منذ عشرين عاما انتقلت الفنانة هيام عبد الباقي إلي القاهرة، ورغم صخب المدينة وحياتها العصرية إلا أن ذلك لم يؤثر علي الفنانة التي ظلت تحمل بداخلها حياة القرية بثرائها وتراثها وحكاياتها وتفاصيلها ولم تغفل منها شيئا بل إنها تعمقت وتغلغلت داخلها لتسيطر علي عالمها الوجداني والفكري لتخرج هذا المخزون في شكل حكايات مرسومة متعددة التفاصيل . حكاية واحدة من حكايات د.هيام عبد الباقي قادرة علي أن تختطفك لوقت طويل غير محسوب علي عقارب الساعة، فما أن تدخل إلي عالم اللوحة الزاخر بالتفاصيل حتي تندمج في عشرات المشاهد والأفكار التي تسطرها هيام في كل سنتيمتر مربع من مسطحها الذي يروي بلا توقف بروح مصرية صميمة، وهو ما علق عليه الناقد ياسر جاد قائلا كان توزيع الشخوص والحيوان والنبات والطير في مسطحها المزدحم في أعمدة رأسية تارة وسطور أفقية يعلو بعضها بعضا تارة أخري، لتصور مشهدا لبانوراما المكان والنشأة والبيت والأحلام والأمنيات والأهل والأصحاب والجيران ومرتادي الطرق والمناسبات والأعياد والأفراح والمآتم. تبتسم الفنانة هيام عبد الباقي خلال لقائي بها وسط لوحاتها التي قدمتها في معرض متميز استضافه جاليري آرت لونج بالزمالك قائلة: كل معارضي تحمل اسم "حكايات" عدا معرض واحد سميته "المكتوب علي الجبين"، مارست خلاله أيضا الحكي لكن من خلال الكتابة داخل البورتريه، وتضيف: ربما يرجع ذلك لارتباطي بحكايات الجدة والجرن والغيطان والبيوت القديمة، وفترة الطفولة حيث نشأت وتربيت في الريف، وعشت تفاصيل تلك الحياة وتشربتها. مئات الشخصيات التي تندمج معا داخل العمل الواحد، اندماجا أقرب لما قد تراه في الريف أو المناطق الشعبية ، حيث تذوب الفنانة داخل الناس، ولذا تجد شخوصها تتضافر في حالة قرب فيما يعكس حالة الانتماء والدفء والمحبة والسلام ، بل إن ذلك الامتزاج يمتد ليشمل الحيوانات والبيوت التي تتلاحم مع البشر لتؤكد حالة التعايش الإيجابي. وعلي الرغم من تعدد الشخصيات التي تقدمها هيام داخل العمل الواحد إلا أن المرأة تسيطر في الغالب علي المشهد، حيث تقول هيام: أقدر المرأة جدا وأشعر أنها مظلومة ومضطهدة وأن كثيراً من حقوقها مسلوب، وقد عشت مع الفلاحات ورأيت عظمة المرأة في تحمل أعباء كثيرة ، ولذا جاء طغيان المرأة علي المشهد التشكيلي في أعمالي بصورة تلقائية، بل إنني لم أنتبه لهذا الأمر إلا عندما لفت أحدهم نظري لذلك. ولا يمكن فصل الكلمة عن أعمال الفنانة هيام عبد الباقي حيث تتضافر النصوص والحروف مع باقي العناصر داخل اللوحة، فلم تعد الشخصيات تعيش داخل الحكاية فحسب، بل إن الحكاية تتضافر مع الشخصيات لتصبح جزءًا منهم ويصبحوا جزءًا منها . والكلمة تعتبر محركاً وجدانياً قوياً لهيام حيث تراها تغرق تارة في رباعية لجاهين أو قصيدة لفؤاد حداد ، أو تغضب مع قصيدة »لا تصالح« لأمل دنقل، أو ربما تتأمل حياة الناس من خلال الأقوال المأثورة. وقد طرحت الفنانة في أعمالها العديد من الأسئلة الفلسفية كقيمة البحث عن السعادة ، وبحث الإنسان عن ذاته وعن هويته. وقد شعرت حين بدأت قراءة حكايات هيام الفنية بالونس والألفة كما شعرت أنني أقوم برحلة بدأتها منذ عهود ما قبل التاريخ حيث رسومات الكهوف وانتهيت بها عند ثورة يناير وما خلفها من تبعيات، تقول هيام : ربما يعطي الأسلوب الذي استخدمه وألواني ذلك الإحساس بالقدم حيث كنت أستخدم الأصباغ الطبيعية علي ورق قطني ثم انتقلت للأكاسيد الترابية، وأنا بالفعل أحب رسومات الكهوف، حيث تشغلني فكرة الحكي عن حياة الإنسان علي الجدران وكيف ترك الإنسان البدائي آثاره هناك خالدة عبر السنين ولذا تختفي الملامح في إحدي لوحاتي، حيث يموت الإنسان وتبقي آثاره. ومن رسومات الكهوف تمتد الرحلة في كثير من المشاهد لتغوص في تفاصيل الحياة المصرية وصولا إلي ثورة يناير التي تراها بارزة في بعض اللوحات، فهناك تلك اللوحة التي تروي دور المرأة في الثورة ، أو حين ترسم هيام مصر وكأنها امرأة في حالة غضب تجر وراءها كل الحكايات الأخري، ثم حين يسيطر الكلام علي المشهد التشكيلي فيما يشير إلي تلك الفترة التي غرقنا فيها في الشائعات حيث تتواري الشخصيات لتترك المساحة لصخب الكلمات. حكايات هيام التشكيلية بالفعل ممتعة، وتحتاج لأكثر من قراءة علي أكثر من مستوي.. وللحكاية دائما بقية نستكملها مما تتركه داخلنا من معان وقيم.