مستوطنون إسرائيليون يهاجمون بلدة بروقين في الضفة الغربية ويحرقون المنازل    شهداء وجرحى في غارات الاحتلال المتواصلة على قطاع غزة    ضبط عامل لسرقته الشقق السكنية بمواقع تحت الإنشاء بمدينة 15 مايو    شوبير الأب والابن الأفضل في تقييم إكرامي.. والحضري يتفوق على الشناوي (فيديو)    لم يصل إليها منذ شهر، قفزة في أسعار الذهب بعد تراجع الدولار وتهديد إسرائيل لإيران    في يومه العالمي.. احتفالية بعنوان «شاي وكاريكاتير» بمكتبة مصر العامة بالدقي    «التنسيق الحضاري» يطلق حفل تدشين تطبيق «ذاكرة المدينة» للهواتف الذكية    مجدي البدوي: علاوة دورية وربط بالأجر التأميني| خاص    مصر ضمن أكثر 10 دول حول العالم استهدافًا بالهجمات الرقمية    مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة| الأهلي ضد الزمالك في نهائي كأس أفريقيا لليد    حقيقة انفصال مطرب المهرجانات مسلم ويارا تامر بعد 24 ساعة زواج    بسمة وهبة لمها الصغير: مينفعش الأمور الأسرية توصل لأقسام الشرطة    انتقادات لاذعة لنتنياهو واحتجاجات بعد إعلانه تعيين رئيس جديد للشاباك    رئيس البنك الإسلامي يعلن الدولة المستضيفة للاجتماعات العام القادم    انقلاب ميكروباص بالطريق الصحراوي الشرقي في المنيا يُخلف 4 قتلى و9 مصابين    قائمة أسعار تذاكر القطارات في عيد الأضحى 2025.. من القاهرة إلى الصعيد    بصورة قديمة وتعليق مثير، كيف احتفت هالة صدقي بخروج عمر زهران من السجن    سقوط مروجي المواد المخدرة في قبضة مباحث الخانكة    تكريم سكرتير عام محافظة قنا تقديراً لمسيرته المهنية بعد بلوغه سن التقاعد    لجنة التقنيات بمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب تعقد اجتماعها الأول    شيخ الأزهر يعزي المستشار عدلي منصور في وفاة شقيقه    صبحي يشارك في مناقشة دكتوراه بجامعة المنصورة ويؤكد: الشباب محور رؤيتنا للتنمية    مراجعة مادة العلوم لغات للصف السادس الابتدائي 2025 الترم الثاني (فيديو)    هزة أرضية جديدة تضرب جزيرة «كريت» اليونانية (بؤرة الزلازل)    انفجار كبير بمخزن أسلحة للحوثيين فى بنى حشيش بصنعاء    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. النيران تلتهم عشرات السيارات والمنازل بكاليفورنيا جراء تحطم طائرة.. نتنياهو يتحدى القضاء ويعين رئيسا جديدا للشاباك.. بوتين يعلن منطقة عازلة مع أوكرانيا    مدفوعة الأجر.. موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    مصرع 4 أشخاص وإصابة آخر في تصادم سيارتي نقل على طريق إدفو مرسى علم    ضبط مركز أشعة غير مرخص فى طهطا بسوهاج    نموذج امتحان مادة الmath للصف الثالث الإعدادي الترم الثاني بالقاهرة    وكيله: لامين يامال سيجدد عقده مع برشلونة    تراجع سعر الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن بداية تعاملات الجمعة 23 مايو 2025    بقيمة 19 ألف جنيه.. كنيسة بالسويس تساهم في مشروع صكوك الأضاحي تعبيراً عن الوحدة الوطنية    دينا فؤاد: مفيش خصوصيات بيني وبين بنتي.. بتدعمني وتفهم في الناس أكتر مني    جانتس: نتنياهو تجاوز خطًا أحمر بتجاهله توجيهات المستشارة القضائية في تعيين رئيس الشاباك    تعليم القاهرة يحصد المركز الأول على مستوى الجمهورية بمسابقة الخطابة والإلقاء الشعري    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الجمعة 23 مايو 2025    رسميًا بعد قرار المركزي.. ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 23 مايو 2025    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الجولة قبل الأخيرة لدوري المحترفين    الكشف عن موقف تشابي ألونسو من رحيل مودريتش عن ريال مدريد    بمشاركة منتخب مصر.. اللجنة المنظمة: جوائز كأس العرب ستتجاوز 36.5 مليون دولار    صراع ناري بين أبوقير للأسمدة وكهرباء الإسماعيلية على آخر بطاقات الصعود للممتاز    وزير الشباب ومحافظ الدقهلية يفتتحان المرحلة الأولى من نادي المنصورة الجديد بجمصة    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    تعليم القاهرة يحصد المراكز الأولى في العروض الرياضية على مستوى الجمهورية    تنفيذًا لحكم القضاء.. محمد رمضان يسدد 36 مليون جنيه (تفاصيل)    الشعبة: أقل سيارة كهربائية حاليًا بمليون جنيه (فيديو)    ما حكم ترك طواف الوداع للحائض؟ شوقي علام يجيب    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    ما حكم تغيير النسك لمن نوى التمتع ثم تعذر؟ المفتي السابق يجيب    قباء.. أول مسجد بني في الإسلام    «المفرومة أم القطع».. وهل الفرم يقلل من قيمة الغذائية للحمة ؟    «بربع كيلو فقط».. حضري «سينابون اللحمة» بطريقة الفنادق (المكونات والخطوات)    «لقرمشة مثالية وزيوت أقل».. أيهما الأفضل لقلي الطعام الدقيق أم البقسماط؟    مسلسل حرب الجبالي الحلقة 7، نجاح عملية نقل الكلى من أحمد رزق ل ياسين    تشميع مركز للأشعة غير مرخص بطهطا بسوهاج    هل التدخين حرام شرعًا ؟| أمين الفتوى يجيب    وزير الصحة ونظيره السوداني تبحثان في جنيف تعزيز التعاون الصحي ومكافحة الملاريا وتدريب الكوادر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذاكرة القُلَّة
