تشغلني دوما قضية " موت المؤلف" في المسرح المصري والعربي تحديدا ذلك لأنهما ما يزالا يعتمدان إلي حد كبير علي النص الدرامي حتي في مسرحيات ما بعد الحداثة التي لا تكترث بالتناول الكلاسيكي القائم علي بداية ونهاية وحبكة.. فقد مضي ذلك الزمن واستعاض المسرح المصري عنه بأساليب جديدة في التكنيك المسرحي وانحصرت قضية موت المؤلف فقط عند الانتقال من جنس أدبي إلي أخر كما حدث في نصوص الأديب د. يوسف إدريس عندما انتقل بعضها من القصة القصيرة إلي نص مسرحي.. ومثال علي ذلك مسرحية " بيت من لحم " التي قدمت علي خشبة المسرح قبل سنوات طويلة من إخراج د. عاصم نجاتي في بداياته الإخراجية وكذلك في بعض روايات أديب نوبل نجيب محفوظ التي انتقلت نصا مسرحيا. وعادة يشغل المؤلف المسرحي نفسه عندما يكتب للأطفال بسؤال بديهي: لمن أكتب وفي أي مرحلة عمرية وكيف أقدم صيغة مناسبة يتقبلها الطفل وينسجم معها بيسر وسهولة ؟ هذا السؤال تحديدا يبدو في طرحه أقرب إلي صناعة عرض بعيدا عن الاحساس بالخيال.. هو احساس تجاري أبعد ما يكون عن حلم خلق عمل أدبي درامي يجتهد فيه المؤلف ويسمح فيه لخياله بالعنان. وأحسب وبعد قراءة متأنية ودقيقة علي مدي عدة أيام أن المؤلفين إيهاب الحضري وإيمان الشافعي لم يطرحا علي نفسيهما هذا السؤال وأنهما سرحا طويلا بخيالهما في إيجاد نص مسرحي "محبوك" بذلا فيه جهدا كبيرا ليخرج بهذا الشكل قطعة رائعة من الدراما المسرحية كلما قرأت وسعيت إلي الاستفسار وجدت الإجابة في السطور القادمة وهكذا حتي تجد نفسك تعيش أحداث زمن لم يأت بعد لكنك تحسه وتعيشه.. نص ينتمي لمسرح ما بعد الحداثة لكنه يخضع نفسه لشروط المسرح البريختي نسبة إلي بريخت الذي يتشارك فيه المؤدي مع المتلقي فينصهر الأثنان داخل نسيج العرض. كان المؤلفان علي درجة عالية من الفهم بمتطلبات الطفل ولاستيعابهما للتكنولوجيا الحديثة التي غزت العالم وجعلته عبارة عن قرية واحدة استقرا علي شكل حديث لمسرحيتهما " فراشات تبحث عن أجنحة" حتي بدا النص تناولا متقدما بالنسبة لي وأنا عضو لجان النصوص بمسرح الدولة وأقرأ الكثير من النصوص التي تشعرني بأهمية تحديث أدوات المسرح ونصوصه خاصة أن معظم المؤلفين يتعاملون مع الطفل الآن علي أنه هو طفل سنوات الستينيات.. أي يكتبون لطفولتهم التي عاشوها وعاشوا مع حكايات أمنا الغولة والشاطر حسن وسندريلا ونسوا أن طفل اليوم هو نتاج عصر التكنولوجيا التي تقفز بطريقة متسارعة.. المهم يتجاوز المؤلفان إشكالية المرحلة السنية بمهارة ويؤلفان عملا يصلح لعدة مراحل سنية في الأطفال كل يراها علي حدة من منظوره الخاص وبدون مبالغة يستمتع بها الكبار أيضا.. لماذا ؟ الخط الدرامي للنص المسرحي يسير في اتجاهين متوازيين.. الأول الذي يهم الطفل هو العالم الفضائي الذي نسجه خيال المؤلفين الحضري والشافعي.. والثاني هو الإطار الداخلي الذي تدور داخله الأحداث وهو طرح قضايا سياسية واجتماعية آنية نعيشها ونناقشها بل ولنا فيها وجهات نظر مختلفة حتي ولو اختار المؤلفان العالم المثالي شكلا وموضوعا.. الطرح الدرامي للمسرحية يفترض عالما مثاليا عام 3000 الميلادي.. أبطاله 8 أطفال يميزهم الرقم وليس الأسم وهو طرح مقبول لشخوص تتحرك بأجهزة الكمبيوتر داخل مستعمرة تدار بالريموت كنترول علي كوكب الأرض.. الآمر الناهي داخلها هو "الصوت الإلكتروني".. وعذرا لاستخدام لفظ مستعمرة الذي لم يستخدمه المؤلفان حيث لم يحددا مكانا بعينه علي الأرض لكنه الاحساس الطاغي علي كاتب هذه السطور منذ لحظة تصفحي للنص والذي لم أكن أقرأه بعين القارئ فقط لكنني كنت أقرأ وأتخيل هذه المشاهد مجسدة علي خشبة المسرح.. وكنت استعيد قراءة كثير من الصفحات عدة مرات. تناول المؤلفان ثورة الأطفال أو بالأحري ثورة الأرقام من بداية الفصل الثالث وهي ثورة