من السخف أن ننتظر، أن يموت فنان له قيمة وتاريخ، حتي نتذكره ونكتب عن إنجازاته ومآثره، أو نتحين فرصة يوم مولده، لنتحدث عنه! بينما نفرد الصفحات لمن هم أقل شأناً لمجرد أنهم يحدثون ضجيجا، ويملأون الساحة صخبا، بلا فائدة أو إنجاز يذكر! بعضنا لم يكتب حرفاً عن الفنانة وردة، إلا بعد إعلان وفاتها، ونسينا أنها أمتعتنا بروعة صوتها وتفرده، من خلال عشرات الأغنيات الساكنة في وجداننا، آه لو قابلتك من زمان.. كانت حياتي اتغيرت، هل كنا ننتظر وفاتها لنعيد اكتشاف الأغنية، وغيرها من أروع ماقدمت من ألحان بليغ حمدي أو عبدالوهاب والسنباطي والموجي وسيد مكاوي؟ بدأت بعض الصحف تمهد لخبر نخشي أن نسمعه عن واحدة من أهم فنانات مصر، في مجال الغناء والتمثيل، بل إن بعض الجرائد خصصت صفحات كاملة للحديث عن حبيبتنا وحبيبة مصر شادية، وكأنها قد رحلت فعلا، ولا مانع عندي أو عند غيري أن نفرد لها أعدادا ضعف تلك المساحة، في ظروف ومناسبات أخري، فهي تستحق علي أية حال، بل إن تجاهلها طوال تلك السنوات، يعد جريمه في حقنا وليس حقها وحدها! ولكن أن ينحصر اهتمامنا بترقب وفاتها، والشاطر فينا هو من يسبق الآخر في إعلان خبرها! فهذا هو السخف بعينه! وعلي صعيد آخر أبدي البعض اهتماما بعيد ميلاد فاتن حمامة، بوصفها واحدة من أبرز سيدات شاشة السينما المصرية، فقد بلغت في 62 مايو عامها ال28 متعها الله بالصحة والعافية، قضت منها 07 عاما علي الأقل تعمل في مجال السينما والإذاعة ثم التليفزيون، وقدمت مايزيد عن ثلاثمائة فيلم معظمها يعد من كلاسيكيات السينما المصرية! وبين شادية وفاتن أوجه كثيرة للشبه، ووجوه أكثر للاختلاف، ورغم انطلاق نجوميتهما في نفس الزمن "نهاية الأربعينيات"، إلا أنه لم يحدث بينهما تنافس، أو أي نوع من الصراع كما كان بين فاتن وماجدة الصباحي في الخمسينيات، وفاتن وسعاد حسني في الستينيات، شادية لم تعرف في تاريخها صراعات، ولم تكن تنافس أحدا، ولم ينافسها أحد، لافي مجال الغناء ولا التمثيل! فهي حالة متفردة، منفردة لايمكن القياس عليها، ولم يحدث في تاريخ السينما المصرية، أن حققت مطربة نجاحا في مجال التمثيل مثل شادية، لقد اجتمعت مع فاتن حمامة سيدة الشاشه مرتين إحداهما في فيلم "موعد مع السعادة" إخراج عز الدين ذو الفقار، والمرة الثانية كانت في فيلم المعجزة، وقد كان المخرج حسن الإمام يعتبر أن الجمع ما بين فاتن وشادية معجزة في هذا الوقت لأن كلا منهما كانت في قمة مجدها وألقها »2691« وبينما لعبت فاتن حمامة دوراَ يتفق مع الصورة الذهنية التي تفضل أن يعرفها بها الجمهور، وهو دور صحفية تهتم برصد مشكلات المجتمع وتأثيرها علي نفوس البشر، كانت شادية تتمتع بقدر أكبر من حرية الاختيار، وقدمت دور نشالة جميلة، تعمل ضمن عصابة، وعندما تحاول الصحفية أن تغير من حياتها وتهيئ لها فرصة للتوبة، وتبعدها عن العصابة، وتستضيفها في منزلها، لم تتورع النشالة عن خطف خطيب الصحفية الحالمة، وكان المخرج حسن الإمام قد اختار الفتي الوسيم