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 12 - 2014


لماذا عن "القُلَّة"(1) أحكي؟
لم أعتد علي شرب المياه من "القُلَّة".. هذا الإناء الفخاري الصغير رطب الملمس.. أنثوي القوام، رغم تذكري جيدًا لوجود صينية جدتي الصاج الملوَّنة التي احتفظت بها أمّي ممّا احتفظت، فوضعتها في زمن ما من طفولتي فوق سور إحدي شرفات بيتنا، حاملة لاثنتين من القلال "القِناوية" الأشهر، والتي غنّي لها سيد درويش من ألحانه وكلمات بديع خيري: "مَليحة قوي القُلل القِناوي.. رخيصة قوي القُلل القِناوي..قرّب حَدانا وخُدْ لك قُلِّتين.. خُسارة قرشك وحياة ولادك..علي ما هُواش من طين بلادك..... ".
لم تكن القُلَّة في بيتنا سوي امتداد "فانتازي" كما وصَّفت أمّي- حضرية المنشأ التي شبّت في المدارس الفرنسية بالقاهرة- لعلاقتها الآنية بعادة أصيلة وضرورة يومية في منزل أسرتها، قبل انتقالها إلي ظرف اجتماعي وسياق ثقافي مختلف بزواجها في زمن لاحق؛ فقد كانت الصواني حاملة القُلل تتوسط الصالة الرئيسية في بيت العائلة الكائن في أحد الأحياء القاهرية العريقة، وهو حي "المنيرة"، كما كان حالها في بيتهم الريفي في صعيد مصر. لم يقتصر استخدام القُلَّة حينها علي الفئات والطبقات الاجتماعية صاحبة الحظ الأقل من الوفرة الاقتصادية والتعليم والانفتاح الثقافي، إذ دخلت كعنصر لا غني عنه في أساسيات البيت المصري حتي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، قبل أن يُجْهز الأحدث علي القديم ويزيحه من المشهد اليومي؛ فقد كانت هي صنبور المياه الباردة النقية التي تروي ظمأ الجميع، يضعونها في أماكن تعبرها تيارات الهواء وعندما تتخلل سطح القلال المسامية يرشح الماء ويتبخر، فيبرد درجات عن الطقس المحيط بها لترتوي من ماء صافي رطب.
أكمل مع أمّي الحديث وأراجعها في بعض التفاصيل فتذكر أن الاستغناء عن القُلَّة عندما زاحمتها الثلاجات الكهربائية الحديثة بدأ في المنزل القاهري بطبيعة الحال، في حين ظلت في منزلهم الريفي لفترات أطول امتدت حتي ثمانينات القرن الماضي. وهكذا اختفت القُلَّة من الحياة اليومية لبعض الشرائح الاجتماعية، وأضحت أشبه بالأثر الذي يَحتفظ به البعض القليل مثل عائلة أمي، يُذكِّرهم بحياة وإن مضت، لا تزال تستثير في نفوسهم شغف استعادة تاريخهم الشخصي ولملمة ما تشتت منه بفعل الزمن وحتمية التغيّر والتبدّل؛ والذي يُعد من زاوية أخري بمثابة وثائق شفاهية تعيد التأريخ وتوثق له.
حفَّز الحديث ذاكرة أمّي فانتعشت (أمّي وذاكرتها) وأكملت لتستحضر تفاصيل أخري؛ فحدثتني عن الكثير المشترك بين مختلف الفئات الاجتماعية في كيفية الاعتناء اليومي بالقُلل، من وجوب غسلها وملئها وتزيينها، وإن كانت لا تدري عن وسائل الاعتناء بها سوي الماء؛ حيث لم تكن هي وأفراد أسرتها ممن يقومون بالعناية بها؛ وكما للذاكرة صورها البصرية، لها أيضًا روائحها ومذاقها وأصواتها.. تذكَّرَت جدتَها عندما كانت تقوم بلضم عقود الفل والياسمين من حديقة منزلهم بالقاهرة ووضعها حول رقاب القلال، فتبقي منتعشة ومزهرة لفترة أطول، وفي الوقت نفسه تتريَّح المياه بعطرهما، أو توضع أعواد النعناع اليانعة في فوهة القلال للغرض نفسه. صمتت أمّي لبرهة، وإذ بها تتذكر طعم الخيار الصابح الذي كانوا يقومون بوضعه في صينية القُلَّة بعد غسله، فتلتقطه الأيادي وقد أصبح رطبًا منتعشًا طازج المذاق. سألتها وفي ذهني انشغال ما بتأثير التفاوتات الاجتماعية والفروق الثقافية - إلي جانب ذلك المشترك العام- علي باقي الممارسات المتعلقة ب " القُلَّة" دونما التصريح بهذا الخاطر؛ فكان التساؤل الأكثر كشفًا - كما قدَّرتُ - لهذا التباين المفترض لدي، هو عن الطريقة التي كانوا يتبعونها للشرب منها، وأنا العارفة بآداب الشراب والطعام والاحتياطات الصحية المتبعة في منزل جدَّتي. كانت أمّي قاطعة في ردها علي استفساري؛ حيث لم تكن القلال تدور علي أفواههم، بل كانوا يصبون الماء منها في الأكواب الزجاجية المعتني بها والمرصوصة دومًا حول القُلَّة في الصواني. وهكذا تبين لي أول الفوارق الثقافية في البناء الاجتماعي للمصريين.
