أنهيت إجراءات سفري علي عجل، كانت تأخذني سعادة المسافر إلي بلاد الله، للمرة الأولي سأسافر إلي تلك الأرض العثمانية التي بينها وبين وطني الكثير من الأحداث عبر التاريخ، ما بين ثقافة مشتركة، وأيضًا تاريخ مشترك، الآن تمضي الأحداث ما بين شد وجذب، موقف مخز تعيشه العاصمة اسطنبول في ظل حكم الإخواني أردوغان، ما يشفع لي سفري أن الدعوة التي وصلتني جاءت من جهة معارضة لأردوغان وحكمه وسياساته، حيث نظم حزب العمل المعارض التركي، واتحاد الشباب التركي مؤتمرًا لمناهضة الإمبريالية وضد سياسات أردوغان وأمريكا بالمنطقة، تضاربت مشاعري حين هبطت بي الطائرة علي أرض مطار اسطنبول، ما بين تهيئتي لرؤية ما يتردد أنها من أجمل البلدان، وبين موقفي كمصرية جاءت إلي هذا البلد في ظرف تاريخي سياسي شديد الصعوبة وأجواء مشحونة بالتوتر والغضب. مر اليوم الأول بافتتاحية من رئيس اتحاد الشباب التركي، ثم اختيار مجموعة من الشباب ممن تقل أعمارهم عن ثلاثين ليمثلوا عددا من الدول التي جاءوا منها، وهي إشارة أراد بها منظمو المؤتمر أن يوجهوا رسالة بأن القيادة لابد وأن تكون للشباب، ثم تحدث رئيس حزب العمال التركي، وهو رجل مسن قضي أكثر من نصف عمره في السجون لمعارضته النظام، ثم توالت كلمات الوفود، وفي اليوم التالي طلب مني القائمون علي المؤتمر إلقاء كلمة فقد كنت الممثل الوحيد لمصر، وهي الدولة التي تقف بكل قوة في مواجهة النظام التركي الداعم للإخوان، وتتحدي المشروع الإمبريالي الأمريكي بالمنطقة, وصاحبة الجيش العربي الوحيد الباقي، الصامد رغم تكالب الأعداء عليه، حينما صعدت إلي المنصة للحديث لم أكن أتوقع كل هذه الحفاوة التي لاقيتها عندما ذكرت اسم مصر، ثم اسم عبد الناصر الذي ضجت القاعة تصفيقًا له أكثر من مرة، إنني هنا علي أرض تركيا أتحدي أردوغان في بلده بقيمة مصر، وزعيمها العربي الناصري والحديث عن ثورتي 25 يناير التي أطاحت بنظام مبارك لضعفه في مواجهة المخطط الأمريكي الصهيوني، وثورة 30 يونيو التي أسقطت حكم الإخوان وتنظيمهم للأبد ليس في مصر فقط بل في كل دول العالم، وللأبد، سارت الأمور أكثر مما أتوقع بحفاوة بالغة حتي دعيت لإجراء لقاء تليفزيوني بالقناة الفضائية التركية التابعة لحزب العمل الاشتراكي التركي للحديث عن حقيقة ما جري في مصر في 30 يونيو، وتفاصيل إسقاط نظام مرسي لكشف أكاذيب أردوغان علي الشعب التركي وتوضيح أن ما حدث في مصر ليس انقلابًا عسكريًا وإنما ثورة شعبية ضد نظام يرتدي أقنعة الدين كما هو النظام التركي الآن. اليوم الثالث للمؤتمر، أثناء توجهي ضمن عدة وفود من الفندقذ حيث مقر إقامتنا- إلي جامعة اسطنبول التي ينعقد بها المؤتمر, وداخل الأتوبيس المخصص لانتقالاتنا دار نقاش بين محامية عراقية ثورية يسارية, وشاب أردني هو ضمن الذين تم اختيارهم لإدارة المؤتمر منذ بدايته، لم أنتبه لفحوي حديثهما لكني انتبهت حين قال الأردني: "لا يصح أن يحضر المؤتمر إسرائيليًا" وكأن صاعقةً هبطت فوق رأسي، انتفضت من مكاني وسألته "وهل في المؤتمر إسرائيلي" قال "يقال إن هذا الطبيب الذي تحدث عن ضرورة سلمية التظاهرات في فلسطين، إسرائيلي" قلت هل أنت متأكد؟ فأجاب: لقد قال إنه علي الفلسطينيين مواجهة الاحتلال الإسرائيلي باللافتات فقط ولا داعي للمقاومة المسلحة! أعاد حديث الشاب إلي ذهني تلك المناقشة التي دارت، ووضع المزيد من علامات الاستفهام حول شخص هذا الرجل الغامض الذي لم يفصح أحد عن جنسيته. بضع دقائق مضت حتي وصلنا إلي الجامعة، حيث استكمال فعاليات المؤتمر، وأسئلة تتردد في قلبي وضميري "ماذا لو كان هناك إسرائيلي مشارك بالفعل في المؤتمر، ستكون كارثة بالنسبة لي، فأنا من هذه المدرسة العربية المصرية التي تأبي التطبيع مع الكيان الصهيوني, كيف أشارك صهيونيًا نفس الهواء الذي أتنفسه بالقاعة، كيف أجلس معه علي طاولة طعام نتناول نفس الوجبة ونقتسمها معًا؟! وتوالت أمام ذاكرتي مذابح فلسطين كاملةً،غزة, دير ياسين، دير البلح, خان يونس, كنيسة العذراء، القدس، ثم.. مذابح الصهاينة ضد الأسري المصريين عام 67، ثأر لن تمحوه اتفاقيات كامب ديفيد، ولن تؤثر عليه اختلافات القوي والصراعات وظهور كيانات جديدة بالمنطقة، ثأر تربينا عليه، وعقيدة باتت فينا وصحونا عليها لطالما لازال منا جنود تغتالهم رصاصات الصهاينة علي الحدود المصرية، ما زال ثأر سليمان خاطر وسلوي حجازي والعلماء يحيي المشد وسميرة موسي وسعيد بدير وسمير نجيب وغيرهم الكثيرون، ثأر كل هؤلاء لم يؤخذ بعد، ما زالت صور أطفال الجنوب اللبناني تحتل مساحات كبري في ذاكرتي وذاكرة الأمة وهم يلتفون بملاءات بيضاء أدماها قتلهم في المهد، لي ثأر عند الصهاينة لن أنساه ولن أتركه، وفي عقيدتي فأنا أنتظر المعركة الكبري والأخيرة بين العرب، وبني صهيون، إنها معركة الدين والتاريخ، فهل أتجاوز عن ذلك؟ ماذا لو سألت أحد القائمين علي المؤتمر ونفي وجود إسرائيلي حتي لا يفسد مؤتمره هو؟ ماذا لو لم يصدق معي لأفاجأ بعد ذلك أن المؤتمر حضره صهيوني, هل يشفع لي جهلي بوجوده؟ كان لابد أن آخذ موقفًا متوازنًا, أخلي مسئوليتي عن كارثة التطبيع وأبريء ساحتي إن كان بالفعل هناك صهيوني، وفي الوقت نفسه لا أفسد علي أصحاب المؤتمر عملهم إن كانت المعلومة خاطئة، وقررت أن أطرح سؤالاً وعليهم الرد.. قلت: لدي معلومة لا أعرف مدي صحتها من عدمه، أرجو من السادة القائمين علي المؤتمر نفيها أو تأكيدها، هل يوجد إسرائيلي بيننا؟ اعتقد أنه لو وجد فعليه أن يجيب، بعد مناهضته الإمبريالية في هذه القاعة إلي أين سيذهب، إلي فلسطينالمحتلة؟! كان هذا هو السؤال الذي قامت الدنيا ولم تقعد بعده حتي غادرت تركيا،الغريب أن الدنيا هاجت ليس من المشاركين في المؤتمر "عرب أو غيرهم" وإنما من أصحاب المؤتمر نفسه الذين تهربوا من الإجابة بشكل قاطع ومباشر، وأشاعوا -هم أنفسهم- حالة من الفوضي التي لم أجد مبررا لها سوي التنصل من الإجابة علي سؤال فاجأهم وسبب لهم حرجًا سياسيًا، فحزب العمل الاشتراكي التركي يسعي للوصول إلي سدة الحكم في تركيا, وسؤال مثل هذا كفيل بأن يوقف ضده اللوبي الصهيوني والأمريكي المسيطر علي خيوط اللعبة السياسية في العالم، وكان من حسن التعامل في الأمر أن يصعد المسئول وبكل هدوء يرد بإجابة قاطعة "لا، ليس بيننا إسرائيلي" وإن أراد أن يكون صاحب مبدأ يكمل إجابته " ولن نسمح بأن يكون" أو أن يضطر لإجابة مختصرة بأن إسرائيليًا متعاطفًا مع القضية موجودًا للمشاركة" وعلي الحاضرين أن يتقبلوا أو يرفضوا أيًا من الإجابتين، لكن حالة التوتر الشديد والتلعثم التي حدثت أثارت المزيد من الشكوك حول هذه المعلومة. لم تكن صدمتي في رد فعل القائمين علي المؤتمر فهم في النهاية من تركيا، ذلك البلد المتعاون بشكل فج مع كل ما هو إسرائيلي، والحزب له