أقرب إلي ثورة 25 يناير في مصر مع أن المؤلفان يؤكدان أنهما كتبا المسرحية منذ أربعة أعوام قبيل إندلاع ثورة يناير وعلي كل حال هذا جزء من الخيال للمسرحية برمتها.. وفي القراءة للنص لا يمكن أن تنفك من التفكير فيما كان يحدث في الاتحاد السوفيتي أيام الرئيس جورباتشوف مثلا.. سيذهب فكرك علي الفور إلي القبضة الحديدية التي كانت تحكم هذه الدولة المترامية الأطراف ففيها الإبداع رغم القيود المفروضة علي المواطنين.. ففي الواقع ظلت الفنون الرفيعة كفن الباليه مقصورة الشهرة علي هذه الدولة ففيها فرقة البولشوي أعظم فرقة باليه في العالم وتتعاظم فيها كل الفنون رغم القبضة الحديدية.. منتهي التناقض لكنه حدث هناك ! في هذا العالم الذي يدار فيه كل شيء بالكمبيوتر ممنوع علي الأطفال استخدام لفظ " منافسة" لأنها تخلق التعصب.. لا يعرفون اللعبة الشعبية الأولي في العالم.. كرة القدم التي يصاحبها التعصب.. هناك عالم افلاطوني تماما.. الكل متساوون في الحقوق والواجبات.. الأطفال يدرسون والتعليمات تصل إليهم من خلال الصوت الالكتروني.. الولد المتمرد فيهم هو رقم "8" وهو أصغرهم سنا وأكثرهم سؤالا.. أما رحلاتهم التي يحصلون عليها كمكافاءة علي تفوقهم فهي للقمر وليست لحديقة الحيوانات أو الأورمان. أما عن السياق الدرامي للنص فمن الملاحظ استخدام لغة بسيطة ساهمت بدون شك في وجود مساحات للتخيل للمتلقي.. ورغم عدم وجود أسماء بعينها للشخصيات فمن السهل التمييز بين الأرقام أو الأطفال فلكل منهم سمات يتصف بها وهذا في حد ذاته يذلل كثيرا من الصعوبات في حالة تجسيد النص كعرض علي خشبة المسرح.. ويطرح المؤلفان قضية "الحرية" في هذا العالم المثالي.. في الالفية الرابعة لنكتشف أنها منقوصة هناك أيضا.. فهذا العالم يدار من خلال نظام حديدي قوي ومع ذلك يتعرض للإختراق من داخله.. تماما كما حدث في مصر إبان حكم مبارك حينما انهار النظام في أيام معدودة.. وقس علي ذلك أيضا ما حدث في الاتحاد السوفيتي من قبل وكذلك ما حدث في ليبيا واليمن وسوريا وتونس.. والسؤال.. هل كان الحضري والشافعي يقرأن الغيب أو أنه الخيال وحده فقط الذي نسج حكايات درامية كثيرة سواء كانت حاضرا أم مستقبلا.. أنها القدرة علي التأليف والحكي والتخيل مستندا علي حكايات الماضي والحالي. الاستبداد النظام الحديدي الطاعة العمياء دولة المخابرات المثالية الأفلاطونية.. كلها إشارات ورموز واضحة في سياق الدراما وهي بدون شك مطلوبة بشدة الآن بعد زوال العهد الحديدي للرقابة علي المصنفات الفنية التي كانت تتوقف كثيرا أمامها في نفس الوقت الذي تتغاضي فيه عن مشاهد "بورنو فجة" لأن الثقافة شئ أخر ربما تحرض علي الثورة. الحدث الدرامي يسير في اتجاه تصاعدي نحو الذروة حيث تبدأ إرهاصات الثورة علي النظام في لغة رصينة لا فزلكة فيها ولا تعالي علي القارئ.. لغة عربية فصحي مطلوبة في مسرحنا العربي.. لغة لا تنتمي لعالم أفلام الكارتون المتميزة الا في الأحداث فقط. وهناك ملاحظة هامة لابد من ذكرها وهي تتعلق بالإنتاج فقد راعي المؤلفان بدقة أبرز سمات العروض المسرحية وهي تقديم منتج جيد بأقل التكاليف في الديكور والملابس والاعتماد علي عناصر إبهار غير مكلفة علما بأن أهم سمات مسرح الطفل هو " الإبهار" ثم مساعدة الطفل علي إعمال عقله ومن ثم الاستفادة من المعلومة مهما كانت صعوبتها. باختصار شديد وبصدق.. لم أجد في هذا النص ما يستفزني للاعتراض عليه حتي الأغنية أو القصيدة الشعرية فقد وجدتها مناسبة تماما لبداية النص: نحن الأرقام البشرية.. نحيا في عصر الحرية. ونصون القيم المرعية.. بنظام.. نحو الألفية إلي آخر القصيدة.. ورغم أنه العمل الأول للمؤلفين " مسرحيا" فقد شعرت أنهما كما لو كانا علي معرفة مسبقة بطبيعة متطلبات خشبة المسرح واستهلال طيب لهما في أبي الفنون.