عمر الترجمان، الذي ظهر في السينما كالومضة ثم اختفي نهائيا، ليصبح مجال صراع وتنافس بين المرأتين، أما في مجال التمثيل، فقد حسمت شادية التنافس لصالحها، بما يشبه الضربة القاضية! اشتهرت شادية بلقب الدلوعة، وقد نالت هذا اللقب لأنها كانت تجمع بين الجمال"الطعم" وبين البراءة، والطعامة صفة تزيد الجمال رونقا وعذوبة، فتاريخ السينما المصرية يضم الكثير من الجميلات يفقتدن للطعامة، فلم تتمكن أي منهن أن تصل لقلوب الجماهير، والمثال الصارخ علي ذلك ليلي فوزي "جميلة الجميلات"! وقد قدمت شادية عشرات الأدوار في بداية عملها في السينما، لم تخرج فيها، عن شخصية الفتاة المراهقة التي تنتظر العريس، وتقدم أغنيات يغلب عليها البراءة، والدلع وخفة الظل، مثل خمسة في ستة بتلاتين يوم، غايب عني وغاب النوم، أو يادبلة الخطوبة عقبلنا كلنا، واحد اتنين.. واحد اتنين أنا وياك ياحبيب العين، وسوق علي مهلك سوق بكرة الدنيا تروق! ولكنها بعد أن وصلت إلي مرحلة النضج واكتمال الأنوثة، فاجأت الجمهور بدورها الجريء في فيلم "إرحم حبي" الذي قدمت فيه أغنيتها الخالدة "القلب يحب مرة.. ميحبش مرتين" خرجت في هذا الفيلم من قالب الفتاة المراهقة التي تحلم بالعريس، إلي قالب المرأة التي تسعي للرجل الذي تريده، حتي لو كان لامرأة أخري! أما خبطتها الكبيرة التي لفتت النظر لمقدرتها المتناهية علي التمثيل، فكانت مع المرأة المجهولة الذي يمكن أن تعتبره، بداية مرحلة جديدة في مشوارها السينمائي، قصة الفيلم مأخوذة عن وراية مدام إكس، وقد ظهرت في معظم أحداث الفيلم وهي سيدة عجوز متآكلة، هدتها السنون، وأبعدتها عن زوجها وطفلها لسنوات طوال، وتلتقي بهما مرة أخري بعد أن أصبح الطفل رجلا، والزوج كهلا، وتحولت هي إلي قاتلة تنتظر حكم الإعدام!! طبعا كان الفيلم يغلب عليه الميلودراما في أضعف صورها، ولكن ما يعنينا هنا، قدرة شادية علي تلوين أدوارها، وعدم احتياجها للغناء في فيلم لايحتاج إلي ذلك، ولكن لأن شجاعة المخرج خانته، وخشي أن يقدم مغامرة فنية متكاملة لشادية بدون غناء، وكمان في شخصية امرأة عجوز شمطاء! حاول البعض تكرار التجربة مع فيلم"لاتذكريني " ورغم أنه أفضل فنيا، إلا أنه لم يحقق نفس النجاح الذي حققه المرأة المجهولة، لسبب بسيط أنه جاء بعده! ولكنه علي أية حال كان مقدمة لأدوار متنوعة لا تستطيع نجمة أخري أن تقدمها! منها شخصية العاهرة "نور" في قصة نجيب محفوظ اللص والكلاب، للمخرج كمال الشيخ، وشخصية حميدة في قصة أخري لنجيب محفوظ هي زقاق المدق وكان المخرج هذه المرة هو حسن الإمام، ومعه قدمت التلميذة، أول أفلام حسن يوسف، كانت نهاية الخمسينيات فترة ازدهار فني لشادية من خلال شاشة السينما، ومن خلال أغانيها أيضا، وعندما حلت سنوات الستينيات كانت شادية تكاد تكون الوحيدة التي تجمع بين نجومية الغناء والتمثيل، وقدمت في هذه المرحلة فيلم الطريق إخراج حسام الدين مصطفي، وميرامار إخراج كمال الشيخ، طبعا واضح جدا انحيازها لأدب نجيب محفوظ الذي