تتوقف يد الفنان عن الرسم، وتصمت روحه عن البوح بأسرارها ورؤاها، إنما تظل أجزاؤه الروحية تنبض في أعماله التشكيلية والتصويرية التي خلفها وراءه، هذا ما ينطبق تماما علي الفنان التشكيلي خلف طايع الذي فارقنا الثلاثاء الماضي الثالث والعشرين من سبتمبر في هدوء وصمت، فالصمت الظاهري سمة شخصيته، رغم انفعال كل حواسه بكل ما حوله، فهو ابن الإسكندرية التي ولد فيها عام 1943 مطلع القرن الماضي، في حقبة زمنية تاريخية هامة من تاريخ مصر حيث الاهتمام الكبير بالثقافة والفن، تلك هي البيئة التي ولد فيها طايع وتشكلت فيها ملامح شخصيته عميقة الثقافة بل موسوعية لروح ثائرة لا تهدأ في تعاطيها مع ما يحيطها، ربما كان هذا سببا في اختياره للبورتريه كمعادل موضوعي أو وسيط ينقل به مايراه وما يشعره في مئة بورتريه تحمل توقيع خلف طايع. طايع لم يكن مجرد مصور متمرس في رسم البورتريه، لكنه كان فنانا بحق يستطيع التقاط روح صاحب البورتريه الذي يرسمه بل ويودع فيه من شخصيته، فتجد البورتريه وكأنه يحاور المتلقي والناظر إليه، لم يلتقط يوما طايع لحظة ساكنة لموديله الفني بل كان يجتهد في تصوير التفاتة خاصة تميز الشخصية ليستعرض من خلالها قدراته الفنية كرسام متمكن بخطوطه المتراقصة والمتقطعة لتحدد الشكل العام والملامح الأساسية للشخصية في هدوء، ليملأها بلمساته الملونة بألوان متأثرة بروح المدينة الساحلية الإسكندرية حيث الألوان الباردة كالأزرق لكنها تصدر ضوءا خاصا من داخلها، كذلك الدرجات الدافئة من الألوان الساخنة ليمزجهما معا في كيان يحدد الحركة الداخلية للمساته التي تشبه في حركتها حركة موج البحر الذي يبدو عشوائيا ومتحركا في كافة الاتجاهات لكنه في نفس الوقت محدد داخل إطار غير ملموس وغير ظاهري، حملت لوحات طايع شحنة انفعالية كبيرة وكأنه يعزف لحنا "بيتهوفنيا" لم ينته بعد، إنما مساره محدد ومنطلق صوبه دون توقف. خامة الرصاص أيضا كان لها نصيب كبير من أعمال طايع الفنية لا سيما في الرسم الصحفي الذي تألق به علي العديد من صفحات الجرائد والمطبوعات المتنوعة، تميز استخدامه للرصاص بقوة الخطوط المتراصة لتكون كتلة صلبة محددة لقوة السطح والملامح، كذلك حافظ علي الشحنة الانفعالية التي تحملها اللوحة و الرسم. للعينين وضع خاص جدا لدي طايع، التي كان يخرج فيهما كل طاقته الفنية لتمنح البورتريه الروح اتي يبحث عنها ويحاول الإمساك بها في نظرة البورتريه والتي تلخص فلسفة وقيمة العمل الفني ككل. أقام طايع معارض محلية ودولية كثيرة، كما شكل دويتو مع الروائي الراحل خيري شلبي ينبض بالتفاهم الناجح، كان شلبي يكتب صفحتين في مجلة "الإذاعة والتليفزيون" تحت اسم "بورتريه"، وكان طايع يرسم الشخصية، استمرا أعواما قدما خلالها مئات البورتريهات لغالبية الشخصيات المصرية الوطنية المتميزة مكتوبة ومرسومة، كان أبرزها الرئيس جمال عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك والدكتور زاهي حواس والإعلامية درية شرف الدين وسناء منصور والفنان كمال الشناوي وفنان الشعب سيد درويش وأحمد مظهر وصلاح ذو الفقار وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وسيدة الغناء العربي أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد سلطان... وغيرهم من العظماء الذين أثروا الحياة السياسية والفنية في مصر، بالإضافة إلي رسمه روايات وأعمال محمد جلال وخيري شلبي كرواية "الأوباش". في أحد حواراته الصحفية صرح طايع بأنه بعدما عمل مخرجا صحفيا بدأ يهتم بعمله الصحفي وأهمل التشكيلي، حتي فوجئ في أحد الأيام أن صاحب أحد المطاعم الصغيرة يستخدم أوراق المجلة في لف السندويتشات، ما جعله يقرر العودة إلي الفن التشكيلي، وأقام في الشهر نفسه لهذه الواقعة معرضا ضخما لبورتريهات سبق له أن رسمها ونشرها في المجلة، بالإضافة إلي عدد من اللوحات. أوضح طايع في حواره أنه فوجئ بالإقبال الكبير علي المعرض من قبل المهتمين بالرسم والفن التشكيلي، وكتبت عنه المجلات والصحف كلاما جيدا للغاية وثناء لم يكن يتوقعه، ما حفزه أكثر علي أن يركز في الرسم والفن التشكيلي، فالصحافة ستخطف عمره من دون إنجاز حقيقي يذكر، وكان قد اقترب من سن المعاش. في سطور تخرج خلف طايع في كلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، وحصل علي ماجستير في التطور التاريخي لعلاقة الصورة بالكلمة المكتوبة من الجامعة نفسها عام 1984، وحصل علي دكتوراه الفلسفة في "المنمنمات الإسلامية ودورها في عمل تصوير إيضاحي معاصر" عام 1996. صدر له كتابان الأول هو "الحروف الأولي دراسة في تاريخ الكتابة"، والثاني هو ورشة عمل بعنوان "الرسم بالقلم الرصاص". عمل الراحل رساما ومخرجا صحفيا في مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، منذ عام 1980 أثناء رئاسة الكاتب الصحفي الراحل أحمد بهجت لتحريرها، حيث استمر حتي غيبه الموت أخيرا. كان يحب أن يرسم منطقة كوم الدكة التي هدمت مبانيها، وكان يرسم المراكب اليدوية الصنع التي تصنع حاليا بالماكينات، ويرسم منطقة المصانع في الماكس والعامرية، والمناطق الزراعية الريفية المتميزة، التي تحولت الآن لبيوت عشوائية، ولهذا فقد عايش الإسكندرية قديما التي كانت تضارع في جمالها قبرص وأثينا ومدن إيطاليا.