"فانطلقي يا حبيبتي، افتحي الباب عريضًا علي مصراعيه، واتركيه مفتوحًا.. وفي الطريق المفتوح ستجدينني يا حبيبتي، أنتظرك، لأني أثق بك، وأثق في قدرتك علي الانطلاق، ولأني لا أملك سوي الانتظار.. انتظارك"، من خطاب حسين إلي ليلي في فيلم الباب المفتوح (1963 هنري بركات) ، قطرة حب مركزة تحاول أن تغسل ذنوب مجتمع تنتقل من جيل إلي جيل باعتيادية تنسحق المرأة بين أنيابها دون أي إحساس بالذنب أو تأنيب الضمير، ثم يأتي هذا المُحب لينتشل محبوبته من ركام العادات والتقاليد الضاغطة بقوة علي الروح، يمنحها إشارة التحرر والخروج إلي الباب المفتوح والمُشرع علي الفضاء الشاسع للذات المستقلة، ويحاول أن يساعدها كي تقطع كل خيوط التبعية وألا تمشي وراء أي ظل، وهي في الحقيقة محاولة عزيزة الحدوث في الواقع وفي الافتراضي، فيقول لها المُحب الثائر:" وأنا أحبكِ وأريد منكِ أن تحبيني، ولكنّي لا أريد منكِ أن تفني كيانك في كياني ولا في كيان أي إنسان. ولا أريد لك أن تستمدي ثقتك في نفسك وفي الحياة مني أو من أي أنسان. أريد لك كيانك الخاص المستقل، والثقة التي تنبعث من النفس لا من الآخرين". والمثير في شخصية ليلي هي أنها عادية، رسمتها الكاتبة لطيفة الزيات في روايتها الشهيرة التي تحمل نفس عنوان الفيلم، كفتاة تخرج من رحم مجتمع ذكوري وازدواجي يتدني في تعامله مع النساء، وليلي نموذج لفتيات عصرها.. ضعيفة لكن لديها نزعة تمرد تعينها قليلاً علي المقاومة والسعي إلي الباب المفتوح، في كنف أم هي ذاتها ضعيفة وخائفة لاتملك سوي أن تعنف ابنتها طوال الوقت بقاعدة "اللي يمشي علي الأصول ما يغلطش"، وأب متجهم يصرخ فيها بمجرد أن يظهر علي وجهها شبهة اعتراض ويقذفها ب"الشبشب" لأنها شاركت في مظاهرة، وعلي هذه الخلفية أصبحت ليلي شاهداً علي نضوج فاتن حمامة ومفتاح تألقها، ليس لأنها بدت طبيعية وتشبه بدرجة كبيرة مؤلفتها في مرحلة معينة من حياتها كانت تمور فيها البلاد بالأحداث السياسية الساخنة، وليس لأن البطلة كما المؤلفة أبصرت طريقها وتعلمت أن حريتها ألا تكون كما أرادها لها الآخرون، أو لأنها ظهرت في فيلم عبر عن التنامي في التعامل مع المرأة بشكل معمق خصوصاً بعد ثورة يوليو، هذا التنامي الذي بدا في أبهي صوره في الستينيات، ولكن أيضاً لأن "فاتن" الممثلة تخلصت من الصورة المستعارة أو بالأحري من الأدوار النمطية، إرثها من البدايات في زمن تسيد الميلودراما وتكرار دور الفتاة الفقيرة الكسيرة المعذبة أو العزيزة التي يذلها الزمان "أنا بنت ناس يا ناس" (أفلامها مع حسن الإمام)، إلي الرومانسية الحالمة والفتاة الوديعة علي صورتها المحافظة في عيون جماهيرها، فهي هنا تنهض من قاع حواديت البكاء إلي عالم الواقع بقضاياه الأوسع، وتركض ليلي علي رصيف محطة القطار لتلحق بحبيبها ورفاقه لتحارب معهم في بورسعيد، متجاوزة كل مخاوفها ومحاولات تنميطها في تحد واضح لسلطة الأب والخطيب المتزمت والتقاليد التعيسة. ولم تكن ليلي هي الشخصية الوحيدة التي تشظت علي حدودها الصور القديمة، فقبله تجرأت فاتن وصدمت جمهورها حين جسدت شخصية نادية بطلة فيلم "لا أنام"، 1957 عن رواية إحسان عبدالقدوس وإخراج صلاح أبوسيف (تخلت فيه عن قناع البراءة والعذوبة لترتدي قناع الشر كمراهقة تحركها غرائز