يقوم العمل الأدبي أيا كان نوعه- علي توظيف معطيات الواقع ومعطيات النوع الأدبي الذي ينتمي إليه، فلا يمكن تصور عمل أدبي لايقوم علي المزج والتفاعل والحوار الدائم بين هذه المعطيات برافديها الأساسيين: الواقع والأدب من خلال منظور سردي- في حالة الرواية- يستند بدوره- علي ثقافة المبدع وقيمه وما يريد طرحه علي الآخر/القارئ. وبقدر اقتراب العمل الأدبي من هذه المعطيات أو تلك ومنظور رؤية الكاتب تتنوع الاتجاهات والمذاهب الأدبية، لكننا مع رواية "حجر الخلفة" لأسامة حبشي نجد تغييبا لقوانين الواقع وليس إلغاء للواقع- وتهميشا لجماليات النوع الروائي المعتادة، لنصبح أمام نص روائي يفرض جمالياته الخاصة،التي تبدت علي مستوي الشخصيات السردية وطبيعة المكان والزمان وحبكة البنية الروائية، حيث تجمع الشخصيات بين الواقعي والأسطوري، فشخصية "نون" وهي الشخصية المحورية في الرواية- تقدم بإسهاب يجمع بين المستويين الواقعي والأسطوري علي العكس من شخصية "ألف"- وهي الشخصية المحورية الثانية المقابلة ل"نون"- التي تبدو مكتملة في أول ظهور لها في الرواية. والحقيقة أن شخصيات الرواية بصورة عامة يمكن تقسيمها إلي ثلاثة أنماط رئيسية،الأول يجمع بين الواقعي والأسطوري،والثاني يجمع بين الواقعي والغريب، والثالث الشخصيات الواقعية التي تتمتع بصفات لافتة، ولايهمني توزيع شخصيات الرواية علي هذه الأنماط الثلاثة بقدر مايهمني تأكيد أن هذه الشخصيات جميعها تبدو فوق واقعية أو مفارقة للواقع ، وما يساعد علي تأكيد هذه المفارقة ذلك التداخل الواضح بين الإنساني والطبيعي بحيث توصف "نون" بأنها "ابنة الماء" بينما يوصف "ألف" بأنه "ابن الرمل والريح" كما تبدو "الشمس" التي عقد لها الكاتب مشهدا موسعا داخل الرواية ذات تأثير واضح علي شخصية "نون" التي تقترب من شخصية"حي بن يقظان"، فبعد الحريق الذي أتي علي القرية ولم يبق منها سوي خمسة وعشرين رجلا وسبع نساء وأربعة أطفال منهم "نون" من هنا تصبح "نون" ليست "ابنة الماء "فقط بل ابنة "الطبيعة" حيث أخذها "جمل" من أمام دارها ووضعها بمكان معزول قرب البحر وظل يرعاها خمسة أعوام"يحممها في البحر فجرا،ويطعمها بانتظام، ويسهر عليها، وأحيانا يخبرها عن الصحراء البعيدة البعيدة بطرف الأرض،عرفت منه سيرة الصحراء،وأيقنت أنها كتاب سيفتح لها عن آخره مستقبلا" ص 37.والحقيقة أن ميلاد "نون" أقرب إلي ميلاد البطل" الشعبي" الذي تلاحقه الأساطير قبل ولادته وأثناء حياته وحتي بعد موته.ومن دلائل ذلك "النبوءة" التي ألقاها "عابر السبيل" علي أمها وهي لاتزال جنينا "ستلدين بنتا وستملك شهوة الأرض،ولكن سيلعنها الجميع أينما حلت في بدايات التكوين الملهم"ص16 . فعابر السبيل هذا يعرف "نوع"الجنين وصفته واللعنة التي سوف تطارده.