أظن أن أمّي افتقدت أشياء ما بعد هذا الحديث، ولكنها أشياء لا تتعالق إلّا مع ما خَبرته وعايشته وذاقته من ميراث جماعتها الثقافية؛ فتاريخ الأشياء في ذاكرة أصحابها لايخلو من بصمتهم. إلّا أن محاولاتها الأقدم التي سرعان ما باءت بالفشل في استعادة العادة والممارسة التي فقدت وظيفتها وضرورتها وشروطها، لم تثنها عن التفكير في الإتيان مرّة أخري بقلالها القديمة المركونة في منزلها الريفي، وهكذا أضحي الوصل مع القديم مجرد فقاعات تعلو علي السطح حينًا وسرعان ما تخبو وتسكن في الذاكرة الحيَّة.
ليس هناك ما يمنع من التعريج علي بعض من الرومانسية وأنا في حضرة كتابة تحاول أن تكون ملمة ورصينة، فمما دفعني واستثار شغفي الأول بالبحث والحديث عن القلال شيئٌ ما من طراوة ذاكرة لا تستسيغ الكلام الجاف حين يُنحِّي بعيدًا العلاقة الشخصية والحميمة بالموضوع؛ إلّا أن الميراث العريض شديد التنوع من الثقافة الشعبية الشفاهية والمادية التي ارتبطت ب " القُلَّة"، بالإضافة إلي استخدامها كعنصر تشكيلي وموضوع غنائي غني بالإيحاءات والدلالات، جعل منها مادة بحثية مثيرة وجاذبة للالتفات وجديرة بالبحث.
الميدان موطئ الحكاية
بعد قليل من الجهد في الإلمام بما ذُكر في دراسات ومصادر تاريخية جاء ذكر "القلال" فيها عابرًا في سياق الحديث عن صناعة الفخار وتاريخه، تيقنت من ضرورة النزول إلي الميدان والاستمرار في جمع الوثائق الشفاهية والتحقق منها؛ فكان أن توجهت إلي منطقة مصر القديمة بالقاهرة حيث تقع فاخورة الفسطاط - التي يعود تاريخ إنشائها إلي فترة الفتح الإسلامي علي يد "عمرو بن العاص"- للقاء بعض القائمين علي صناعة الفخار وتسويقه. هذا إلي جانب التزوّد بالروايات الشفاهية لمعاصري القلال ومستخدميها تباينت خلفياتهم الاجتماعية والثقافية؛ وذلك بهدف تقديم هذا المقال الذي وإن ألمّ ببعض المعلومات والإشارات، فمن المؤكد أنه مجرد فاتحة لموضوع يستأهل أن يمتد الحديث عنه في كتابات أكثر اكتمالًا وإحاطة.
جولة في فاخورة الفسطاط
توجهت إلي فاخورة الفسطاط في صباح رمضاني حار؛ وكان أول من التقيت هناك الفخراني "خليل مندور" الذي تجمعني به علاقة قديمة مذ كنت أذهب في زيارات متكررة إلي الفاخورة للفرجة والشراء ثم انتظار أكواب الشاي والأحاديث التي لا أملّ من سماعها. ولد خليل عام 1952، ويعمل بالصنعة منذ كان عمره لا يتعدي الست سنوات كصبي لكبار الأسطوات في قُلَليّة أو فاخورة الفسطاط؛ ولقد عمل في صناعة القلال لمدة لم تتجاوز الأربع سنوات قبل أن يترك الفاخورة لفترة ويعود إليها لاحقًا، وذلك لكي يتدرب علي يد معلمه "محمد حسين هجرس"؛ وهكذا تسجل سنواته ال 62 - أطال الله في عمره - محطّاته الكثيرة في عالم الفخار.
لم ينخرط خليل في التعليم النظامي، إلّا أنه وكما جاء علي لسانه تربَّي "إنسانيًا وفنيًا" علي يد النحات المصري "هجرس"، فكان أن تعلّم القراءة والكتابة والأصول التقنية والفنية للحرفة، ويبدو من حديثه الحميم الممتنّ عن هجرس الإنسان والفنان أن الأخير قد تفاني في رعايته وحفزّه علي الاستمرار والتجويد وتحمُّل مشاق الحرفة؛ ولا يزال مندور بعد أن ترقي منذ زمن إلي مصاف "الأسطوات" يجلس علي "دولاب الفخار" في ورشته، يستعين بنظارته الطبية السميكة، وبصبيان يفطمهم بدوره علي سر الصنعة، ويعلِّمهم بعشق العارفين للحرف والمعني تشكيل الطينة بمهارة مدربَّة حكيمة. وعلي الرغم من اختفاء القلال من مُنتجه الفخاري، إلّا أنه ما زال يستخدم تلك القُلَّة - حديثة الصنع - التي لمحتها والماء يرشح منها موضوعة في أحد الأركان الظليلة في المكان. سألته هل لديك قلال في منزلك يا خليل؟ فرد قائلًا استبدلنا الثلاجات الكهربائية بالقُلّة، الثلاجة أيسر في الاستخدام وأكثر عملية.
