردي والجمعي مثل قمر 14 و ست الحبايب ، وكذا استحضار أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وأغنياتهم التي شكلت مساحة من الوجدان لايمكن إغفالها ، و كذا القص الشعبي بسحره، الذي يملك من الثراء ما يجاوز ما يعرف بالواقعية السحرية، مثل الحكاية التي روتها الأم في قصة " صلاة القلوب" عن الفلاح البسيط الذي يعبد الله ويمارس طقوسه وفق ما يشعر به بلا نفاق أو رياء فتجاوز قدرات الولي ومشي علي الماء، أو سمكة الرزق حيث تنتظر الأسرة الفقيرة ما ستمنحه السمكة من خير وفق الأسطورة .... وجاءت شخصيات المجموعة بلا أسماء عدا " عظمة " في قصة " عظمة يا ست " ومنح هذا التجريد للمجموعة القدرة علي تجاوز الزمكانية، فضلا عن دلالته الواضحة عن عوالم المهمشين حيث الأبطال جميعهم يعانون من الفقر، ويعيشون في أزمات اجتماعية متشابهين ومتشابكين في حياتهم، وأحلامهم الهاربة ، فالذات الساردة تعيد اكتشاف طبقة فقيرة مهمشة لا من خلال الرصد بل المعايشة، والصراع، مع جدلية بين ما هو كائن من أبنية موروثة، وما تسعي إليه عبر الأحلام الصغيرة، والشخصيات إيجابية تقاوم من أجل البقاء لاتعرف الاستسلام لواقعها بل الخروج عليه، ومواجهته، و إن برز ذلك بصورة واضحة في قصة " قمر 14" حيث الفتاة التي يسخر منها قريبها ص 19( تلاشت بهجة الأغنية عندما قال في قرف : قمر 14 حتة واحدة، وأنتي شكلك يقطع الخميرة من البيت ) فتقرر الساردة في لعبة مرواغة تزويجه من البطلة و الانتقام منه بإنفاق أمواله علي مراكز التجميل لتقدم الصورة التي يظنها الأجمل، وهنا لاندرك هل تزوجها بالفعل أم هي مخيلة الساردة التي تنتصر للبطلة وأحلامها .... إننا أمام مجموعة قصصية تشكل نسيجًا واحدًا، وتقدم من خلال الأحداث التي تبدو عادية، ويومية حياة مفعمة بالصراع في بساطة وتلقائية وانسيابية، من خلال لغة شفاهية غالبًا حتي في القصص القصيرة جدًا أو القصة الومضة- التي تميزت بلغتها شديدة الشاعرية، و المخيلة التي صنعت من خلالها حالة أقرب إلي الشاعرية، و إن احتفظت بسياقها كقصة مثل " قلوب حجرية " ص 30( لاتخجلوا من تاريخ قلوبكم الحجرية ! أليست هذه القسوة تليق بكم ؟) أو في قصة " طلاق" ص52( إقتنعت أخيرًا أن الطلاق يليق بنساء علي حافة الانتحار، عندما تسلمت جثة ابنتها! ") جاءت قصص المجموعة مدهشة بما تحمله من قدرة علي كسر ما هو ثابت، و تفكيك العالم، والاشتباك مع تفاصيله اليومية،والعادية من خلال حياة البسطاء و المهمشين، ومعايشة ظروفهم القاسية التي تدفع بطل قصة "عظمة يا ست " إلي رغبته في دفن البطاقة التي كتبت عليها أم كلثوم معه في قبره لتؤنس وحدته، إنه يتشبث بحلمه للنهاية، حتي لو أنكر عليه الجميع ذلك، و حرمه رجل الدين، إنه يمنح رغبته قداسة يستمدها من روعة الفن، وجمال الأغنيات، وكأنه يعلن قدرة الفن، و الجمال علي مواجهة قبح العالم، وبشاعته، و كأن استحضار أم كلثوم ينقذه حتي في الموت،تماما كما كان كان في استحضار يوسف أدريس، ورائعته " لغة الآي آي"مواجهة مع رؤية سلطوية احادية ضد التنوع والتعدد، عمدت إلي إقصاء وتهميش القصة القصيرة لصالح الرواية، وها هي القصة القصيرة تتصاعد، وتتقدم منذ ثورة يناير إلي الآن عبر مجموعات قصصية مدهشة،صدرت في الأونة الأخيرة منها "شهوة الملايكة "