الخزف في مصر نوعان .. النوع الأول عبارة عن خامة لتشكيل التماثيل والمجسمات التي انتهت إليها الاتجاهات التجريدية الحديثة ويطلق علي هذا النوع اسم "السيراميك" باعتبارها خامة كالخشب أو الحجر أو البلاستيك أو اللدائن الصناعية وغيرها من خامات التشكيل المجسم. ومعظم النقاد المصريين يعترضون علي إطلاق اسم "فن الخزف" علي هذه التشكيلات المجسمة.. باعتبار أن خامة التشكيل ليست فرعا فنيا مستقلا مماثلا لفن النحت أو فن الرسم او التلوين وأن هذا هذا النوع من الخزف يدخل ضمن فن التمثال او التشكيل المجسم. النوع الثاني هن فن الآنية .. وهو الفن الذي يضرب بجذوره في التراث منذ إنسان العصر الحجري القديم . وكان الخزاف الكبير "محمد الشعراوي" "المولود عام 1916" قد أطلق عام 1970 عبارته الشهيرة : "لقد مات فن الآنبة بعد أن قال كل ما عنده!!" مؤكدا ان الخزافين المعاصرين لن يقدموا جديدا في ميدان فن الإناء بعد أن قدم الفن المصري القديم ابداعاته المتميزة . وبعد الأواني الإغريقية والرومانية الشهيرة ثم الإبداع غير المحدود الذي خلفته لنا الحضارة الغربية. وتأكد اعلان موت فن الآنبة بعد وفاة رائد هذا الفن في عصر الحديثة سعيد الصدر "1909 1986" فلم يكن من بين الخزافين من يملك الموهبة الحقة التي تقنع متابعي الفنون الجميلة أن فن الؤناء لا يزال قادرا علي تقديم اضافة جديدة بعد كل التراث العريض المتنوع قديما وحديثا في هذا الميدان. ثم جاء محمد مندور بموهبته المتفوقة ليؤكد ان فن الإناء حي لم يمت .. ويعلن أن فن الإناء في مصر قادر علي تقديم الجديد الذي يجتذب الأذواق المتعطشة الي الجمال الفني في عصرنا الحاضر. وقد اقام الفنان عدة معارض مبهرة لمبتكراته في فن الإناء الخزفي. واستطاعت أواني محمد مندور أن تحقق حضورا مبهرا لم تطمسه أو تطغي عليه اللوحات الملونة التي عرضت الي جانبه. محمد خليل مندور "57 سنة" هو نموذج فريد في حركتنا الفنية. فقد ولد في حي الفسطاط بمنطقة "مصر عتيقة" وعمل صبيا في "الفاخورة" وعمره 6 سنوات. والفاخورة هي مجموعة من مصانع الفخار الشعبي التي تنتج أواني الشرب وأصص الزرع وأوعية اللبن الزبادي والطبول.. وغيرها من المنتجات الفخارية الشعبية التي كانت واسعة الاستخدام في مصر. وتدرج "مندور" في الصنعة حتي أصبح يجيد التشكيل علي الدولاب الدوار. وعندما بلغ السادسة عشر عرض عليه المثال "محمد حجرس" والفنانة "صفية حلمي حسين" أن ينضم الي أسرة "أتيلية حلوان" ليخطو خطوة ابعد من صناعة القلل والأباريق ويسير شوطا في التعليم المدرسي. عندما التحق بالجيش أوكل إليه تدريب المسجونين في ليمان طره علي صناعة الخزف فوجد في هذا الموقع الجديد مشغلا كاملا مجهزا بالطينات والأكاسيد والأفران.. وبعد فترة التجنيد عين مدربا للخزف في جمعية التنمية الفكرية بالمطرية التابعة لهيئة اليونسكو. وبدأ يشارك بأعماله الخزفية في المعارض المختلفة بمصر وخارجها. القضية التي تشغل الفنان مندور هي سعيه الي تحقيق "إناء مستحيل" يقف علي سن مدبب.. فهو يسعي في كل الأعمال التي يشكلها الي تقليل مساحة القاعدة الي اقل حد ممكن.. وهذا الاتجاه دفعة الي اختيار اشكال تقترب من اوضاع "راقصات البالية" التي تتصف بالرقة والرشاقة والاتزان المحسوب.. اجسام أو آنيه مهما انتفخت أو تسامت تحافظ علي هذه الدقة والرقة البالغة. حتي وصفها أحد الفنانين بأنها تدفع في نفسه احساسا بالرهبة والجلال كالتي تتملكه امام تماثيل المصرييين القدماء العظماء. أما الفنان فهو يوجه انتباهنا الي ضيق وصغر الفوهة في أوانيه .. فالشكل عنده لم يعد يخضع للجانب الاستعمالي التطبيقي بل تحرر منه.. ان جمال النسب وتناسق الشكل عنده يحتل بؤرة الالتفات .. ويؤكد انه تأثر بأفران الخزف وطابعها المعماري عندما يشكل أوانيه . فالفرن المستخدم في صناعة الفخار ينتهي بمدخنة ذات عنق ضيق.. وهذا يذكرنا بالمعبد المصري القديم الذي تدخله من باب صغير ضيق يضطرنا ان نحني رؤوسنا ثم ندلف الي ساحة واسعة.. ويقول: "لقد طبقت هذا علي أواني الفخار التي اقوم بتشكيلها.