في رواية "السلفي" الصادرة عن الدار العربية للكتاب يستعرض لنا د. عمار علي حسن في إحدي وعشرين عتبة هي فصول الرواية مراحل ضياع ابن الراوي في أفغانستان وليبيا والعراق. وتستشعر الخطر القادم منذ السطور الأولي المتمثلة في المفتتح الذي يقول فيه: "أنا، وصهريج بيتي، الذي سيهدمه الطامعون، دار معلقة في وجه الريح لها عتبة غير العتبات، وهذه فقط التي أكشفها لك؛ لأنها جلية كشمس نهار الصيف، منها البداية، ولا رجوع إليها، وبعدها حيرة مقيمة." ولاحظ هاهنا المقابلة بين وضوح النبوءة واستخدامه تعبير شمس نهار الصيف وبين الحيرة المترتبة علي تحقق هذه النبوءة المشئومة والتي ساقها علي لسان الشيخة زينب في الفصل الأول إذ تنبئ السامعين بالعتبات الإحدي وعشرين فتشكل كل واحدة منها مفتتحا لفصول الرواية أو ألغازا وأحجيات تتكشف لنا فصلا تلو الآخر، لتكشف لنا أسرار صناعة السلفي وأسباب ضياعه في غياهب الفكر الظلامي. وقد اتبع الكاتب في صياغة العمل أسلوب الرحلة أو المسار، فقام باستخدام البيوت وعتباتها للطواف بها وبما تمثله من ذكريات بيتا بيتا، وعلي الجانب المقابل يذكر الرحلات المضادة، فهو يرتحل في المكان والزمان في أكثر من اتجاه، ويبدأ الرواية بعتبة البيت الأول وهو أطول فصول الرواية ومحورها الرئيسي حيث يقول: "أنت سألتني: لماذا أنا هكذا؟ وأنا أجبتك بسؤال: كيف أصبحت أنت هكذا في غفلة مني؟" فيمضي بنا في تلك الرحلة عارضا ما غاب عنه كأب فكان ما كان، ويضع العتبات الإحدي وعشرين فيما يشبه القائمة ملزما نفسه بها ومثيرا لفضول القارئ في جرأة سردية تحسب للكاتب. وقد تميزت العتبات الثلاث الأولي بإدخال المفتتح في سياق النص ولكنه تخلي عن هذا الالتزام بدءا من الفصل الرابع، ويظهر نذير الخطر الذي حذر منه في الفصل الأول في الفصل التالي له مباشرة وهو بروز جماعة التبليغ والدعوة وبداية التربص بمن صام وصلي ومن لم يفعل لينتهي الفصل بمشهد شديد الدلالة وهو جفاف الزير الذي وضعه سليم السويركي لسقاية عابري السبيل وقد باض فيه اليمام وكسته الأتربة. ومما يحسب للكاتب إحكام سيطرته علي الشخصيات وظهورها تباعا كل حسب دوره وكذا حسن ضبطه لزمان وقوع الأحداث فتصبح هي ذاتها مؤشرا لزمان الرواية. أما المدهش في العمل فهو إغفاله لاسم السلفي بعكس جميع الشخصيات الواردة فيه، ولعله قصد بذلك التوكيد علي تنميط "السلفي" وكيف تضيع ملامحه وهويته فيصبح مقولبا في فكر جامد فكلهم عندئذ سواء. كما قام بتوظيف الأسماء التي منحها لشخصيات الرواية مثل"مفيدة" زوجة "أبو عطا الله" والتي أشفقت علي المسافرين للبندر فزرعت أمام بيتها تعريشة تقيهم حر الشمس، في إشارة من الكاتب لأنفع الناس للناس، وعلي صعيد آخر نجد "مطيع عبد السميع" خريج دار العلوم والذي لم يتخرج إلا بعد إذن التنظيم. وبدءا من العتبة الرابعة يتخلي الكاتب عن إدخال المفتتح في الرواية التي اتخذت فصولها شكل القصص القصيرة المتسلسلة، ويمهد لفكرة القطيع بحكاية الراعي يوسف أبو أسطاسي الذي كان يعلمهم رعي الغنم ومعهم "أسعد الخروف"، ذلك الذي "استغني عن رأسه"، في تلميح واضح لكلمة شاعت في فترة حكم الإخوان ولحقت بهم لنري فيما بعد سقوط حفيده ناشد ضحية الإرهاب الناجم عن فكر هؤلاء وقتله لمجرد أنه مسيحي. وليست مصادفة أن يختار الكاتب موت الحفيد لا الابن الذي لم يرد ذكره ولا الجد، فأكد بذلك علي تغول الفكر الظلامي وامتداد جذوره علي مدي عقود في غفلة من الوطن وتغافل من