توازناته السياسية التي يعلن عن مبادئه فيها فوق المائدة، وتحت الطاولة يمارس طقوس رفعه علي عرش البلاد حتي ولو علي جثث العرب جميعهم. كانت الصدمة حين اكتشفت أن إسرائيل لم تعد هي العدو الأول للعرب، بل إنها لم تعد العدو من الأساس!! حين صمت الجميع، ولم يهتم أحد بما حدث! لقد نجح المخطط الصهيوني الأمريكي الذي تم تدبيره لنا منذ سنوات في أن يجنب إسرائيل عداء العرب، وأن يخلق لكل منا عدا آخر ينشغل به ويستنفد ثرواته وتفكيره وطاقاته، عدو منا يقتلنا بأيدينا وأموالنا نحن العرب، في العراق، صار العدو الأول هو حزب البعث، وداعش، أما إسرائيل فلم يعد أحد يذكرها بسوء أو يتذكرها, ولم يلتفت العراقيون لكارثة تجري اليوم علي أرضهم من توطين إسرائيليين بأرض العراق بينما هم منشغلون بداعش التي تقتل أطفالهم ونساءهم وتفجر أسواقهم وتبيع بناتهم في أسواق النخاسة، داعش، تلك الصناعة الأمريكية الصهيونية التركية التي استقطبت الشباب العربي الذي تركناه نحن فريسة للفكر المتطرف والفقر والبطالة والجهل وانتهاك الكرامة والآدمية فهرب يبحث عن وطن اسمه المال أينما كان، ودين اسمه الجهل والكفر رافعًا راياته السود المكتوب عليها اسم الله ليلصق بديننا السمح جرائم قتله وخياناته, فصرنا نشوه ديننا بأبنائنا, نذبح أنفسنا من النخاع إلي النخاع. وفي سوريا، صار العدو الأول هو النظام السوري لفصيل من الشعب، والعدو الأول لفصيل آخر هو داعش، أيضًا داعش، ويبقي آخرون وهم الغالبية العظمي من السوريين بلا هوية بعد أن تشتتوا وشردوا علي بلاد العالم, فهم في شوارع تركيا يتسولون لقمة العيش, ويملأون الأسواق والأزقة, ويمتهنون أقل الأعمال بأقل الأجور, هؤلاء هم شعب سوريا العظيم الشقيق، مشردون في شوارع اسطنبول! قصصهم التي حكوها لي تخبرنا بمعني الوطن وقيمته، قيمة أن يكون لك أرض آمنة، وجيش يدافع عنك بدمه، ومؤسسات تؤكد قوة الدولة وتماسكها، دموع وحكايات السوريين في الغربة زادتني وحشة لبلدي، وددت لو أعود إليها في غمضة عين لأتأكد أني، ما زال لي وطن آوي إليه فيحميني من وحشة الغربة وآمن فيه وله وبه. أما فلسطينالمحتلة فصارت حماس هي العدو الأول لفتح، وفتح هي العدو الأول لحماس قبل أن ينتقل عداؤها إلي مصر لتنقلب أصول اللعبة وتتحول حماس الفصيل الذي ظنناه مقاومًا إلي ذراع أخري لأمريكا وإسرائيل في المنطقة، تقتحم سجون مصر, وتنتهك حدودها وتقتل ضباطها وشبابها تحت زعم الدولة الإسلامية، والإسلام من تلك الكيانات العميلة الخائنة جميعها, بريء، هو نفسه تنظيم الإخوان وبيت المقدس وأنصار السنة، ورفقاءهم الذين صاروا يهددون أمن مصر ويستقطبون العداء المصري لهم لنكف عن عداء إسرائيل، لمحو ذاكرة الحروب والثأر من ضمائر المصريين والتي عانينها وسنظل. وفي اليمن صار العداء بين اليمن وبعضه، فالحوثيون لا يختلفون عن داعش، ولا تفرق قضية سنة وشيعة لأن تلك الكيانات يتم خلقها وزرعها داخل وطننا العربي وفقًا لقومياتنا ونزعاتنا الدينية، ومبدؤها في النهاية واحد، هو تفتيت وتقسيم الأمة العربية التي انتصرت علي أمريكا وحلفائها وهزمت يدهم الطولي في المنطقة عام 73. وفي ليبيا، والسودان، ولبنان، فالحال هو نفسه يتكرر بنفس الطريقة والمخطط يعيد صياغة نفسه بذات السيناريوهات في كل شبر من الوطن، ليطرح السؤال نفسه علي ضمير الأمة: أيُ وطن عربي اليوم صار عدوه الأول "إسرائيل"؟