"أخبار الأدب" دائما لها في نفسي وعقلي ركن متميز، وهذا أمر يطول شرحه، والآن ليس أوانه أو مكانه، من ثم فإن أي عتب يأتي تعبيرا عن حب وتقدير، ورغبة في الاقتراب من حدود الكمال - بمفهومه البشري طبعا - وغيرة علي مطبوعة شهدت مولدها - عن قرب - وتابعتها نموا وازدهارا وتعثرا، ثم قياما لأكثر من مرة، وكان لقلمي المتواضع شرف استضافته علي صفحاتها، في وقت كان أحيانا محروما من التعبير في بيته! أظنها مقدمة واجبة وضرورية قبل أن أشير إلي ثنائي علي ملف "منظومة لدعم الكتب" الذي أعدته الزميلة العزيزة منصورة عزالدين، وهذا الثناء لا يعني ألا ثمة ملاحظة أرجو أن يتسع صدرها، وكذا عقل الصديق العزيز طارق الطاهر رئيس التحرير لتلقيها علي وجهها الصحيح، وأتعشم أن تكون استكمالا للملف القيم الذي تناول قضية يدرك أهميتها كل مهتم بإثراء المشهد الثقافي في طبعته المستقبلية. بداية، تساءلت: لماذا غاب الضلع الثالث في مثلث النشر؟ فإلي جانب الناشر الحكومي، والناشر الخاص، هناك من لا يمكن حسابه علي أحدهما، أقصد المؤسسات الصحفية المعنية - إلي جانب اصداراتها من جرائد ومجلات - بنشر سلاسل الكتب بدوريات مختلفة، وفي ظل أزمة النشر التي ضربت الصناعة دون استثناء لأي من مواقعها، فإذا بمطبوعات المؤسسات والدور الصحفية من كتب يختفي بعضها، وترتبك دورية الاصدار للبعض الآخر، ويتمني المثقف الغيور لو لم يصدر ما يصدر ازاء ضعف المضمون وعيوب الصناعة البادية فيما يصل إلي السوق من كتب لا تحمل من صفتها إلا الشكل المتواضع أغلب الأحيان! من ثم كان غريبا أن تفرد "أخبار الأدب" بستانها لبحث القضية، دون اشارة لجيرانها - ولا أتصور أنها فعلت ذلك عن عمد بالتأكيد - وقلت لنفسي: رب ضارة نافعة، إذ إن غياب رؤية القائمين علي نشر الكتب بالمؤسسات الصحفية قد يكون مدخلا مواتيا لطرق المسألة من زاوية أغفلها من أدلوا بدلوهم في الملف. وقبل أن ألج في صلب ما أريد، أؤكد أن ما رصده أو اقترحه المشاركون في الملف قد مس نقاطا غاية في الأهمية، وعالجوا الأمر من زوايا حساسة، لكن بحكم موقعهم لم يكملوا بعض أجزاء الصورة، وأظن أن السطور القادمة سوف تحاول الاقتراب - بحكم الموقع - مما لم يتناولوه، وربما يكون في ذلك فائدة للجميع. وإذا كان هدف "أخبار الأدب" من فتح الملف محاولة استبيان سبل التكامل والتواصل بين الطرفين، أي النشر الخاص، والنشر الحكومي دون الانحياز لأحدهما، فإن دخول المعنيين بالنشر في المؤسسات الصحفية "علي الخط" قد يفتح أفقا جديدا من شأنه الدفع نحو المزيد من تكامل الأدوار، وتفعيل التعاون بين من يشكلون مثلث صناعة النشر. لنتفق - من حيث المبدأ - اننا شركاء، سواء تعلق الأمر بالوضع المأزوم، أو أي محاولة لاستشراف آفاق انفراجة تفتح شرفات الأمل، من ثم ووفق هذا المنظور في المعالجة، فإن توسيع دائرة الرؤية يقتضي التعامل مع بنية أو منظومة متكاملة، لا يمثل المثلث الذي أشرنا إليه إلا أحد الأركان، فقبل الناشر هناك الكاتب، والكتاب، وبعده