قفز أمام عيني وأنا أتابعه علي دولابه مشهد "الإله خُنُوم" إله الخلق والمياه أو الإله "الخالق" في المعتقد المصري القديم، حيث صوَّره المصريون منذ القدم وقاموا بنحته علي هيئة "فخراني" (صانع فخار) يقوم بتشكيل الجسم الإنساني من طمي النيل علي عجلة (طبلية/ دولاب) الفخار؛ هل يمكن للمجاز أن ينصّب "خُنُوم" أبًا للفخرانية، والجد الأول لأجيال ورثت عنه أسرار الصنعة؟ ربما يحمل التاريخ الشفهي المفقود شيئًا من أسرار صناعة القلال.
أول المُبتدي
أعود مرة أخري وأسأل خليل عن آخرين يرشحهم لي كي أسجل معهم باقي الشهادات، فقال: "فلان حَضّر القلة، وبنات الحاجة فلانة رحمة الله عليها حَضّرن القلة". تيقنت عندما بادرني بكلمة "الحضور" من شيئين؛ أولهما، أنَّ تقصي المعلومة في هذا المجال يقلل من مصداقيتها وحيويتها وثرائها غياب أصحابها ، وعليه فإن الإسراع في جمع مأثوراتنا الشعبية ضرورة علينا أن نسابق الزمن قبل أن يواريها الغياب والتشويه . أمّا ثانيهما، أن تناثر الذاكرة هنا وهناك لدي القليل ممَّن لا يزالون علي قيد الحياة كان يمثل بالنسبة لي مؤشرًا مبكرًا علي انحسار للقلال من المشهد العام.
طالت بنا الجلسة وتفرع بيننا الكلام، ومثلما تبدأ اللقاءات الأولي بالتعرّف علي الأسماء، كانت أسماء القلال هي المدخل؛ ولم أكن أعرف منها سوي المليحة: "القلّة القناوية"، التي من فرط تباهي أمي بها، تخايل لي وكأن المليحة تعاير باقي القلال بجمالها ورشاقتها وتفوُّقِها .
ومن الجدير بالذكر أن وجود القلال كسلعة كَثُر الطلب عليها في زمانها، قد حفّز الصانع لابتكار وترويج هذا التنوع الهائل في أشكال القلال وأحجامها وأسمائها ووظائفها. ولقد ذكر خليل قائمة طويلة من الأسماء أذكر أربعًا منها علي سبيل المثال(5):
1- قُلّة "طبلة العالمة" أو "قُلّة بنّورة":
كان يضعها بائعو الترمس علي عرباتهم؛ وتتميز هذه القُلّة بشكلها الأسطواني، وبقعر عريض مستوٍ (كعب القُلّة) بحيث يحفظ لها توازنها واستقرارها عند وضعها فوق العربة. وبالفعل فإن شكلها العام يقارب شكل الطبلة؛ ولاقتران الطبلة ب "العالمة" (الراقصة)، أُطلِق علي القُلّة هذا الاسم. أمّا قُلّة "بنّورة" فلم يعطني خليل تفسيرًا يعرفه لها ، وإن أكّد أن مسمَّي "طبلة العالمة" هي الأكثر تداولًا.
2- قُلّة "مِفْرِدة":
وهي قُلّةٌ نصف الحجم الطبيعي (الذي عادة ما يتباين طولها بين خمسة وعشرين وسبعة وعشرين سنتيمترًا، ويتراوح قطرها ما بين ثمانية عشر وعشرين سنتميترًا ). تحمل "مِفْرِدة" نصف كمية الماء وتُصنّع بهذه المقاييس كما يقول خليل لتناسب الصبيان والصبايا الذين لاتزيد أعمارهم عن الست سنوات ومن ثم يستطيعون رفعها؛ وفي قول آخر علي لسان الفخراني "أحمد عطا" أحد الروّاد في فاخورة الفسطاط، أن القُلَّة المِفْرِدة كانت أيضًا مخصصة لتناسب وهن كبار السن والعجائز.
3- قُلّة "عباسيّة":
هذه القُلّة مخصصة للأطفال الذين لا تقل أعمارهم عن سنتين، وهي ربع حجم القُلّة المِفْرِدة. وعندما سألت مندور متعجبة من غرابة تسمية عباسيَّة قدّم لي تفسيرات تقع في خانة الاجتهاد وسد الفجوات التي تواجه استعادة الذاكرة؛ فظل الاسم سؤالًا مثيرًا للإيحاءات حينما يتم العبث في تأصيله.