أولي الأمر. ثم يطرح لنا العلاقة المتشابكة بين حيدر العمدة السفيه وبين الشيخة زينب التي لا تخشاه في مقابل مداهنة أسعد له من منطلق "التقية"، ثم توبته فيما بعد ولجوئه إلي العلم والقراءة فكان ومكتبته حجة الراوي فهمي عبد الرحمن علي ولده "المهندس" السلفي في عدم الأخذ بالمظاهر وأن التوبة مفتوح بابها لو انفتحت العقول التي ضيعها أصحابها في كهوف أفغانستان وصحراء ليبيا، في تلميح آخر لزمن الرواية. ويعد الفصل السادس من أهم فصول الرواية في رصد تحولات المجتمع المصري متمثلا في القرية، ففي بيت عبد الرحيم نطلع علي حياة سلوي عاملة البريد التي وللمفارقة فهي عاجزة عن الوصول لزوجها مشحوت الذي يعمل في العراق سائقا لشاحنة، فنري إشارات عدة لزمن الرواية في هذا الفصل، فهي عاملة تلغراف، ونري كذلك جماعة التبليغ والدعوة وأخيرا تفشي الهجرة إلي العراق وليبيا سعيا للرزق وإلي أفغانستان سعيا للجهاد ولربما الرزق أيضا. وآخر هذه الإشارات موت مشحوت متفحما إثر قصفه بصاروخ أمريكي إبان حكم صدام. وعن العنصرية التي لم يخل منها المجتمع يحدثنا في العتبة السابعة عن "أبو سعيد" كبير العبيد الذي يميط الأذي عن الطريق ويحفظ القرآن ولا يسلم عرضه من ألسنة أهل القرية الكارهين للونه الأسمر في جاهلية كانت أولي بجهاده من الاختباء في قعر كهف في تورا بورا. ثم يربط الكاتب بين العلوم الطبيعية وجمود الروح حين يقارن ابنه المهندس الرافض للشعر والأدب بصديقه عاطف الزنط الذي انغمس في معادلاته وقوانينه الفيزيائية فماتت روحه وأجدب خياله، وهو الفصل الذي يتم فيه الإفصاح عن اسم الراوي وصفته لأول مرة في صفحة 115. وفي الفصل التالي مباشرة يكشف عن المكان وهو قرية صفط اللبن، وإمعانا في الكشف نعرف تاريخ "عطا الله" وعلاقته بحيدر كاشفا بذلك عن بذرة الخير في حيدر الذي عطف عليه وآواه طفلا. ثم يستطرد الكاتب في التنقل بولده بين البيوت وعتباتها مستعرضا هموم الوطن من ألغام تحرم عليه الانتفاع بقطعة من أرضه وألغام أخري في علاقات الحب التي تقع بين المسلمة والمسيحي ويري في الزواج المدني حلا لها وحقا للمحبين، كما ينتقل به من بيت المسيحيين الذين احتكموا إلي الشيخ إسماعيل في تقسيم إرثهم "حسب شرع ربنا"!! ليحط علي بيت سرحان البصباص وولده حسن الذي حاول انتهاك ماريا ليصبح بعدها "الشيخ حسن" في إشارة لهوس هؤلاء المتشددين بالجنس فيستبيحون الحرام ويحرمون الموسيقي مثلما حاول حسن مع صفوان عازف الرباب فتغلظ أكبادهم وتجف أرواحهم فتكون النتيجة أن يصبح "في بلادنا أميون يفكرون بطريقة علمية، ومتعلمون لا يعرفون كيف يفكرون أصلا." كما لا يعفي الكاتب بطله المحامي من الإدانة حين التجأ للشيخ غندور الدجال لكي يستطلع أخبار ولده ولكننا نلتمس له العذر، فاليأس خير سمسار للدجال والعبرة بمن يستفت قلبه كصفوان أو يعمل عقله مثل متولي الغفير الذي لخص تيار الدين السياسي في قوله "أبوابهم مفتوحة علي بعضها"، وألا خير في مثقف "شيوعي" يقول ما لا يفهمه الآخرون فهو في تلك الحالة محض ثرثار كالأستاذ فكري. بيد أن الشيخ إسماعيل صاحب شعار "هم رجال ونحن رجال" يقع في نفس الفخ الذي يقع فيه السلفيون حين يقول "هكذا علمني شيخي وكان غزير العلم" فطبق بذلك مقولتهم "من لا شيخ له فالشيطان شيخه" وجعل شيخه مرجعه لا عقله، ليتضح لنا أن الرواية ما هي إلا مناجاة من الراوي لشبح ابنه الفقيد بعد أن فقد عقله بموته ليقفل بها دائرة اللوم وانتظار الأسوأ.