اعتبرها النموذج المثالي للأنثي التي يكتب عنها، وذلك بعكس فاتن حمامة التي انحازت لأدب إحسان عبدالقدوس وقدمت له أفلام الطريق المسدود، ولا أنام، وإمبراطورية ميم، والخيط الرفيع درة تعاونهما الفني، وهو يكاد يكون الفيلم الوحيد الذي خرجت فيه عن صورتها الذهنية التي طبعتها عنوة في أذهان الجماهير والتزمت بها لأكثر من نصف قرن، في الخيط الرفيع قدمت فاتن حمامة لأول مرة دور محظية أو عاهرة ملاكي لأحد أثرياء سنوات السبعينات، وهو أحد أهم أفلامها أو أهمها علي الإطلاق، وكانت قبل سنوات قد رفضت أن تلعب دور العاهرة الفقيرة "نفيسة" في فيلم بداية ونهاية قصة نجيب محفوظ إخراج صلاح أبوسيف، وهو الدور الذي صنعت به سناء جميل مجدها الفني وتبعته بدورها في الزوجة الثانية مع صلاح أبو سيف أيضا! تجاوزت شادية كل التوقعات والاحتمالات وفتحت لنفسها طاقة جديدة تؤكد تفردها كممثلة، عندما لعبت دور فؤادة في فيلم "شيء من الخوف"، هذا الفيلم الذي أصبح بعد ذلك أحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية، ولكن شادية التي كانت قد وصلت إلي مرحلة ما بعد النضج وقد تخطت الاربعين من عمرها، وهي المرحلة التي لاتتعامل معها السينما المصريه كثيرا، فقد كان عليها أن تقدم ما يناسب عمرها، وهنا ظهر دور المخرج أشرف فهمي الذي قدم لها مجموعة من الأفلام شديدة التميز امرأة عاشقة، أمواج بلاشاطيء، رغبات ممنوعة لم يعرض في صالات السينما، لاتسألني من أنا آخر أفلامها ! قدمت شادية مجموعة من الأفلام الكوميدية المميزة معظمها من إخراج فطين عبد الوهاب منها الزوجة 31 مراتي مدير عام، عفريت مراتي، أضواء المدينة أول فيلم غنائي، بمعني أن الغناء فيه ليس مجانيا لمجر أن بطلة الفيلم مطربة، يبقي لازم تقدم كام أغنية حتي لو كانت خارج السياق، ولكن فيلم أضواء المدينة كان فيه الغناء بديلا عن الحوار في كثير من المشاهد، ولذلك غني أحمد مظهر وعبدالمنعم إبراهيم وعادل إمام وإبراهيم سعفان.. إنه محاولة مصرية لتقديم فيلم غنائي علي غرار أفلام هوليوود سيدتي الجميلة وصوت الموسيقي وغيرهما. بعد نجاحها الطاغي في تجربتها المسرحية الوحيدة التي أخرجها حسين كمال عن نص لبهجت قمر، ومسرحية ريا وسكينة، قررت شادية أن تعلن اعتزالها في منتصف الثمانينات، ولم تعلن حتي الآن السبب الحقيقي الذي دفعها لذلك، ولكنها انسحبت بهدوء شديد، واحترمت تاريخها الفني، ولم تعلن مثل غيرها تبرأها من أفلامها، والتزمت بالصمت ومتابعة ما يحدث علي الساحة الفنية، وكانت تشارك برأيها فيما يعجبها من أعمال فنية، ولكنها لم تتجاوز، ولم تدع أنها أكثر تقوي من غيرها، ولم تذم أحدا أو تلعنه، إنها نسمة مرت علي تاريخنا الفني وصوتها شارك في أحداث ثورة يناير وكانت ياحبيبتي يامصر تجلجل في أنحاء الميدان تطمئن الثوار أنهم لابد منتصرون، ولايزال صوتها يشجينا سواء في أغانيها العاطفية أو الوطنية، وسوف يظل معنا إلي آخر العمر، سواء كانت بيننا أم ذهبت لمكان آخر أفضل كثيرا من عالمنا هذا.