»البيضة التي تبيض ذهبا « هذا المثل السائر كان ينطبق علي السينما المصرية حتي جاءت الضربة القاضية التي تلقتها علي يد نظام السادات . كانت بيضة تبيض ذهبا علي ما قاله رجال الاقتصاد في حينه ، لأنها كانت تدر دخلا قيل أحيانا إنه الدخل الثاني بعد قناة السويس ،وقيل مرات أخري انه في المرتبة الثالثة ، لكن ما يهمني شخصيا هو ما كانت تلعبه السينما المصرية من دور عظيم في نشر الثقافة المصرية ، كما أسلوب الحياة المدنية المصرية ( القاهرية منها خاصة ) بما فيها من عراقة وثقافة وفن رفيع وحياة اجتماعية رحبة تتعانق فيها التقاليد العتيقة مع الحداثة في ضفيرة واحدة ، يتعايش فيها ابن البلد مع الأفندي مع المصري من أصل يوناني أو إيطالي أو شامي ، وان كان هناك صراع طبقات فهو الصراع الطبيعي الذي لم يعرف الروح الطائفية ولا المجازر الحيوانية التي نراها الآن هنا وهناك . كانت السينما المصرية في عهد ازدهارها عنوانا علي أن هنا مجتمعا متكاملا فيه ما فيه من مشاكل ، لكنه كان يبني المؤسسات ويؤطر تداعيات الحياة المعتدلة ، فالأحبة يتمشون علي الكورنيش متعانقين ، وفي الحدائق يجلسون علي النجيل يتسلون بالترمس والملانه ، يغنون ويلقون النكات ، يتبادلون القفشات ، وان غازل شبابهم فتياتهم فهو الغزل الجميل العفيف الذي هو أشبه بقصائد العامية أو كرباعيات جاهين المسجوعة المدججة بالعواطف ، وليس هناك أي خدش لحياء أو عنف أو اعتداء . كانت السينما المصرية تنشر اللغة القاهرية الرقيقة الجميلة ذات الرنين والإيقاع والتي أعتقد أن الفتاة القاهرية الدلوعة لعبت في رقتها وجرسها أكبر الأدوار ( من يقوم ببحث هنا ليدشن هذه الحقيقة ) كانت تنشرها لا فقط في ربوع العالم العربي ،بل في ربوع مصر نفسها ، في الدلتا والصعيد وسيناء والواحات وكأنها تنشر وحدة اللغة في كل هذه المرابط. قبل أن تتلقي السينما المصرية الضربة القاضية كانت ترفع أسماء النجوم عاليا فيكون لنا بين العالم نجم ساطع هو عمر الشريف ، ويكون لنا نجم يقتلك ضحكا كما نجيب الريحاني أو اسماعيل ياسين أيقونة السينما الشعبية. وفي هذا سأحكي حكايتين . الأولي حدثت في المغرب . أظنه في العام 1989 حيث سافر وفد مصري كبير إلي ملتقي الثقافة القومية العربية في أغادير المغربية ، وكان من حسن حظي أنني كنت أحد مدعوي هذا الملتقي الذي ضم كتابا ومخرجين وفنانين من كل نوع وشكل ؛ وكان من حسن حظي أن غرفتي في الفندق كانت بجوار غرفة الفنان الكبير عزت العلايلي ، وما بين لقاء علي السلم أو في المطعم تقاربت روحانا فعقدنا صداقة ، دعته إلي أن يدعوني إلي تمشية ليلية في شوارع المدينة ، التي كانت نائمة في سبات عميق ، لكن وفي أحد الميادين الشعبية وجدنا مقهي بدا منه شعاع ضوء فاقتربنا مؤملين أن نجد أحدا داخله لنحتسي كوبين من الأتاي المغربي الجميل، وما أن طرق العلايلي الباب حتي انفتح علي مجموعة من الشباب الذين أصيبوا بذهول رهيب وهم يرون عزت العلايلي أمامهم بلحمه ودمه ففتحوا أفواههم عاجزين عن الكلام ووقفوا متصلبين وكأنهم فقدوا القدرة علي الحركة، وفي لحظات بدأوا في الصراخ والتنطيط غير مصدقين وهاجو وماجو وبدأوا ينادون علي أهالي الحي: الحقوا ياناس عزت العلايلي هنا بلحمه ودمه ، وما هي إلا لحظات حتي انفتحت الشرفات والبلكونات والأبواب وجاء الناس من كل صوب عميق صارخين مهللين ، الفتيات قبل العجائز، والشبان قبل الشيوخ، وتحول الميدان إلي مظاهرة رهيبة وكل يريد اختطافه إلي بيته ، لينتهي المشهد بأن أخرجوا المقاعد والطاولات وبدأوا يأتون بالحلوي والمشاريب ، وضجت الميكروفونات بأغاني أم كلثوم ، وأقول صادقا إنني بعد لحظات وجدت نفسي وكأنني في حلم غير معقول ، ليستمر المشهد حتي طلعت الشمس ، ولم نستطع التحرك إلا استعانة برجال البوليس الذين كان الواحد منهم يأتي ويعانق العلايلي حتي ليعتصره ، وحملونا في عربتهم والناس يجرون خلفنا حتي باب الفندق . دخلت غرفتي منهوك القوي لكن النشوة نفخت أوداجي ،والفخر ملأ جفوني، فرحت في نوم عميق لعشر ساعات متتالية . وكانت هذه دليلاً قاطعاً علي قوة السينما . السينما المصرية . الحكاية الثانية حدثت هنا في القاهرة وفي العام 1979 تحديدا ،وفي مقهي ريش علي وجه الخصوص ،حيث جاءت أسرة زوجتي السابقة الأيرلندية تزورنا وكان طبيعيا أن نأخذهم إلي مقهي ريش حيث كانت مربطنا الدائم أنا وهي . كانت الأخت الصغري لزوجتي فتاة رومانسية رقيقة في السابعة عشرة اسمها مورين، كانت جالسة بجواري تتطلع هنا وهناك فإذا بشاب مصري وسيم يدخل المقهي فإذا بها تقف صارخة لتقول : أومار الشريف ، طك ، وتسقط مغشيا عليها ، إذ إن المسكينة ظنت أن الشاب هو عمر الشريف ، وكانت حوسة امتزجت بضحكات هستيرية من جميع من رأي المشهد أو لاحظه ، فإذا الشاب المسكين يترك المقهي في حالة رعب رغم محاولاتي لاستبقائه حتي يقنعها بأنه ليس عمر الشريف نفسه ولكنه يشبهه ، وما أكثر الشبان المصريين الذين كانوا يشبهون عمر الشريف في شوارع القاهرة ، علي ما قالت مورين بعد أن أفاقت ومعها حق . هذه هي قوة السينما ، السينما المصرية .