وعلينا أن نعترف بأن مصطفي حسين كان "الأيقونة" التي جلبت الحظ لهذه الدار منذ التحق بها، قبل منتصف السبعينيات من القرن الماضي بعام واحد، وحتي لحظة صعود روحه إلي بارئها، فجر السبت الماضي. دائمًا كنت أراه ماردًا عبقريًا، ما إن نستدعيه في لحظة الحاجة حتي يأتينا ملبيًا: "شبيك.. لبيك"، وفي لمح البصر يبهرنا بتحفة لم تكن لتخطر ببال، فتدور المطبعة، وتصدر "الأخبار" أو "أخبار اليوم" أو "آخرساعة" مزدانة بأروع الأغلفة ممهورة بتوقيع ماردنا "مصطفي حسين" الذي عشق هذه الدار، ولم يستجب قط لأي إغراء يدعوه للإخلاص لغيرها. ولعل نبله هذا هو الذي حال دون تفكيره، يومًا ما، في المزايدة علي وفائه ل "أخبار اليوم"، أو علي إبداعه الذي يصفه الرسام والناقد التشكيلي والروائي ناصر عراق في مرجعه الوحيد في مجاله "تاريخ الرسم الصحفي في مصر"، الحائز به علي المركز الأول لجائزة أحمد بهاء الدين في أولي دوراتها عام 2000 في الفصل الذي يحمل عنوان "الفنان الذي أضحك الملايين" بقوله: "يزهد مصطفي حسين في الثرثرة التشكيلية التي يلجأ إليها بعض الفنانين؛ الأمر الذي يجعل إبداعه سهل التناول، ممتعًا لقارئ الصحيفة اليومية المرتبطة بالبسطاء"، ويضيف: "هذا الفنان تعامل مع الجسد الإنساني باحترام وتوقير، علي الرغم من بعض المبالغات هنا وهناك. ولعل المجد الذي حققه هذا الفنان لم يتح لرسام مصري غيره، حيث يسعي آلاف الناس يوميًا إلي رؤية كاريكاتيره علي الصفحة الأخيرة ل "الأخبار" حتي يأخذوا نصيبهم من الابتسامة قبل أن يتصفحوا الجريدة" نعم.. كان مصطفي حسين زاهدًا في الثلاثية التشكيلية، وهذا ما جعله يحقق أثرًا بالغ العمق في تاريخ مؤسسة أخبار اليوم التي رفعت شعارها اللافت "دار صحافة الملايين"، ونجح مصطفي حسين بالفعل في مضاعفة عدد النسخ التي توزعها "الأخبار" يوميًا منذ كانت تلك التوءمة التاريخية بينه وبين الكاتب الساخر الكبير أحمد رجب لإنتاج النكتة اليومية الطازجة التي كان ينتظرها، كل صباح، ساسة وتنفيذيون ومستوزرون ورجال أعمال يودون التعرف علي أحوالهم وأصداء أفعالهم في هذه المرآة السحرية، وعموم القراء الذين يكتفون بتعرية الظلم والفساد من حولهم عبر هذا الحس الانتقادي الساخر، والساحر في آن معًا، ويرون مثلً ما فعلته رسوم مصطفي حسين برئيس الوزراء الأسبق الدكتور عاطف صدقي تلك التي أضحكت "الخلق" عليه كلما رسمه "المارد" جالسَا علي مقعده الوثير وقدماه لا تمكنهما ملامسة الأرض من شدة القصر! لذا كان من الطبيعي أن يستولي مصطفي حسين، أستاذ صناعة البسمة، علي وجدان المصريين، بل ويتربع داخل قلوبهم، لقد تيموا بالفعل بمخلوقاته العجيبة التي أبدعتها ريشته من وحي تزاوج عبقريته بأفكار أحمد رجب: "فلاح كفر الهنادوة"، "عزيز بك الأليت"، "عبدالروتين"، "كمبورة"، "عبده مشتاق"، و"مطرب الأخبار". وإذا كان مصطفي حسين قد ضحي ببراعته في رسم اللوحة الزيتية العملاقة التي تناسب امكانات فنان مارد مثله ليلبي نداء العمل الصحفي في بلاط صاحبة الجلالة؛ فاكتفي، لسنوات طويلة، بالرسم بالحبر الأسود فقط، قبل أن تدخل الألوان صحفنا اليومية في مصر. إلا أنه كان سرعان ما يطلق العنان لهذه العبقرية عندما يخلو إلي ذاته ليرسم ملصقًا لمهرجان سينمائي دولي، أوغلاف كتاب سياسي يوزع عشرات الألوف، لأهمية مادته واسم مؤلفه وغلاف مصطفي حسين. وإذا كان، رحمة الله عليه، قد رسم أغلفة لمئات الكتب، فقد اعتذر عن ألوف بعد أن فوجئ بأن حلم كل مؤلف أن يصدر كتابه وعلي غلافه لوحة لمصطفي حسين! ويبدو أن الغلاف كان دائمًا هو ما يجمعني بمصطفي حسين منذ قرر أن يدخلني دائرة اهتمامه بعد التحاقي بالعمل الصحفي بمؤسسة أخبار اليوم في عام 1976 وتخصصي في أمور النشر والإبداع. فذات يوم في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، دعاني لتناول الغداء في مطعم كلاسيكي بوسط البلد، وضمت المائدة الناشر الكبير الراحل محمد المعلم، مؤسس "دار الشروق"، وابنه المهندس إبراهيم، وكانت المناسبة الاحتفال بصدور كتاب عملاق للطفل العربي يضم حكايات من "ألف ليلة وليلة" بريشة مصطفي حسين، وبهرني هذا الكتاب الذي جاء في قطع غير