4- قُلّة ب "كالوش":
وهي قُلّة الفرح؛ ومن معاني كلمة كالوش أو كلوش في أصلها الفرنسي cloche (التنورة جَرَسِيّة الشكل التي تعطي شكلًا مموجًا)؛ وقد أكد كلّ من "خليل" و "عطا" علي أن الكالوش يعني ال "كرانيش" التي تُزيَّن بها أردية البنات والسيدات. جاء خليل بقطعتين من الطين وقام ببرمهما ليحصل علي حبلين من الطين، ثم ضغط بجانب إصبعه ضغطات متوالية بطول الحبلين فتشكلا مثل أمواج البحر. أخذ خليل حبل من الاثنين ولفّ به "رقبة" القُلَّة وكأنها إسورة، ثم أدار الأخري حول "كِرْش" (بطن القُلَّة) ليُكمل بالعقد شَبْكة العروس .
زاد خليل فأكمل الحديث عن السياق الاحتفالي الذي تستخدم فيه القُلّة "كالوش"، فقال: "سمعت من الكبار وأنا عَيّل صغير"، أنه فيما مضي كانت توضع الصينية النحاس التي تحمل خمس من قلال الكالوش لدرء الحسد علي العربة الكارّو التي تجلس عليها العروس، وتأتي في مقدمة عربات زفة العروس التي تحمل جهازها في الأحياء الشعبية. يضيف خليل أن صينية العروس قد تغطي بقماش يتباين في نوعيته حسب المستوي الاقتصادي للأسرة، فقد تكون من البفتة أو التُلّ أو الحرير وعند وصول الزفّة إلي بيت العريس تكون الحماة في استقبالها، فتنزل العروس حاملة صينية القلال، وتناول حماتها إحدي القلل، وتقول لها: "مشروب الهنا من إيدي أنا"، فترد الحماة بدورها علي عروسة الابن: "من يد ما أعْدَمْها والسعد في أقدامها" وترفع القُلّة لتشرب منها، ثم تبدأ في إطلاق الزغاريد؛ ويضيف خليل: "وعلي قد ما الزغرودة تِجَلْجِلعلي قد حُبْ الحماة لعروسة ابنها"، وينوّه خليل إلي أن فعل "شرب الماء" في حد ذاته محاط بتلك الأجواء الفَرِحَة له أثر علي قوة الزغرودة وصفائها؛ تذكرت حينها إحدي العبارات الجميلة التي كانت تُحفر علي شبابيك (مصفاوات) القلال - المحفوظة في المتحف الإسلامي بالقاهرة - وهي: "مَن شَرِبَ سُرَّ"، كما تذكرت الأثر السحري ل "ماء الحياة" الذي تردد ذكره في كثير من الحكايات والأساطير؛ فداعبني السؤال وإن لم يكن مقامه: وماذا عن الماء في تراثنا الشعبي؟
آداب الشرب وصيانة إلقلال
لا تزال الصورة مقطَّعة تحتاج إلي استكمال أجزائها، فيأتي السؤال عن "آداب الشرب من القلال" و "صيانتها" امتدادًا لما سبق من حديث. بدأت في رأس المقال برواية أمّي - والتي تمثِّل شريحة اجتماعية حضرية عُليا - عن الاستعانة بالأكواب الزجاجية بديلًا عن الشرب من فم القُلّة؛ إلّا في جالة أن تُخصص أحد القلال لاستخدام أحد أفراد الأسرة دون غيره. فماذا عن غيرها من طرق وآداب الشرب؟
هناك طرق متنوعة لشرب المياه من فم القُلَّة مباشرة، أكثرها انتشارًا رفعها علي الفم دون محاذير. إلّا أن بعض الروايات الأخري اتفقت علي أن رفعها إلي أعلي بحيث لا تلامس شفاه الشارب هي الأكثر صحة وأدبًا. كما شهد صاحب إحدي الروايات والتي صدَّق عليها آخرون - علي أن والده الأزهري ديني النشئة، كان يتبع "السُنَّة النبوية" للشرب من القُلَّة؛ وهي مص الماء علي مهل وإصدار صوت مصاحب للشرب منها، وبذلك يتحكم في مقدار الماء المنساب إلي فمه فيمنع رجوعه مرة أخري إلي القُلَّة.
