في ذلك المساء البعيد، الذي شحبت معالمه مع الأيام، زارني الصديق الشاعر زين العابدين فؤاد لينبئني باقتراح يقتضي إيصاله إلي نصر. والاقتراح مقدم من أحد الدارسين الهولنديين الذين يدرسون اللغة العربية مع زين. وبحكم صلة هذا الدارس بالخارجية الهولندية، من جهة، وبالأوساط الجامعية، من جهة أخري، عرض إمكانية استقبال نصر أستاذا بجامعة ليدن. (الجامعة العتيقة في الدراسات العربية والإسلامية)، مع توفير الأمان المناسب، من جهة، وإمكانات الدراسة المنتجة، من جهة أخري. كان الصخب والعنف يدوّمان حول نصر إذ ذاك. ولهذا، لما استوثقت من زين ألا شبهة وراء هذا العرض، استأذنت نصر في الزيارة. ومن ثم توجهنا إلي منزله، حيث أعاد زين عرض الاقتراح عليه. وبالطبع، حرص نصر علي التوثق من نزاهة العرض وألا شبهة من خلفه في المسألة إعلاميا أو سياسيا أو حتي أكاديميا. ومن ثم تحول نصر نحوي وسأل: والآن ما رأيك؟ الحق أني - منذ طرح زين العرض - كنت في جدل داخلي تتوزعني فيه عوامل واعتبارات وتحسبات شتي. ولكني عندما جلست إلي نصر كنت قد حسمت رأيي، وقد قطع بهذا الحسم ما رأيته من تشديد الحراسة عليه، حتي في داره، وكثف هذا من شعوري بالنطاق المفروض عليه، حتي في مواصلة مهامه الجامعية، لقد أصبح الوضع ليس تأمين شخصه، وإنما صار عزلا وحصارا. وفي مسار آخر، كانت الإثارات في الحياة العامة لاتكف عن الضجيج، سواء من المناوئين أو المناصرين، كان المناوئون قد صعدوا إلي كل المنابر والمصاطب يشحنون الناس ويهيدجونهم في مواجهة خطر يهدد عقيدتهم، ويعولون ويشنعون مستندين إلي محكمة قضت بالردة. وشيئا فشيئا، تقلص انتاج نصر واجتهاداته واسهاماته المتعددة إلي التساؤل الغوغائي عن مدي صحة عقيدته الشخصية. ولا أنسي اجتماعا للجنة كنت عضوا بها، ومن المفترض أن اللجنة تضم عدداً من النخبة المثقفة، لأن هذه اللجنة واحدة من لجان جهاز أطلق عليه »عقل الأمة«، في هذا الاجتماع انساق الحديث للإشارة إلي ما تسمي قضية نصر أبوزيد. ولأني انبريت معترضا علي تناول المسألة بخفة، وأخذت في بسط بعض جوانب أطروحات نصر، إذا بأحد شيوخ اللجنة يستوقفني متسائلا بما معناه: دعنا من هذا، المهم خبرنا: هل هو مسلم أم كافر! وأغلب الرأي - عندي - أن هذا التقليص والاختزال مقصود من أولئك الواقفين خلف الحملة، فهذا يؤدي إلي إقصاء أطروحات نصر وإضافاته المعرفية والمنهجية وابعادها عن تناول الناس، من جهة، ومن جهة أخري، فإن تحويل الاهتمام للانصباب علي مدي صحة عقيدة الشخص، وتسليط الغوغاء ضده، يكون هذا بمثابة »فزاعة« لإرهاب الناس والاتعاظ مما جري لهذه »الأمثولة« الخطر، كل الخطر، الذي يتحسب له هؤلاء، ويعملون علي درئه، هو أي فكر، أو حتي إجراء، وخاصة إذا أتي من خارج جماعتهم، وسعي لإعادة النظر، حتي في طريقة رسم حروف الكتابة، فهم يعرفون أن هذا سيقر مبدأ يعلمون أنهم ليسوا قبل متوالياته. وبلغ من شدة هذه الحملة التكفيرية أن من المناصرين من أخذ يلوب في مساحة التأكيد علي أنه لم يخرج عن ربقة الاسلام، بل وأخذ لفيف من أهل السلطة القائلين بالاستنارة والتجديد، ممن كانوا يرسلون له الرسائل بانحيازهم لموقفة، أخذوا يلحون عليه لإعلان إسلامه، والتوجه للمحكمة وترديد الشهادتين، وكأن ما أنتجه نصر واجتهد في الاسهام به منهجيا ومعرفيا، وكأن موقفه الفكري والاجتماعي، كان خروجا فعليا عن جادة الاسلام، وكأن إقامة محاكم التفتيش الفكرية، وتشويه ضمائر الناس وتلويث نواياهم، كأنه حق مشروع لهذه الفئة الباغية!