وهو ما تحقق بالفعل، وهنا يظهر المستوي الأسطوري ل"نون" فهي تمتلك ثديين زجاجيين وتستطيع استنشاق "الرجال" والاحتفاظ بهم أحياء في داخلها ،وهي في ذلك- تقابل"ألف" الذي يستطيع إخفاء النساء في جوفه،حتي اختفي "شمال"البلاد من "الرجال" وجنوبها من "النساء" وقد وصف حارس الحاكم هذه الظاهرة الغريبة بأن البلاد تعيش زمن "الانقلابات"وهذا مايشير إلي إحدي الثنائيات الحاكمة لبنية هذة الرواية وأعني ثنائية "الذكورة والأنوثة"حيث تبدأ هذه الثنائية بين"ألف ونون" بالصراع المدمر الذي يفضي إلي الفناء والخلاء وينتهي بالنشوة "شبقا برغم الدماء وبرغم أعضائهما المبتورة وبرغم إصرار الجيشين علي الحرب"ص110 ويقصد بالجيشين الرجال والنساء الذين خرجوا من "ألف ونون" أثناء المواجهة ، هذا الشبق الذي انتشيا به برغم الدماء جعلهما يدركان سويا أنه"يمكن قتل الوحدة واختراع الحب" "وخلق العالم من جديد، دون الاستماع لراهب أو كاهن أو حكيم"ص110 . وإذا كنا - في الشعر- نبحث عما كان يسمي ب "بيت القصيد- البيت الذي تكثف فيه القصيدة كلها دلالتها وشاعريتها فإنني أعتقد أن نهاية الرواية تقوم بهذه الوظيفة لأنها تضعنا أمام ثلاثة أطراف:ألف ونون من ناحية والراهب او الكاهن أو الحكيم بوصفهم ممثلين للسلطة الآمرة التي تتماهي بدورها مع سلطة "حارس الحاكم" ،وإذا كان "ألف ونون" قد توصلا بعد كل هذا الدمار إلي مالم تتوصل إليه هذه المستويات المتعددة للسلطة، فهذا يعني أن هذه اللغة هي العائق الأساسي أمام "خلق العالم من جديد" علي أساس من التواصل الحكيم وإدراك أن "ذات" الإنسان هي "كل الآلهة وكل المعرفة"بما يعني أن اللغة هنا تتحول لسلة داخلية كامنة في "الذات" وليست مفروضة قسرا- من الخارج،وفي هذه الحالة فقط يمكن للجيشين اللذين يقتتلان الآن "احترام سمكة أو رعاية زهرة برية وحيدة في قلب صخرة مهجورة"ص111 والاقتباس السابق يوحي بالرؤية الصوفية التي تستبطن الذات والطبيعة والكون علي العكس من الرؤي الدينية التي تلتزم الظاهر ولاتتجاوز مجموعة الأوامر "سجنوا البراح اللامنتهي في بضع كلمات تنهي ذاك عن فعل هذا وتأمر هذا بفعل ذاك"ص11 .فالكاتب/الراوي يري أن ميزة الأديان السماوية- او لنقل غايتها- هي هذه الروحانية في التعامل مع الأشياء البسيطة حولنا وليست ذلك الخوف الذي يحكم علاقتنا بالوجود وما وراءه .نحن إذن أمام بنية استبدالات تقوم علي المحو /الاثبات/الخوف /الحب/المهمة الأخلاقية/الروحانية/ القيد/الرحابة/الامتثال/السلام مع النفس ومع الآخر. وفي مقابل هذه الروحانية نجد اشارات عديدة إلي "الحسية" التي تفضي للغاية نفسها فهناك حديث عن جاذبية الجسد وفتنته "فلسفة العري" فعندما تنتهي إحدي رحلات "نون" إلي "ساحرة الماء"والفتيات الخمس نجد"من تؤنس الضوء"- هكذا اسمها الذي يحدد ابرز صفاتها- تقول" لو أن الخلق جميعا رأوا استدارة فخذيَّ ونعومة نهديَّ وتفاصيل أصابعي ما قامت الحروب:ص83 علي أنه ينبغي الالتفات إلي أن الكاتب لايضع تناقضا بين الروحانية والحسية بل يقدمها بوصفهما متكاملين أو أقرب إلي الحقيقة الواحدة،ويبدو الأمر كما لو كنا أمام رغبة ل"تأنيث"العالم بوصفة الخلاص من الحروب والدمار، فهؤلاء الفتيات يدركن أن المرأة كائن بربري الروح والروح ماهي إلا ماء يجري بدواخلهن" ويعلمن ان السماء تراقب شهواتهن لحظة هذيانهن وتود التحول لامراة مثلهن"ص81 .وهكذا تنحل ثنائية التناقض بين الروح والجسد الثنائية المحورية في الرواية الرومانسية وبين الإنساني (الفتيات الخمس) والطبيعي(السماء)،هذا التداخل/التماهي تقريبا بين الإنساني/الطبيعي يمثل عودة إلي "بكارة" الحياة ونقائها الأول وأعتقد هذه العودة او الرغبة فيها ليست سوي إمعان في هجاء حضارة "الاستهلاك البشع" وأوهام "التقدم" وتوظيف قيم الحرية والديمقراطية بما يناقض معناها وسيطرة"المال" والسجن داخل"عوالم وأكوان افتراضية لاتغني ولاتسمن من جوع"ص101 .