مسبوق، وملأت صفحاته لوحات مصطفي حسين الأخاذة التي سرعان ما استحوذت علي اهتمام ناشري العالم في معرض بولونيا الدولي لكتب الأطفال الذي كنت أواظب علي حضور دوراته. وعندما فاز بجائزة الدولة التقديرية في يونيو من عام 2005 عرضت عليه أن تنظم الصفحة الأدبية للأخبار، وقت ان كنت أشرف عليها، مسابقة باسمه لأفضل غلاف كتاب مصري، وراقت له الفكرة ووافق عليها فورًا، وقرر أن يمنح قيمة الجائزة من ماله الخاص لإدراكه أن هذه الفكرة ستسهم في إلقاء الضوء علي مجال أسهم فيه بالكثير، فضلًا عن أنها ستحفز الناشرين ومصممي أغلفة الكتب علي تطوير أدائهم، وتمكننا من التصدي لاجتياح الكمبيوتر لهذا المجال، وهو ما أدي أيضًا إلي اختفاء فن آخر هو فن الخط العربي! وبسرعة قمت بالإعلان عن هذه الجائزة، لكن ظروف تركي الإشراف علي الصفحة الأدبية ل "الأخبار" وأدت الفكرة. وبهذه المناسبة أدعو الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة أن يكلف "صندوق التنمية الثقافية" بتبني هذه الفكرة في إطار أرحب لتخليد اسم مصطفي حسين، والحفاظ علي تراثه الضخم في مجالات: الكاريكاتير، والرسم الصحفي، وفن رسم الغلاف، وتصميم الملصق، والقلائد، والميداليات، وذلك بانشاء متحف خاص يضم كل هذا التراث، إلي جانب أدواته ومتعلقاته الشخصية، ولوحاته، واسكتشاته، والجوائز التي نالها، والرسائل التي وصلته من أرجاء الدنيا، كما رأينا في متاحف فناني العالم الكبار. وهنا أود أن أشير إلي رأي "مادلين أولبرايت" الذي ذكرني به الصديق المبدع بشير عياد، الذي عمل لسنوات طويلة مع مصطفي حسين في إصدار مجلة "كاريكاتير" حتي العدد 330، فقد قالت "أولبرايت" بعد تأمل اللوحة التي رسمها فناننا الراحل علي أحد أغلفة المجلة: " لو كان هذا الفنان في أمريكا لغزا العالم!" في أحد أيام شهر يونيو من عام 2008 اتصل بي الفنان الكبير مصطفي حسين يعرض علي مرافقته إلي العاصمة البريطانية لتغطية حدث ثقافي مهم علي المستويين العربي والأوروبي هدفه الرد بشكل حضاري علي ما نشر في هولندا من رسوم كاريكاتورية مسيئة للرسول محمد - صلي الله عليه وسلم - وأوضح لي أن هذا النشاط يتم بالتعاون فيما بين المجلس الثقافي البريطاني و"الجارديان"، فكان ردي: لقد استنفدت عدد مرات سفري المسموح بها في ذلك العام، ومحمد بركات، رئيس تحرير "الأخبار" ،وقتئذ، لن يرحب بسفري معك، فرد : "دعني إذًا أتصل به وأعرب له عن رغبتي في ذلك". ولم تمر ساعة إلا واستدعاني الأستاذ محمد بركات لأقابله وقال لي: "حضر نفسك للسفر إلي لندن مع الأستاذ مصطفي حسين". وفي الموعد الذي حددته لنا القنصلية البريطانية للحصول علي التأشيرة لم يحضر مصطفي حسين، وأصابني قلق، وعندما اتصلت بسكرتيره محمد كربل أخبرني يأنه لن يتمكن من السفر! وبدلا من أن تكون مهمتي تغطية هذا الحدث الكبير الذي كان يحمل اسم "المصابيح المضيئة" صرت ممثل لهذا الفنان الكبير، ومتحدثًا باسمه وسط هذا الحشد الكبير من فناني العالم، وأشهد بأن حضوره كان طاغيًا رغم الغياب. وأتصور أن ذلك العام كان بداية رحلة مصطفي حسين مع المرض الخبيث. مشهد أخير لا يمكن أن ينمحي من الذاكرة .. بعد اندلاع ثورة 25 يناير، وأثناء رئاستي لتحرير "أخبار الأدب" كان حلمي أن أصدر عددًا بغلاف يرسمه الفنان مصطفي حسين، وترددت في مصارحته لإحساسي بظروفه، وبينما كنت أتصل به يومًا للاطمئنان علي أحواله، سألني هو عن أخباري، فأجبته بأنني أجهز عددًا عن مقتل أسامة بن لادن، فبادر قائلًا: "دعني أرسم لك غلافه"، ولم أصدق. وفي الموعد المتفق عليه فوجئت بأن الغلاف الذي وصلني لمعمر القذافي، وأنه خلو من توقيع مصطفي حسين، فاتصلت به لأبحث عن مخرج من هذه الورطة، ورد ببساطة متناهية: "تقدر تنتظر لبكرة؟"، فقلت له: "غدًا المونتاج"، فرد: "11 صباحًا يصلك غلاف بن لادن".. وكان. وبعد أن صدر العدد، وذهبت لأشكره، قلت له: " إيه رأيك..أنا أمتلك الآن ثروة، فهذه اللوحة العجيبة التي خلقتها الصدفة لا تحمل توقيعك، وكأنك ترفض الاعتراف بها! وضحك... رحم الله مصطفي حسين، ومنح هذه الدار القدرة علي تعويض مصابها الجلل برحيله، ومد الله في عمر توءمه أحمد رجب.