وفي أغلب الأحوال، كان موقف الكثير من المناصرين يفضي الي اختزال دور نصر وما أسهم به من انجاز، وأضافه من اضافات معرفية ومنهجية، إلي دور »الضحية« الذي وقع عليه اضطهاد القوي السلفية، أو الذي يعاني افتقاد حرية التعبير، أو ما أوجزته احدي القنوات الفضائية »عدو الاستبداد«. وكانت هذه الاختزالات، سواء من المناصرين أو من المناوئين تضيف الي ازعاج نصر وتثير غضبه. وكثيرا ما عبر عن ضيقه من هذه الاختزالات. وكان يرفض الاشارات التي تحاول قرنه مع أمثال سلمان رشدي، وكان ينادي بالنظر الي انتاجه لا إلي الشعارات الصحفية والاعلامية، فهذا ما يظهر تباين موقفه وتوجهه عن أمثال هذه المقارنات، ويخرجه من دائرة الاختزالات بأنه »أمثولة« ولا بتلك التي تسمه بأنه »ضحية«. مهما يكن من أمر، فالأكيد ان نصر كان لديه من الدواعي والدوافع والاعتبارات، ماهو أكثر من تحسباتي وتقديراتي، ولكن كان لابد من كسر طوق العزلة والحصار، والخروج خارج دائرة الصخب والعنف المحيطة. ومن ثم كان قرار الانتقال الي ليدن. وليبدأ مع هذا الانتقال طور جديد من أطوار الانتاج المثمر والاجتهاد المنير والابلاغ الأوسع. واللافت أن تجاوز نصر لهذه المحنة لم يكن المرة الأولي ولا المرة الوحيدة التي يواجه فيها امتحانات قاسية ويتجاوزها منتقلا الي مرحلة أكثر نضجا وأوسع افقا واعمق فكرا.. ومن هذا الاعتبار، كان نصر رجلا ممتحنا، وكان يتجاوز امتحاناته بوعي يتنامي مكسبا اياه طباعا طيبة بعيدة عن الضغينة والمرارة. لقد امتحن، وهو بعد صبي، بمرض الوالد العائل ثم وفاته، الأمر الذي فرض عليه دورا عائليا وتوقعات والتزامات ظل وفيا بها، ولكنه لم يقعد حبيس هذا الدور، بل اجتهد بدأب علي تغيير هذا الشرط الحياتي القاسي ليعبره إلي صنع حياة أرحب وأجمل. كما كان من أبرز امتحاناته في الحياة العامة ما فاجأتنا به احدي غضبات السادات التي قضت بنقل مجموعة من أساتذة الجامعة الي وظائف ادارية بوزارات مختلفة، وكان نصر من بين هذه المجموعة. وأشهد ان نصرا كان من بين أكثر أفراد هذه المجموعة تماسكا وبعد صدمة المفاجأة، شرع في تنمية دراساته وتعميق وعيه الاجتماعي، الأمر الذي مثل نقلة في توسيع أفق انجازه. والبادي، ان الامتحانات التي امتحن بها نصر كانت تدفع به للانغماس أكثر في الواقع ومعاينة تحولاته وتفهم آليات الصراع الاجتماعي وتمثلاته الفكرية والثقافية. ومن ثم ظل مهموما بهموم الفئات المغبونة وبالعمل علي الكشف عما يرفع الاصر عنهم. ولانه قد بان له ان المجال الذي يمكن ان ينجز فيه هو المجال الثقافي، لذا دأب علي تجويد امكاناته وصقل أدواته في هذا المجال لاتاحة وعي اعمق وادراك ارشد بين ايدي الناس، مستبعدا دور الجامعي المغلق في عالمه، المكتف بمعرفته المتخصصة المحددة. وهذا الحافز الديموقراطي، حتي علي المستوي المعرفي والثقافي، ظل ملمحا ساريا في عمل نصر نتلمس بواكيره منذ بدايات اختياراته وانتماءاته الواعية. وهذا ليس بالأمر الغريب، فقد كان نصر آخذاً في الانتحاء نحو التيارات التي بقيت حية فعالة من »الديموقراطيين الثوريين«، والذين تعود مصادرهم الي جيل النصف الثاني من الأربعينيات العظيم، ذلك الجيل الذي عمل بدأب في مناحي شتي ساعيا الي تحرير الوطن والمواطن، وتحرير العقل والوجدان، وبناء مجتمع أكثر عدلا وكرامة وجمالا. ويتجلي هذا الحافز الديموقراطي ليس في عمل نصر البحثي فقط، ولا في اجتهاداته العلمية فحسب، وانما يتمثل- ايضا- في حرصه علي التثقيف العام، فلم يكن يتواني عن الاستجابة للمحاضرة أو المناقشة في أي منبر وندوة يري انها تخدم في التنشيط الثقافي. ورغم تخصصه العلمي الدقيق، فإنه لم يكن يستنكف المشاركة في لقاء ثقافي يجري في بيت من بيوت الثقافة الجماهيرية أو نحوها. وأغلب الظن، أن هذا الحافز الديموقراطي كان بين الدوافع التي حدت به للاهتمام بدراسات الثقافة الشعبية، وقد كان من نواتج هذا الاهتمام لا الاطلاع علي بعض أعمالها أو نواتجها فقط، ولا دراسة بعض مقرراتها دراسة نظامية فحسب، وإنما الكتابة- أيضاً- عن بعض أشكالها، مثلما كتب عن اللغز بوصفه أحد الأنواع الأدبية الشعبية، ولقد تداولنا حول دراسة مشتركة عن مظاهر التدين في الثقافة الشعبية، ولكن قطعته الشواغل المتتابعة.