والخروج الذي يطرحه الكاتب علي كل هذا يتمثل في اكتشاف حضارة"الداخل/الذات الإنسانية المتخلصة من قيودها"،حضارة "الجسد والعري "الذي يعني التخلص من كل مايقف حائلا بين الجسد والعالم،وحضارة احترام كل مايحيط بالجسد علي وجه البسيطة" ص102 .بهذا المعني يمكن تفسير اسطورية استنشاق/ابتلاع "نون وألف" للرجال والنساء بالتبادل بينهما،بوصفها محاولة للرجوع بهم إلي بداية الحياة حيث الخلاء وسكون الطبيعة.نون وألف" أشبه بطوفان "نوح" الذي ينهي عصورا طويلة من الصراع والاقتتال ليبدأ عصرا جديدا يعترف بصوت"الذات" ورغابتها في التحرر وتحقيق إنسانيتها.وهما من أجل ذلك يتناصان مع شخصيات قادرة علي التدمير والمحو فنجد قوة"ألف"تتركز في شعره مما يذكرك بشخصية "شمشون" في الحكايات الشعبية وكذلك "نون" التي تتناص مع "عابيب" كما يري "كاتب بيت الحياة" وهو أحد شخصيات الرواية"ذلك التنين الذي اتخذ من السماء مستقرا له ويرغب في ابتلاع الشمس" ص56 كما تستدعي علاقة"نبوية" والدة "نون" بزوجها "عبد السيد" وقدرتها علي الانجاب منه رغم "شلله" التام ونومه مقيدا علي لوح خشبي ،تستدعي هذه العلاقة ماقامت به "ايزيس" من تجميع جسد"أوزوريس" وانجاب"حورس"منه، وهكذا يظهر في نبوية نفسها جانب غرائبي في نحيفه أشبه بالعصا لكنها ولود ودائبة العمل وقد ولدت "نون"أثناء عملها تحت سطوة شمس لاترحم،كما كان "عبد السيد" زوجها أكثر غرائبية ومن هذه الغرائبية أنه كما يقال قد تزوج في منتصف عثده الثالث من "جنية البحر"ويظل معها أسفل الماء من الفجر إلي شروق الشمس، وكانت رائحة الياسمين الرائحة المميزة لجنية البحر- "تهب علي القرية بلاتوقف لحين خروجه من الماء"ص 31 وهو مايعد تمهيدا لاسطورية "نون" التي لم يتركها الخيال الشعبي الذي يقوم بالحذف والإضافة بغرض التشويق والإثارة فزعموا" أن من تستنشق الرجال- نون- لها أربعون جناحا ويسير خلفها سرب من الجراد وفوق رأسها تحلق الغربان دائما"ص87.إن هذه القدرة علي استنشاق الرجال وهي سمة أساسية يثبتها الكاتب لنون مكنتها من انقاذ الكثير من ضحايا "حارس الحاكم" "الذي كان يأمر جنوده بإحضار عشرة من الرعية كل ليلة ليوقفهم صفا واحدا ويخترع لهم التهم الزائفة،ثم يعلن من نفسه قاضيا ويأمر بقتلهم جميعا" ص 98 وهذا شئ قريب من صورة شهريار الحاكم المغرم بقتل النساء وحيلة شهرزاد لإنقاذهن كانت عن طريق سرد الحكايات التي لاتنتهي،الفارق الأساسي أن حكايات شهرزاد قد بدلت من سلوك شهريار لكن حيل نون كانت لمجرد انقاذ هؤلاء الضحايا ورغم هذه التناصات مع ثقافات عديدة تنتمي لحضارات مختلفة فإن الرواية بالأساس تخلص لتأكيد الروح المصرية التي تجعل من "نون" موازية ل"ماعت" و"ألف" موازيا ل "شو"إله الهواء، وهنا تجنح الرواية إلي سرد أسطوري شيق يفسر بداية الخلق وتطوره من مرحلة لأخري، استنادا علي البرديات المصرية "ص49.. 