شيطانية)، فيما تعاطف الجمهور مع نوال في "نهر الحب" 1960 ، عن رواية آنا كارنيننا للروسي ليو تولستوي ومن إخراج عز الدين ذو الفقار، وارتدت جلابية الفلاحة في زمن أصبح لديه وعي شعبوي مختلف فغني عبدالحليم المواويل والشعبي بعد صعود نجم محمد رشدي في هذا اللون، وبعدما نجحت سعاد حسني في الفيلم الفولكلوري "حسن ونعيمة"، قدمت فاتن شخصية أمنة البدوية التي تسعي وراء ثأر شقيقتها في "دعاء الكروان" 1959، عن رواية طه حسين وإخراج هنري بركات، فتحب عدوها المهندس المتسبب في قتل شقيقتها بل وتتلقي هي الرصاصة بدلاً عنه في النهاية، دور خارج الإطار المعروف لها خصوصاً ما أشيع من أنها كانت ترفض هذه النوعية من الأدوار، علي الرغم من أنها سبق أن قدمت الفلاحة الصعيدية زبيدة (1951 يوسف شاهين) وكانت نموذجاً مقهورا مستسلما لمصيره، فهي فتاة تعيش الحب من طرف واحد والصدفة هي التي تجعل حبيبها يقترب منها ولكنه لايتعامل مع مشاعرها وإنما مع جسدها ويتزوجها بعد ذلك مجبراً. لتعود مع عزيزة في "الحرام"، 1965 رواية يوسف إدريس وإخراج بركات، التي تسقط تحت ضغط الحاجة، حين يعتدي عليها صاحب الأرض وهي تسرق جذر البطاطا لزوجها المريض الذي أقعده مرضه عن العمل والحركة وصارت تعمل هي مكانه مع عمال التراحيل، فتموت عزيزة إثر الحمي بعد مولد الطفل الحرام فيما يشبه الانتحار خاصة بعدما قتلت طفلها، وتتسع الصورة بشكل أكبر مع شخصية نعمة في أفواه وأرانب (1977 إحسان عبدالقدوس بركات)، ولكن يظل دورها في "الخيط الرفيع" 1971، تعاون آخر بين إحسان عبدالقدوس وبركات، هو الأبرز في الجرأة شكلاً ومضموناً بل جعلها تتخلي عن براءتها ورقتها المعهودة ليسجل لها أنها أول من صرخ في السينما المصرية بالعبارة الشهيرة "يا ابن الكلب". 97 فيلماً حتي آخرها وهو أرض الأحلام (1993 ذ هاني فوزي داود عبدالسيد)، منحتها مكانة بارزة في المشهد السينمائي ورشحتها لتكون سيدة الشاشة ونجمة القرن وغيرهما من ألقاب حصلت عليها فضلاً عن الجوائز، لكنها أيضاً كرست لنجمة صاحبة صورة مثالية في عيون جماهيرها لم يجرحها تمردها من حين لآخر للخروج من إطار هذه الصورة، فكانت كالفراشة تغير ألوانها، وتتخلي تدريجياً عن ملامح الصورة القديمة، ولم تعد هي المقهورة الخاضعة لقسوة المجتمع أو المريضة، الدور الأكثر تكراراً (موعد مع الحياة، أيامنا الحلوة، موعد غرام، لحن الخلود...) لتدخل مرحلة جديدة أكثر مقاومة، كما في فيلم "الطريق المسدود" (1958) عندما قدمت شخصية الفتاة التي تبحث عن ذاتها وتدافع عنها، رافضة حياة الفساد التي تعيشها أسرتها، والدتها وأختيها، وتتطلع الي حب وحياة نظيفة كما تقرأ في الروايات، بالرغم من الجو الملوث المحيط بها والذي لازمها حتي في القرية التي سافرت إليها لتعمل كمدرسة، حيث قوي الشر والفساد التي أحاطتها وأفقدتها الرجل الذي أحبته هناك والذي خذلها ولم يقف بجوارها، لكنها خرجت منتصرة ومحافظة علي كبريائها، وكذلك كما في " لا وقت للحب" (1963) لصلاح أبوسيف عن قصة يوسف إدريس. هذا التنامي في مشوارها هو ما رصده أحمد بهاء الدين حين قال عن فاتن: "ويمكن للمرء أن يشم موهبته من بعيد"، بينما وصفها خيري شلبي باللؤلؤة" مستطرداً في وصفها بأنها ممثلة مركبة كالفطيرة المشلتتة.. رقائق من الخبز يفصل بينها دسم«.