أمّا عن ثقافة تنظيف القلال وصيانتها وتبريدها، فبادئ ذي بدء يشاع أن من معالم نظافة سيدة الدار درجة عنايتها وانتظامها في تنظيف قلالها، وليس غلو وجَودة ملحقات القُلَّة؛ فتذكر الحاجة "سهير" إحدي بائعات الفواخير والقلال عند جامع عمرو بن العاص في مصر القديمة (الفسطاط قديمًا)، أن النساء كانت تبدأن أعمالهن المنزلية بتنظيف القلال قبل باقي الأواني حتي لا تتّسخ؛ ومن المتفق عليه أن تنظيف القُلَّة يكون بدعكها برملة منخولة ناعمة ومُبلّلة حتي تتفتّح مسامّها من الرواسب التي قد تكون علقت بها من كثرة الاستخدام، كما أن القلال بعد أن تفرغ من المياه وقبل ملئها من جديد تقلب علي فمها (فوهة القُلَّة) لكي تتخلص من أية شوائب عالقة بداخلها. وهناك طرق عدة لتبريد القلال، فإلي جانب أفضلية ملئها في الصباح الباكر أو عند انخفاض حرارة الجو بعد الظهيرة، وضرورة وضعها في أماكن معرَّضة لتيارات الهواء البارد، وفي الظل بعيدًا عن أشعة الشمس، والتي عادة ما تكون علي الشبابيك وفوق أسوار الشرفات وقديمًا خلف المشربيّات؛ كانت القُلَّة كما ذُكر تُحاط بقطعة من "الخيش" أو "حِبال من الدوبار"- خاصة للقلال المستخدمة في الأماكن المفتوحة مثل الحقول في الريف - ممّا تساعد نداوة الخيش والدوبار علي الاحتفاظ بدرجة برودتها لمدة أطول. وذكر لي صاحب هذه الرواية أنه رأي في قريته الواقعة في دلتا النيل القلال ونصفها مدفون في طين الحقل لنفس غرض الترطيب، وإن كان ذلك - كما أردف - وسيلة غير صحية لما يسببه التسريب المتبادل من تلوث المياه داخل القُلَّة. كما يذكر خليل
أنهم كانوا يفضلون استخدام مفارش من الشاش لتغطية القلال بدلًا من الأغطية النحاسية أو الفخارية أو الخشبية؛ حيث إنها تساعد بشكل أكبر في الدفع بعملية سحب الهواء من فوهاتها فتزيد من درجة برودة الماء. وقد اتفقت روايات أخري مع ما ذكره خليل، حتي أن إحداها وصفت أغطية صغيرة من الشاش تكسو فوهات القُلل، وتوضَع في نهاياتها المهدولة علي رقابها حبيبات تعمل كثِقَل حتي لا يتطاير الشاش.
هذا عن القلال، فماذا عن مائها؟
تنوعت طرق ترويق مياه القلال بمذاقات مختلفة لإكسابها نكهات محبَّبة إلي نفوس شاربيها؛ فمثلما كانت جدّتي تحيط رقاب قلالها بأعواد الفل والياسمين، شاع استخدام أعواد النعناع والريحان وماء الزهر والورد وقشر الليمون والبخور الذي يُكسب الماء الطعم والرائحة. أمّا المياه التي ترشح من القلال فلم تكن صالحة للشرب رغم أنها الأكثر نقاءً؛ فهي عُرضة للأتربة والتلوث؛ إلّا أن الماء له مكانته وحُرمته وبَرَكته لدي المصريين كما لباقي شعوب الأرض، والحديث عن هذا الموضوع له مقام آخر. أمّا فيما يخص المياه المرشحة من القلال فقد جاء ذكر بعض استخداماتها بصورة عابرة ممّا يلزم مزيدًا من السؤال والتدقيق، منها أن يتم شطف القماشة التي تغطي القُلَّة في ماء الصينية ثم التخلص من الماء، أو أن يُرَش علي أعتاب المنازل، أو أن تُترك المياه المرشحة للدجاج والطيور كسبًا للأجر.
عالم القلال السحري
يستمر الحديث مع خليل عن القلال والماء، فإذا به يُدخلني إلي عوالم الممارسات السحرية والعقائدية في التراث الشعبي؛ وقد جاء حديثه عن "القلال النيِّئة" كسرًا للفكرة النمطية الشائعة، والتي لاتخلو من رومانسية وغَفلة، عن استخدامات القُلَّة التي تحصرها في كونها إناءَ الشرب وسبيل العطاشي. تتعدد وظائف قلال الشرب تبعًا لسياق مستخدميها وأغراضهم منها، فهي ليست سوي حاوية فخارية(17)- فارغة كانت أم مملوءة - تُحمّل بقيم ورموز ومرامي قد لا تبدو متناغمة؛ فمن المألوف لدي مصنعي القلال وبائعيها أن تُطلب القُلَّة "النيِّئة"- وهي التي لم يتم حرقها- لأغراض السحر الأسود. يعرف بائعو القلال الغرض من السؤال عليها فيغالون في ثمنها؛ وكأن هناك "تسعيرة موَّحدة" اتُفق علي تحديدها في سوق القلال، فقد أجمع جميع من التقيت من بائعين في الفاخورة علي أنها تُباع بمئة جنيه، وهي التي لا يزيد سعرها في العادة عن الثلاثة جنيهات. يخاف البعض من بيعها خوفًا من رد الأذي، تقول الحاجَّة سهير: "لو هتدّيني مَيِّة المُحيّاه في حِتّة شَقْفَة نَيَّة مِشْ هبيعها". تكون طينة القُلِّة النيِّئة لا تزال ليّنة فيسهل حفر الكتابات السحرية علي جدارها الخارجي، وعندما يتم إلقاؤها في ماء جارٍ- استكمالًا للطقس السحري- تتفتت بسهولة وتذوب فيستحيل استرجاعها؛ وهكذا يظل مفعول العمل السحري سارٍ سريان المياه الجارية.