50" وقد تم كل ذلك من خلال سارد داخلي، هو كاتب بيت الحياة؛ الذي يمتلك هذه المعرفة التاريخية الواسعة. وهكذا يمكن القول إن الرواية تتحرك في جانب منها عبر مستويين مستوي تأكيد الميثيولوجيا المصرية القديمة، التي هي أصل النزوعات الدينية. ومستوي الروح الشعبية المصرية التي تظهر "حجر الخلفة" الذي جعله الكاتب عنوانا للرواية، وهو حجر كائن ب "تل اليهودية" يأتي إليه النساء "ويتوددن بتلذذ وإذلال معا من أجل أخذ بركته في مساعدتهن علي مقاومة العقم، ومن هنا جاء لقب "حجر الخلفة السحري" ص 18. بما يعكس الإيمان بالسحر والقدرات الكاملة في بعض الجمادات والحيوانات. هناك إذاً بحث محموم عن الحياة الأولي قبل تلوثها وانحرافاتها يتوازن مع البحث عن أصل الحضارة وروح المكان، ولا يتم كل هذا إلا عبر مجموعة من الصراعات التي تتبدي علي أكثر من مستوي "حارس الحاكم/ الرعية، الغزاة/ الهوية، الإنسان/ الطبيعة" بل بين ظواهر الطبيعة نفسها "فرغم أننا في فصل الشتاء بدت قسوة الشمس وجنونها في عنفوانها ص12. وقد تجاوبت حركة الزمن مع هذه الرغبة في الرجوع إلي البداية "بداية الخلق/ الهوية" فشاعت تقنية الاسترجاع التي تستعيد حياة نون وألف ومعظم شخصيات الرواية منذ ولادتها حتي اكتمالها داخل السرد ومشاركتها في الأحداث، كما لعبت تقنية الاستشراف والتنبؤ بالمستقبل دورا واضحا كما يبدو في تنبؤ عابر السبيل بمستقبل نون، أو تنبؤ كاتب بيت الحياة بما سوف تصنعه حتي تلاقي ألف "ستخوضين السير في كهوف لا يعلم منتهاها إلا الخالق، وستقتربين ممن يديرون البلاد: ثم ستنطلقين كثعلب بري مستعدة للقائه بحدود مدينة سماها قائد غزاة الخيام باسم كريم" ص58. وتلعب تقنية الاختفاء سواء عن طريق التبخر، كما حدث مع عابر السبيل والجمل الذي رعي نون بعد حريق القرية، أو اختباء النساء والرجال داخل كل من ألف ونون، لعب كل هذا دورا واضحا في حيوية السرد من خلال الاستغناء عن الشخصيات التي لم تعد الرواية بحاجة إليها، فبدا الأمر كما لو كان تقنية فنية أكثر من كونه ملمحا أسطوريا، وساعد كذلك علي حيوية السرد وإمكانية الانتقال عبر الأزمنة والأمكنة المختلفة وضعية السارد الخارجي، العليم، الذي يحيط علما بالشخصيات، وقد بدا حضور هذا السارد واضحا في التدخل المباشر في حبكة السرد والتوجه إلي القارئ بوصفه مرويا عليه والإعلان صراحة عن وجوده وتدخله في اختيار أسماء شخصياته. يقول مثلا "آه يا نبوية، لكِ بنت الآن وأعجز عن اختيار اسم لها، ولكن لا بد من إطلاق اسم عليها" ص 26. وهي وضعية تجعل السرد متراوحا بين الإيهام بالواقعية وكسر هذا الإيهام، بل إنه ذأي السارد- يتخيل نفسه مكان الشخصية ويحاول معرفة مشاعرها، يقول: "وأشد ما كان يزعج نون إن كنت في مكانها- هو اختفاء الأب الخشبي من الوجود ص30". وهكذا يمكن القول: إن سارد الرواية أقرب إلي السارد الشعبي، الذي لا يختفي خلف شخصياته، بل يعلن عن نفسه بوضوح في بدء النص. "إن ما جري من أحداث وقادنا نحو تلك الوقائع التي لا يمكن التكهن بها أبدا هي التي دفعتني لتبين حقيقة ما جري" ص7. وفي ختام النص "ذلك هو ما جري من أحداث ذعزيزي القارئ- وقادنا نحو تلك الوقائع التي سردناها" ص 112. وعلي الرغم من موضوعية الفن الروائي بصفة عامة، فإن لغة حجر الخلفة تتميز في أغلبها بالشاعرية والتصوير المشهدي والاستعراض التاريخي في وحدة فنية تحقق ما يسمي بشاعرية الرواية، وتؤكد دلالتها.