وكان هذا النضوج الفني قد اشتعل ملازماً لنضوج آخر بدا في شخصيتها المفرطة الحساسية والذكاء كسائر مواليد برج الجوزاء، مما ساعدها علي تطوير شخصيتها كممثلة، وصادف ذلك ظهور عمر الشريف في أفق حياتها ليكشف عن الجانب الخفي في نفسية فاتن حمامة والمناقض لوداعتها المرسومة علي وجهها والمفتون بها الجميع، لتطل المغامرة والمدافعة عن حبها بعد قبلة عابرة وعميقة في فيلم "صراع في الوادي" أفسحت المجال لحب كبير وتعاون سينمائي متكرر (صراع في الوادي، أيامنا الحلوة، صراع في المينا، لا أنام، سيدة القصر، نهر الحب)، فعلاقتهما كان فيها هذا الألق المنسحب علي حضورهما علي الشاشة والذي لا يخلو من منافسة خفية تزيدهما عنفاً في إثبات الذات،"كنت أشعر أنها بمثابة رئيستي"، هكذا اعترف عمر الشريف ذاته بأن شهرة فاتن في القاهرة كانت تزعجه، مؤكداً أنه لم يكن يستطيع التمثيل مع أخري ولو حدث فإن فاتنتظل تفرض ظلالها وسيطرتها عليه لدرجة أنه يصبح هو التلميذ، وهي الرئيسة. في ظل هذا الوضع كان عمر الشريف متأرجحاً بين عمله ونجوميته وزوجته الأكثر نجومية في القاهرة، وبين نداء نداهة السفر والعالمية، صراع لم يحسم لصالح فاتن حمامة التي طُلقت من عمر الشريف أثناء تصويره فيلم "د. زيفاجو"، والمقربون من فاتن في هذه الفترة أكدوا أنها صارت مختلفة، كانت تعتذر عن أية ارتباطات فنية، ثم فاجأت الجميع بقرارها النهائي بعدم العودة إلي مصر، حيث تنقلت بين بيروت ولندن وباريس، واستناداً إلي حواراتها الصحفية أشارت فاتن إلي أنها غادرت مصر احتجاجاً علي ضغوط سياسية تعرضت لها في تلك الفترة، ولم ترجع إلي مصر إلا في عام 1971 بعد وفاة عبدالناصر الذي منحها وساماً فخرياً في بداية الستينيات، وهو ما رواه الراحل سعد الدين وهبة مقدماً شهادته عن موقف عبدالناصر الإيجابي من فاتن حمامة في مقال بعنوان "فاتن حمامة.. ثروة قومية"، ضمه كتاب (فاتن حمامة.. نجمة القرن) الذي قام الناقد طارق الشناوي بإعداده والصادر عن مهرجان الاسكندرية السينمائي الدولي في دورته السابعة عشرة والتي أقيمت في العام 2001، وهي الدورة التي تم فيها تكريم فاتن حمامة باعتبارها نجمة القرن، وقد أكد وهبة أن عبدالناصر كان حريصاً علي عودتها وأنه قال لزكريا محيي الدين رئيس وزراء مصر: " فاتن حمامة ثروة قومية ولازم ترجع مصر". علي أية حال، تنوعت الشخصيات التي جسدتها فاتن حمامة في مشوارها الحافل، لكن ظلت لديها هذه النظرة بين البراءة والشقاوة، العمق والسطحية، الحب والخوف.. لمعة وألق في عينيها كما في نظرة أنيسة الطفلة الصغيرة في فيلم يوم سعيد (1940 ذ حمد كريم)، وهي تشاكس محمد عبدالوهاب في شقاوة تلائم عمرها حينذاك دون أن تهاب نجوميته الساطعة، فقط هي كانت فاتن ابنة العائلة البسيطة القادمة من مدينة المنصورة، الأم زينب هانم توفيق والأب أحمد حمامة أفندي موظف وزارة المعارف والتي استشرفت مستقبلها الفني في السادسة من عمرها حين رأت الفنانة آسيا داغر تحضر عرض فيلم لها، في سينما عدنبالمنصورة، ولفت نظرها وقتها تصفيق الجماهير لهذه السيدة الجميلة بحرارة فانتابها إحساس غريب وحلم أكبر من سنها فتخيلت أن كل هذا التصفيق كان لها وأبلغت والدها بهذا الشعور فاحتضنها بشدة.