يستدعي الموقف المُعلن للحاجة سهير عن تعففها وإحجامها عن الاشتراك في تعزيز ممارسة سحرية تلحق الضرر بآخرين، السؤال عن آليات الجماعة الشعبية في التحايل والخروج من مأذق الاختيارات والأحكام الحديّة، التي لا تناسب ما يفرضه المعيش من متطلبات واحتياجات قد تدفع إلي الخروج عن المقبول والمحبب من صورة اجتماعية نموذجية، ومعايير أخلاقية مُثلي؛ فكيف إذًا تحل الجماعة الشعبية معضلة التوفيق بين الحفاظ علي الحلال ولقمة العيش، وبين حرصها علي عدم إغضاب الله، أو حماية أفرادها من سوء المنقلب، أو تدشينها لسيادة المعايير المتفق عليها، أو ببساطة ضبط ميزان المراوحة بين المُعلَن والمسكوت عنه؟
تأتي الحلول عادة من داخل المنظومة؛ فيذكر خليل في سياق مثال القُلَّة "النيِّئة"، أن للصانع سبلًا للخلاص من المسئولية دون أن يفقد فرص الرزق إذا أراد؛ فعليه أن يكرر مرّات بعد مرات أثناء تصنيعه للقُلَّة المطلوبة: "الله ما أبطل مفعولها"، وبذلك يبطل مفعول القُلَّة ولا يكون سببًا لضرر يقع، ويحافظ في الوقت نفسه علي المكسب المادي؛ وكأنه بذلك يتطهر من فعلته بتبرئة نيّته "إنمّا الأعمال بالنيّات".
يستفيض خليل عن القلال فيُدخلني هذه المرَّة من باب "التبرُّك بالماء" إلي ميراث آخر من العادات المرتبطة بالقلال؛ فيحدثني عن "تدشين مراكب الصيد"، حيث تربط قُلَّة مملوءة بالمياه بحبل طويل من رقبتها بعامود خشبي علي الشاطيء، ثم يقومون بمسك القُلَّة ودفعها بقوة لكي تصطدم بالمركب ويدعون دعاء "نوح" عليه السلام: "بسم الله سيري..بسم الله مجراها ومرساها"؛ فتنكسر بطن القُلَّة ويطال ماؤها جسم المركب، وتبقي رقبة القُلَّة التي يُحتفظ بها شاهدة وأيقونة علي تدشين ومباركة المركب الجديد؛ والذي يكون في العادة كما ذكر خليل علي يد أحد كبار المقرّبين من صاحبها "عمرًا أو مقامًا".
القُلَّة تنزوي
تحيا عادات وتتواري أخري، وما زلنا نري القُلَّة وهي تجاور المبردات الكهربائية والحاويات البلاستيكية- علي استحياء- في شوارع القاهرة وحواريها. تذكّرت يومًا كنت فيه أتجوّل في شارع المعز لدين الله الفاطمي في حي الحسين بالقاهرة، وإذ يلفتني مشهدٌ لصف من القلال الحمراء ينتهي ب "كولدير" برتقالي اللون علي أحد الأرصفة هناك؛ توقفت قليلًا لتأمل المشهد واعتليت الرصيف المقابل، وبعد أن استأذنت المحيطين من أهل الحي لالتقاط صورة للقلال والكولدير، دخل أحد المارّة في الكادر وقام برفع إحدي القلال علي فمه، لحقه آخرين شرب بعضهم من القُلَّة وتناول البعض الآخر الكوب الموضوع أسفل الكولدير وملؤوه بمياهه الأكثر برودة. كان هذا التجاور طريفًا ودالًا علي تداخل الأقدم مع الأحدث، وعلي حقيقة أن استمرار القديم مرهون باستمرار الطلب عليه وقيامه بوظائفه؛ فاتّسمت تساؤلات من قبيل: "هل اختفت القُلَّة؟ أو هل سوف تنال التكنولوجيا والحداثة من القلال وتقضي عليها؟" بالمباشرة والحديّة الصارمة التي تغفل العلاقة المتشابكة بين المردود الثقافي والحراك الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات في أطوار تغيّرها وتطورها؛ لا تزال القلال تُصنَّع للاستخدام الشخصي، ولا تزال أسبلة للعطاشي، وصدقات جارية علي أرواح الموتي للعابرين في الطرقات، وإن تركّز انتشارها في الأحياء الشعبية في المدن وفي ريف المحروسة والمناطق النائية؛ وقد يكون انحسارها عند طبقات بعينها واستمرار شيوعها لدي الطبقات الشعبية هو ما جعلها تقترن في أذهاننا بحياة الفقراء. وأود أن أنقل لكم مقارنة فارقة عقدها خليل بين القُلَّة والكولدير المنتشرين كصدقة جارية في الأحياء الشعبية خاصة؛ فمن المعتاد أن يكتب صاحب الصدقة الجارية علي الكولدير عبارة "نسألك الفاتحة"، وكأنه يطالبك كما يري خليل ب "حَسَنَة" مقابل الماء الذي يوفره لك، أما القلال فهي تستدعي الدعاء بالخير لمن ساهم بالرحمة دون شروط.
الفخار مهنة فقيرة
ينتهي بي مطاف جولتي عند الفخراني "أحمد عطا" الذي "شَرِب الصنعة أبًا عن جد"، طيلة سنوات عمره التي تعدَّت الخمسين بقليل؛ ولقد أغراه والده بترك المدرسة مقابل قروش كانت بالنسبة له حينها مكسبًا لا يُرَد. كان اللقاء مع "عطا" مشوقًا وغنيًا بالتفاصيل والحكايات؛ غير أني سوف أوجز وأقتطع من كلامه ما يسد بعض الفجوات فيما سبق من حديث.