وعلي أي حال، فإن امتدادات معرفية مثل هذه، لم تكن- بالنسبة لنصر- مجرد تزيّد أو استطراد خارج عن مجري عمله الرئيسي، إذ إن نصر كان يصدر عن إيمان بتكامل النظم المعرفية، خاصة التي تنصب علي أحوال البشر، وإن كان من زوايا متباينة، فهي تتماس بالضرورة مع ميدانه الرئيسي، ميدان الظاهرة الدينية ومحاولة إخضاعها للدرس المنهجي المنضبط القائم علي فحص الوقائع الملموسة ووضعها في سياقها الدَّال، فهذا هو الذي يمكننا من إحسان فهم تصورات البشر وأفكارهم المتعلقة بممارساتهم الدينية. ومن هنا كان تنبيه نصر إلي دور الدراسات البينية حيث لا تستغني الدراسات الإسلامية عن مداخل ومكتسبات دراسات إنسانية أخري، مثل: الأنثروبولوجيا والفولكلور وعلوم اللغة والسيميولوجيا والتاريخ وعلم الأديان المقارن، فضلاً عن الدراسات النقدية المعاصرة، ومن هنا نفهم- أيضاً- تأكيده الدائم علي أن توجه دراساته هو إلي تحليل »الخطاب الديني« وليس دراسة الدين في ذاته، حيث يقوم بفحص أقوال المفسرين والمؤرخين ومن إليهم، لا أركان الدين نفسه.. وفي فحص هذه كان يعني- بداية- بما سُمي »بلاغة الخطاب«، أي الوسائل اللغوية التي يتوسل بها قائل القول لكي يؤثر في متلقي هذا القول، ويبث إليه أفكاره ورؤاه، وهذا يعود بنا إلي مبدأ »الإبلاغ« كمبدأ محوري في منجز نصر المنهجي. ويبدو أن الكامن وراء هذا التوجه البحثي أبعد من مجرد المنهجية البحثية، وإنما يعود- في المقام الأول- إلي الاهتمام بموقع هذه الأفكار من البشر أنفسهم وتدافعهم الاجتماعي، ويبين عن هذا تأكيده علي تاريخية هذه الأقوال وعلي الوقوف ازاء الشروط التاريخية- الاجتماعية التي أنتجت هذه الأقوال، وإحسان فهم كيفية تكوّن هذه الأقوال ودواعيها يُنير لنا مجريات الحاضر، ويرشد مسيرة شئوننا الجارية. إن المقام ليس مقام بيان عن إنجاز نصر المعرفي والمنهجي، والكشف عن دوره في الثقافة المعاصرة، وإنما كان القصد من هذا الإلماح السابق التنبيه إلي وجوب الخروج من أسر ترديد الصيحات والأقوال والمقارنات المعممة، والتي تدور في دائرة وضعه موضع »الضحية« مرة، أو في وضع النموذج »الأمثولة« مرات.. بينما الواجب هو الالتفات إلي منجزه وما أضافه معرفياً ومنهجياً، وإلا تبدد والخاسر في هذا هو الأجيال التالية، كما خسره الجيل الحالي بتشويشه عليه وتغييب الوعي به. والمهمة العاجلة الآن، هي الإسراع بجمع أعمال نصر، خاصة دراساته التي تفرقت في السنوات الأخيرة، ومن ثم يمكن إتاحة هذه الأعمال وتيسير الوصول إليها من المتطلعين للإفادة منها، أو حتي للراغبين في تبيّن حقيقة إنجاز نصر وطبيعة أطروحاته. أما بالنسبة لشخصه فإن المعاناة من قدر زوجته وأهله وأصدقائه ومحبيه، الذين يصدق عليهم الحكمة الشعبية التي تساءلت عن أمَّر الأشياء في الوجود؟ وأجابت: فقد الحبيب!