يقف الموزع والمروج، وصولا إلي مبتغي الجميع أي القاريء. بالتالي فإن استهداف الانقاذ يعني أن التغيير يجب ألا يركز علي ما يعانيه الذين يحيط بهم أضلاع المثلث، ولكن أيضا من يقفون حول تلك الأضلاع، إذا كنا نسعي - معا - لصياغة استراتيچية وطنية للنهوض بصناعة النشر، علي أن يدخل في نطاقها المستجدات، لتخرج شاملة النشر بجناحيه: الورقي والالكتروني. لقد أجاد من تناولوا القضية في البستان/ الملف التعبيرعن القضية، كل من وجهة نظره، أو بحسب موقعه، وبات علي صوت يصدر عن المؤسسات الصحفية عبء وأمانة تقديم الجانب الذي سقط سهوا، لاسيما أن ثمة ما يميزه، إلي جانب قواسم تجمعهم معا، ومن هنا تتأتي أهمية دقة العرض. تنفرد السلاسل الصادرة عن مؤسسات صحفية بأنها أقرب إلي حال من وقع بين المطرقة والسندان، فهي تعاني ما يعانيه النشر الحكومي، والنشر الخاص، من مشاكل وعقبات، لكنها فضلا عن ذلك، وفوقه، تعاني في ذات الوقت معاناة اضافية شأن كل المطبوعات الصحفية في اطار المؤسسات من ضغوط الجهات الرسمية الدائنة التي استيقظت فجأة لتطالب بالمتراكم عبر دهر، وكان علي صانع القرار أن يختار بين ما يصله بالجمهور كل يوم أو كل اسبوع (الجرائد والمجلات)، وما يستهدف قارئاً خاصا- غالبا - يكون اللقاء به شهريا (الكتاب)، والبديهي أن يصب الاختيار في مصلحة الصحف لا الكتب! ولم يكن صدفة- دون الوقوع في فخ نظرية المؤامرة- أن تكون المؤسسات الصحفية القومية الأكثر اقترابا من حافة الخطر، هي ذاتها التي تسعي لإنجاز دور ثقافي تاريخي عبر نشر سلاسلها من كتب، والأمثلة تتعدد من دار الهلال إلي روز اليوسف، وصولا إلي دار المعارف المعنية -أساسا - بنشر الكتب، وبدرجة أقل كانت الصورة أقل قتامة في دار التحرير والأهرام وأخبار اليوم. ورغم ما يبدو واضحا من دعم الرئيس السيسي - في أكثر من مناسبة - للمؤسسات القومية، ودورها، واستمراريتها، فإنه يمكن رصد مواقف من مسئولين كبار تشير إلي ما يشبه خطط حصار بعض المؤسسات، والأخطر أن هؤلاء يتخذون من الاجراءات ما يتجاوز الحصار إلي الخطة الممنهجة لإغلاق ما يسمي بمؤسسات الجنوب، بدفعها نحو الهاوية، وليس صدفة - كذلك- أن تكون ذاتها صاحبة النصيب الأوفر في انتاج الكتب وسلاسلها! وينسي أو يتناسي هؤلاء المسئولون - وبعضهم لم يكن بعيدا عن حكومات ما قبل 25 يناير - أن ما يفعلونه يعني عمليا اهالة التراب علي جانب من التاريخ الثقافي للوطن، واسدال ستار اسود علي سلاسل صنع بعضها عقول أجيال وراء أجيال - خلال نحو ما يقرب من قرن من الزمان - لأنهم يضعون القائمين علي ادارة مؤسسات ورثت ديونا بأكثر من أصولها أمام خيارين: إما ان يدبروا وبمساعدة حكومية مستحقات العاملين ومستلزمات طباعة بعض الاصدارات الصحفية، ونسيان سلاسل الكتب، أو ممارسة المزيد من الضغوط للتخلي عن بعض الأصول، أو إلغاء هذا الاصدار أو ذاك، أو الهروب للأمام قبولا بأفكار الدمج! إلي هذا الحد بلغ سوء الأحوال، حتي قبلت دار عريقة - لا داعي لذكرها بالاسم - أن تطبع كتبا لمن لاوزن ولا موهبة له، لمجرد استمرار السلسلة في الصدور، مقابل أن يدفع ما يغطي تكاليف الطباعة، ويكفيه فخرا أن يقترن اسمه ب"لوجو" دار لها تاريخ، فربما يكون جواز سفره ليس فقط إلي عالم الشهرة والمجد، ولكن إلي لجان الجوائز في غيبة المعايير والضمير! بالتوازي مع هذا المشهد التراچيدي، فإن المشاركة في المعاناة لا تعني تساوي الأطراف في أوزانها النسبية، ومن ثم قدرتها علي المقاومة والاستمرار، وفي المحصلة الأخيرة بينما منظومة النشر الحكومي في وزارة الثقافة تجد وزيرا يدعمها، والناشر الخاص قد يصادف جهة في الداخل أو الخارج تقف وراءه، وحين تعجزه الحيل ينشر بأجر معلوم له، لا منه، ثم أن هناك من يتباري مع شركات المقاولات للانتاج السينمائي في النشر بذات الفلسفة، فإن المؤسسات الصحفية القومية لا تستطيع أن تتباري مع الناشر الحكومي أو الخاص في الآليات التي يلجأ اليها للاستمرار أو الربح، ومن ثم تتضاعف أزمتها، وتتصرف بمنطق أن المهدد في رزقه وقوت أبنائه لن يفكر إلا في تأمين الحد الأدني لضمان الحياة، وما دون ذلك يصبح ترفا، واستمرار نشر الكتب هو الترف بعينه ها هنا! جانب آخر من الأزمة يتمثل في الافتقار للكوادر ذات الاحترافية المطلوبة للمنافسة، خاصة في مواجهة الناشر الخاص، بل ان هذا الأخير قد يحتل من الاهتمام في الصفحات المعنية بالكتب في جرائد المؤسسات القومية، ما تتطلع إليه اصداراتها من الكتب، وقد تبدو مفارقة، ولكن بقليل من التأمل يمكن تفكيك اللغز ببساطة! ثم ان علي رأس بعض السلاسل في مؤسساتنا القومية من لا يمت بصلة للثقافة، أو أي عمل ثقافي سابق علي اعتلائه لصهوة الكتاب الذي يحمل اسمه كرئيس أو مشرف علي التحرير، حدث ذلك، ومازال يحدث دون أن يحاول من يقدر أن يصحح الأوضاع، أو يقول: "لا" لصاحب القرار المعيب، والنتيجة مزيد من التراجع والتدهور، وكأن في الأمر تدبيرا يشبه ما حدث في مؤامرة الخصخصة، وإغلاق مصانع القطاع العام، بحجة انها خاسرة بينما الحقيقة أن من اتخذ قرار الاغلاق هو نفسه من دفع غير المؤهلين الي قمة الادارة، تمهيدا للقضاء علي أي أمل في الإنقاذ، ثم يدفع في النهاية بمن يشتري بثمن بخس! ... و... والحديث ذو شجون، وأمره يطول، واجترار الأوجاع والمآسي لن يغير من الأمر شيئا، وإنما وحده طرح الحلول والمخارج فقط القادر علي تجاوز ما يمكن وصفه - دون مزايدة - بأنه محنة صناعة النشر في مصر. ما العمل؟ مرة أخري، لنتفق أننا نتقاسم مصيرا مشتركا كجهات قائمة علي النشر في مصر، ولننطلق من الاعتراف بوجود مجتمع مأزوم، والأزمة الفكرية أحد تجلياته، وأننا بصدد مرحلة حرجة وخطيرة من عمر الوطن، من ثم فإن مصر باتت -أكثر من أي وقت مضي - تحتاج لمشروع وطني ثقافي يتطلب تغييرا جذريا في السياسات الثقافية تحت مظلة استراتيچية تكرس الوجه الثقافي للثورة، يأتي في القلب من هذا التوجه امتلاك خطة محددة واضحة المعالم والأدوار لإنقاذ صناعة النشر بأجنحتها الثلاثة. أذكر - وربما تتذكرون معي - أنه قبل عدة أشهر اجتمع نحو ثلث مجلس الوزراء - برئاسة نائب رئيس الحكومة - لبحث مشاكل السينما، ولم يسأل أحد من المعنيين بصناعة النشر نفسه، أو أحد المسئولين: لماذا لا يجتمع ذات النفر - أو غيرهم من المعنين - لبحث مشاكل النشر؟ وربما يقول قائل: وماذا حدث بعد الاجتماع الخاص ببحث مشاكل صناعة السينما؟ - تقريبا لا شيء! مرة ثانية: ما العمل؟ نحن بحاجة لمبادرة غير تقليدية، تترجم فعليا مفهوم التفكير خارج الصندوق، لن نفكر أو نسعي لاستثناء الجانب الحكومي، ليس فقط لأنه أصيل في المنظومة،و لكن بمنطق حتمية شراكة كل الأطراف الفاعلة، مع تصحيح وضبط الأدوار وتكاملها، في سياق وطني يجمع ولا يفرق، قادر علي ترجمة التفاعل ليكون الناتج (حاصل ضرب) لا (حاصل جمع) للجهود المبذولة. من ثم اقترح أن تتبني "أخبار اليوم" عقد مؤتمر وطني لإنقاذ صناعة النشر، وأن تتضافر جهود التجهيز والإعداد مع الجميع، وبالجميع، مؤتمر لا يرفع شعار"التكرار يعلم الشطار" فيعيد التأكيد علي توصيات صدرت عبر لجان ومؤتمرات ناقشت الشأن الثقافي وقضية أو قضايا النشر تحديداً، ثم لم تجد حظا أو ضوءا، ثم أن الشطار حتي لو تعلموا من التكرار، فإن ثم عناصر معوقة، وعراقيل تهدد تنفيذ ما تعلموه، وبالتالي فإن ثمة قوة إلزام تتطلب أن يكون ما يصدره المؤتمر قرارات واجبة التنفيذ، لا مجرد توصيات تروق للبعض، ثم لا تعني أحدا في موقع المسئولية، فلا ينفذ منها بنداً. أتصور أن مؤتمرا يجد مساندة علي أعلي مستوي سياسي بإمكانه خلق سياق وطني، لانقاذ واحدة من أهم صناعات القوة الناعمة، ليس باعتبار النشر ملمحاً هاماً من مشروع وطني ثقافي للنهضة والتحديث والتقدم، ولكن أيضا بانعكاسات ثماره ونتائجه خلال معركة استعادة الدور المصري عربيا وافريقيا واسلاميا. واذا كانت الثقافة والفن والابداع والعلم والبحث العلمي أذرعا في تطبيق مفهوم القوة الناعمة، فإن النشر يظل قاسما مشتركا في تقديم منتجاتها ومنجزاتها في الداخل والخارج، شرط أن يتم التعاطي مع الكتابة باعتبارها فعل تحد ومقاومة في لحظة استهداف للهوية الوطنية والقومية، وللدور الاقليمي في آن. إن شئنا أن نتقدم خطوة للأمام - علي أرض الواقع - فإن من يري في مقترح المؤتمر الوطني لإنقاذ صناعة النشر ما يتفق مع رؤيته، فإن عليه اجهاد فكره، وطرح تصوره حتي يمكن صياغة ورقة عمل هي نتاج رؤي جميع من يعملون في الميدان علي اختلاف حقولهم، تكون في مجملها موضع مناقشات مؤتمر يلد أفكارا كبيرة وعظيمة، ومبادرات غير تقليدية، لكنها قابلة للتنفيذ، وملزمة لكل الأطراف وتجيب - بدقة- علي أسئلة أساسية من قبيل: لمن نكتب؟ ماذا ننشر؟ لمن نوزع؟ كيف نعلن ونروج؟ كيف نتكامل؟ ما حدود المنافسة؟ متي نعرض بضاعتنا الكترونيا؟ كفانا افلاسا فكريا، وكسادا ثقافيا، وتهافتا معرفيا، ووقوعا في أسر دوائر البيروقراطية والتكنوقراط، وإقصاء للمثقف الحقيقي، وبُعداً عن القاريء المتعطش للتجديد المعرفي والأفكار الجديدة المتناغمة مع رياح الثورة.