كان العنوان الأكثر بروزًا في كلامه عن صناعة الفخار ما وصف به مهنته، فيقول: "الفخار مهنة فقيرة..تِعيشي منها بس.. اللي بيكبر فيها بيشحت.. الصانع المصري مِتشرَّد.. لا معاش ولا تأمينات ولا جمعيات ولا نقابات تراعي الصنعة والفخرانية.."؛ ولهذا أورث "عطا" الصيت والصنعة لأبنائه الثلاث رغم أنهم يحملون مؤهلات عليا، وذلك لكي يحافظوا علي تاريخ العائلة ومصدر رزقها الأساسي.
وعندما تدور بناظريك في دولاب العمل(19) لدي "عطا" لا تجد أثرًا للقلال؛ فلقد توقف عن صناعتها منذ زمن، يقول "عطا": "بطَّلْت 1979 عشان التلاجات كِتْرت وبدأت القُلل تِرَيَّح.. طِلْعِت حاجات تانية إشتغلت فيها.. ليه أعمل قُلَّة ب 2 جنيه لمّا اقدر أعمل فازة ب 30 جنيه؟!".
لم يعد للقلال صيتها القديم، ومع انحسار وظائفها وضرورتها من جهة، وصعوبة الحصول علي المواد الأساسية لصناعتها من جهة أخري، أصابها التدهور الذي يمكنك أن تلحظه وتختبره بسهولة؛ فإذا بك أمام قلال وقد تشوّهت نسبها وأبعادها وتراجع مستوي إتقان الصانع لها، وقد ترفع إحداها لترتشف الماء منها فيعلق بشفتيك طعم مُمَلَّح لا تُدرك له سببًا معلومًا لديك. يصدّر "عطا" كلامه عن تدهورها، فيقول: "شكلها شكل القُلَّة.. ده مش قُلل"، ويسترسل: "درجة تسقيع وحلاوة المَيّة بترجع للطينة والحريق.. لازم الطينة تكون فيها نسبة رمل عشان تعمل مسام للقُلَّة.. ولو الطينة رملتها عالية أديها شوية طينة "قرموطي. ما هو لو القُلَّة ما رشّحتش مش هَتْسَقّع وتبقي زي قِلِّتها.. قبل السد العالي كان طمي النيل علي الشطّ.. دلوقتي طينة القُلَّة الحمرا بتيجي من فحت العمارات؛ ولازم تكون محروقة بعفش القصب وببوص الذرة وبحطب قطن أيام ما كان فيه قطن في البلد.. يعني بمخلفات زراعية مش بمخلفات قمامة زي البلاستيك والورق وعجل الكاوتش..المخلفات ده بتطلّع رواسب وعوادم في مرحلة السِوَي (الحريق)، وبتبقي درجة الامتصاص عالية فتخلّي القُلَّة تِمَرّر أو تِمَلَّح.. الحكومة منعت الحريق بالمخلفات الزراعية عشان الدَخَنَة بتاعتها بتبقي جامدة.. الكهربا غالية فالشغل بيطلع "سِليق".. القلل ما بتخدش وقتها في الحريق وده بيأثّر علي تسقيعها للميّه ومتانتها.. دلوقتي بيحرقوا بكسر الخشب والقش.. علي الأقل في آخر حَرقة.. آخر عَكْرة يعني آخر رَمْيّة في النار"؛ ويستطرد عطا قائلًا: "أنا عندي قلل في بيتي.. بنفخ فيها وهي فاضية عشان أشوفها لو مِنَفِّسة أو مشروخة.. بس الطعم بتاعها لمّا أجَرَّبْها".
نهاية الجولة
إنتهي يومي في الفاخورة، وودّعت عم عطا آخر من قابلت، علي وعد منه بأن يوصي لي ب "قُلَّة" يرضي عنها؛ لملمت تفاصيل اليوم وعدت وكُلّي شغف بأن أنقل لكم بعضًا ممّا سمعت وسجّلت، لعلكم تأتنسون به و تشاركونني توقاً ما زال يراودني إلي المزيد.
وهكذا تنعقد علاقة لا تنفصم بين القلال والمياه؛ وكأن القُلَّة المصنّعة من طين وماء رمزٌ وسبيلٌ للحياة بكل تجلياتها وجنوحها. وعلي الرغم من امتثال القُلَّة أزمانًا لمقدرات صانعيها ومستخدميها، إلّا أن قوانين الانحسار والإنزواء والتحوير طالتها مثلما طالت الكثير من إرثنا الثقافي، وإن بقيّت شاهدة علي ميراث شديد التنوع والتشابك لا يزال بعضه حيًا في الممارسات الحياتية والعقائدية، وفي إبداعات مستلهميها منذ القديم إلي اليوم؛ ولم أجد أجمل من وصف "علي النابي"- أحد زجالي "قِنا" القدامي- لمحبوبته عندما رآها وهي تشرب الماء من القُلَّة، لكي أنهي به ما تقدّم:
"خايف أقول له يقول لّا
والقلب مرعوب وخايف
ابقي قوليلُه يا قُلَّة
حين تِوْرِدي* علي الشفايف".
ودائمًا .. ما يظل للحديث بقيّة.
تُنشر "ذاكرة القُلَّة" بالتوازي مع نشرها في العدد الأول من مجلة "الحَنّونة" الفصلية بالأردن المعنية بالتراث، والتي تصدر عن جمعية الحنونة للثقافة الشعبية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.