الفن إنجاز حضاري، يزدهر وينحدر مثل كائن حي.. ولكن ازدهاره مكفول بما ناله من رعاية وعناية وشأنه شأن النبات، اذا ما أحسنت رعايته أتي بأحسن الثمار.. ورعاية الدولة للفنون واجب من أهم واجباتها، لأن الفن هو الواجهة الحضارية التي يقاس بها تقدم الشعوب.. غير أن هذه الرعاية لاينبغي أن تكون مقصورة علي فئة دون أخري أو علي المحترفين وحدهم، أو الذين حققوا نجاحا ملحوظا في حياتهم، بل يجب أن تشجع الدولة جميع المواطنين من كل الأعمار بدءا من الطفولة ومرورا بالشباب وانتهاء بالراسخين في الفن ممن تجاوزوا سن الشباب.. والبحث عن المواهب إحدي مسئوليات الدولة، لأن الموهبة ثروة لايستهان بها، مثل البحث عن الكنور المطمورة في باطن الأرض، فقد يكون في أقصي البلاد أو في صميم الريف مواهب نادرة وملكات واعدة لو اكتشفت وأحسن توجيهها وصقلها ربما يكتب لها ان تصبح عبقرية عالمية تتجاوز حدود منبتها.. فقد كان مختار، والعقاد، وطه حسين، وأم كلثوم وغيرهم علامات في تاريخ نهضتنا الفنية والثقافية وجميعهم جاءوا من أعماق الريف. وتشجيع الممارسة العملية للفن ليس القصد منه الإكثار من عدد محترفي الفن فحسب، ولكن الغرض منه في المقام الأول الارتفاع بأذواق القاعدة الجماهيرية العريضة وإيقاظ الحاسة الجمالية فيهم، فينعكس هذا علي سلوكهم وعلي حياتهم وعلي بيئتهم وبالتالي ينعكس علي المجتمع ككل.. كما أن الممارسة علي مستوي الهواية من شأنه ملء الفراغ في شيء مفيد يصون صاحبه من إهدار وقته فيما لاينفع، أو الانحدار إلي هاوية الانحراف.. وهو مرض تفاقم في الآونة الأخيرة وأصبح يشكل خطرا وبيلا علي الشباب في أزهي سنوات عمره... ولاشك أن فكرة اقامة مهرجان فني سنوي للشباب دون الخامسة والثلاثين من البوادر التي سيكون لها أعظم الآثار علي مستقبل الفن في مصر وعلي الشباب ككل. ولقد اثبت تقدم العدد الهائل من الشباب للتسابق والتنافس للحصول علي الجوائز السخية التي اعدت للفائزين في هذه المسابقة، أثبت مدي تشوقهم إلي مثل هذا النوع من النشاط الوجداني الذي يعمل علي تأكيد الذات وصقل النفس وارتقاء الذوق أسوة بما يقام في مهرجانات الرياضة وما تلقاه من اهتمام ورعاية حتي انها انتقلت من حيز التنافس المحلي إلي التنافس الدولي علي مستوي الاولمبياد.. وبهذا لا يقل الاهتمام بالوجدان عن الاهتمام بالأبدان. ومن الثوابت العلمية أن الصحة النفسية والمواطنة السوية لاتتحقق الا بتوازن أعمدة النفس الثلاثة، الجسم والعقل والروح... ان تحويل المسابقة السنوية من مجرد مسابقة محلية تبدأ وتنتهي دون أن يشعر بها أحد إلي مناسبة قومية ومهرجان له دوي ورنين، من شأنه لم يكون مجالا لتألق الواقع الثقافي وتثبيت جذوره في حياتنا وتأصيل تقاليده في مجتمعنا، واذا خلت المجتمعات من مثل هذه الأنشطة أصبحت حياتنا قفرا صحراويا.. ونحن نأمل ان تتسع دائرة التسابق مستقبلا بحيث تشمل المحيط العربي كله مثلما حدث في اولمبياد الدول العربية الذي ولد كبيرا وعظيما. ولعل أبرز ما يتحقق في هذا المهرجان هو اللقاءات التي تتم بين الفنانين الشبان وبين شيوخ الحركة الفنية في ندوات تتيح لهم الاحتكاك الفكري المباشر والإفادة من خبرات الرواد من خلال الحوار البناء، ولا شك أن لهذه اللقاءات أثرا مثمرا فعالا لأنه ينير الطريق أمام الشباب الحائر ويوفر له الكثير من الجهد في تحقيق كل أو بعض طموحاته النبيلة، كما أن فكرة تكريم الراحلين من الفنانين الشبان الذين تركوا بصمات غائرة في الحركة الفنية فكرة لها دلالتها، فهي إشارة إلي أن لدي بعض الشباب طاقات متفجرة وخلاقة من شأنها أن تؤثر في وجدان عصر، وترسخ بعض القيم الغائبة في الضمير الفني. مقدمة بيكار في كتالوج الصالون الأول