(الرحلة 797 المتجهة إلي فيينا) ,(دمحطات من السيرة الذاتية), (... د ليس إثما) , ( دبعنا الأرض وفرحنا بالغبار) وخمس مجموعات شعرية ومسرحية واحدة , هي حصيلة ما قدمه لنا الأديب والفنان الدكتور طارق الطيب. والتي ترجمت إلي الألمانية، الفرنسية، المقدونية، الصربية، الإنجليزية، الإسبانية، الرومانية، والإيطالية. طارق الطيب الذي ولد في القاهرة عام 1959 وانتقل إلي فيينا حيث أنهي دراسته ليستقر بها، ويحاضر في ثلاث من جامعاتها، هذا إلي جانب تعيينه كسفير للنمسا لعام الحوار الثقافي الأوربي. وحصوله علي العديد من المنح والجوائز منها منحة إلياس كانِيتي (Elias Canetti) الكبري في فيينَّا والجائزة الكبري للشعر في رومانيا ووسام الجمهورية النمساوية تقديرا لأعماله. حاورناه لنتعرف جانبا من قناعاته ورؤاه في الفن و الحياة. من تدريس الاقتصاد إلي الإبداع في مجالات شتي كالرواية والشعر والفن التشكيلي، هل يمكن هذا؟ يظن كثيرون أن نوعية الدراسة الأكاديمية ربما تكون معوقا ضد ممارسة الإبداع أو محفزا له، لكني أعتقد أن هذا الظن يجانبه الصواب، فالدراسة قد تعضّد الموهبة أو تغيّبها. كل مجالات العلم يمكنها أن تفتح آفاق تنوير مجددة ومدهشة للإبداع، بل لا يمنع عدم استكمال الدراسة من موهبة التميز الإبداعي. الاقتصاد هو الشكل الأقرب تمثيلا والأكثر أثرا علي نوعية الحياة للبشر، كمحفز اجتماعي وليس كشكل نظري. الحروب سببها المصالح، المصالح سببها السياسات، ونوايا السياسات تتأسس علي الاقتصاد، حتي التطرفات الدينية تتخفي في سلطات لها مصالح اقتصادية. يعني باختصار أن دائرة الحياة بؤرتها الاقتصاد، وبما أن دائرة الإبداع هي أصلا دائرة الحياة فلابد بأي صورة أن تمر عبر عجلة الاقتصاد بشكل مبطن. هل هذه الحالة من التنوع بين جهات الإبداع مريحة لك وهل ستستمر؟ التنوع يأتي عندي عفويا وليست بطولة أن يمارس المرء الكتابة في أكثر من نوع أدبي، لست الأول ولن أكون الأخير، والإبداع في طبعه لا يخرج من حلة أكاديمية؛ لذا فليس هناك إلزام بالتخصص في نوع أدبي واحد. هل الأديب قادر علي العطاء بنفس التوهج في المجالات المختلفة أم التركيز في مجال واحد أجدي؟ بالطبع يمكن للأديب أن يعطي بالوهج نفسه في أكثر من مجال. هناك من هو ماهر في العزف علي عدة آلات موسيقية بالبراعة نفسها. التقبل يأتي من التلقي: من الجمهور ومن النقاد. مَن يستحسنون التنوع عند المبدع الواحد قليلون، لأنهم في الغالب يقارنون أعماله مع جملة من المبدعين من ناحية ويقارنون أعماله المتنوعة فيما بينها من ناحية أخري. المسألة أيضا ليست مسألة جدوي التنوع بقدر ما هي مسألة جدية التنوع، وليس علي المبدع حرج، فالحكم يبقي للمتلقي، والمهم في النهاية هو النوعية وليس التعددية. ما أهمية الترجمة في رأيك؟ الترجمة مهمة في اتساع التوجه الأفقي للعمل المترجم خارج حدود اللغة الواحدة، وإن كانت الترجمة في بعض الأحيان تنحي لتوجهات سياسية بعيدة عن جودة الإبداع، وبسبب أهواء ليس من صميمها الإبداع وإنما لتأكيد وتثبيت فكرة معينة لها مصالح في الأمد البعيد، وتكون في الغالب رسالة سياسية وتجميع مؤازرين أو مناهضين لتوجه مقصود يكون في خلفية حدث الترجمة. الأفضل بالقطع هو عمق التوجه الرأسي للعمل المترجم، أي تناوله بعمق داخل اللغة الجديدة وهذا نادر مع اللغة العربية. وكيف تبدو الترجمة بالنسبة لك؟ لم يتحقق لي حتي الآن التوسع الأفقي الذي أتمناه ولا التوسع الرأسي المطلوب، لكنني راض بما وصلت إليه. هناك ملاحظة مهمة عن نفسي أود ذكرها في هذا السياق، فالبعض يتصور أن ترجماتي للألمانية هي محاولات منّي للمرور عبر لغة أوروبية ونحو محيط ألماني له ثقله، لكن الأمر أبسط بكثير؛ فأنا أقيم في النمسا منذ أكثر من ثلاثين عاما ومرتبط بزميلات وزملاء من الكتاب والفنانين هنا، والألمانية هي لغتي التي أستعملها هنا أكثر من العربية، وهي اللغة التي أشارك وأنشر بها. أنا متواجد هنا كعضو إنساني في مجتمع اخترت العيش فيه ولست سائحا مؤقتا، وأيضا وبصورة بديهية كعضو طبيعي في اتحاد الكتاب النمساويين، فمن الطبيعي أن تكون لي كتبي باللغة الألمانية، وهذا أمر عادي جدا وليس له علاقة من قريب أو بعيد بفكرة العالمية "الساذجة" لمجرد نشر كتاب في لغة أوروبية أو أكثر. و ما دور المبدع المغترب تجاه قضايا وطنه الأم في وطنه الجديد؟ ليس هناك دور محدد للأديب أو المبدع في ظني مثل دور الداعية الديني أو السفير السياسي. المبدع يقترب ويتوازي ويتقاطع مع الناس وأفكارهم وهمومهم في المجتمع الجديد عبر لغتهم الأم. من المنتظر منه أن يروج لبضاعته الأدبية بشكل إنساني معتمد علي احتكاك الوعي بالوعي لا علي المصلحة. المبدع يلزمه التفرد والاستقلال، وقضايا وطنه تأتي عبر الإبداع ونسيجه الفريد مأخوذ من أرضه القديمة ومُطَعَّم حتما بالأرض الجديدة، قضايا وطنه تأتي عبر الحوار في الإبداع والمناظرة بالفن والمحاججة بالثقافة لتقريب الصورة الحقيقية لا لخلق صورة مزيفة أو متكلفة لتحسين الصورة مثلما كان الإعلام يتقيأ بها منذ أحداث سبتمبر 2001. الإبداع الفني ليس مباراة لعَلَم يفوز أو نشيد يُتلي أو لأي انتماء سياسي مخنوق لحزب من الأحزاب. بعد سنوات من عواصف الربيع العربي نجاحاته وإخفاقاته، كيف يقيّمها الشارع الغربي من واقع حياتك؟ أقول الشارع وليس الحكومات؟ الشارع الغربي اهتم في البدايات بأحداث الربيع العربي مثلما اهتم بها كل العالم، تعاطف مع الثورات وتفهمها لأنه عاش مثلها قديما بشكل ما أو تأثر بتوابعها وتجاوزها إلي حد كبير. الآن العالم الغربي هنا يسير غير مبالٍ بما يحدث هناك، فهو من ناحية لم يعد يفهم الأحداث والتطورات المتناقضة والتغيرات الراديكالية في زمن قصير، وهو من قبل ومن بعد ماضٍ في مسيرة تطوره بلا لحظة توقف أو تواكل. المشكلة أيضا أننا في الشرق نتخيل أن العالم يهتم بأمورنا كما تشغلنا نحن، وأنه يتوقف كثيرا عند عتباتنا. نحن أول من يصرخ بجمل علي شاكلة (أين العالم مما يحدث عندنا؟/ أين ضمير العالم/ أين حقوق الإنسان؟) إلي آخر هذه التساؤلات العقيمة التي تدق أجراس مكتومة! الواقع يؤكد بإصرار أن العالم الغربي يهتم بمصالحه، يتودد للصحيح المفيد، ويتجنب العليل. ونحن بدورنا في الشرق - من قديم الأزل - نعلّي من كلمة الغرب ورأيه فينا علي كل الأصعدة. معظم الناس في أوروبا علي سبيل المثال، ينتظرون أن "تروق" الأحوال في مصر حتي تعود السياحة ويرجعون يتشمسون في مصر مرة أخري! التشكيل باللون والكلمة أيهما أقرب إلي طارق الطيب؟ التشكيل بالكلمة هو بكل تأكيد الأقرب لي، محاولاتي وتجاربي في الرسم أعتبرها مجرد تنويعات عن هواية أحبها وأمارسها بلا انتظام، لكني لم أعتبر نفسي رساما محترفا في أي وقت، رغم أنني أقمت عدة معارض هنا في فيينا في السنوات الماضية. أنا عاشق للمعارض والمتاحف، وفي فيينا فيض كبير من الفنون معظمها لا يكلفك سوي القليل من الوقت للتأمل وإعادة التفكير. إلي أي مدي ينجح الكاتب في كتابة سيرته الذاتية؟ هل يسرد الحقيقة التامة دونما رتوش، أم يتدخل فيها قلم الراوي وحرفيته؟ علي الراوي للسيرة الذاتية أن يُسَخِّر قدرته الأدبية في السرد الفني الشيق الجميل لا كتابة تقرير حياتي معلوماتي جاف، ولا يجوز له ما يجوز لكاتب الرواية أو القصة فيما يتعلق بالغموض الفني، فهو بهذا ينسف الثقة في السيرة الذاتية، فالسيرة الذاتية كشف وإضاءات. ربما عليه أن يختار وينتقي ما يبرزه لأن العالم الشرقي لدينا لا يقبل بالصراحة التامة التي تفك كل الأسرار، فهذا يدين الكاتب فورا ويُحاسب عليه أخلاقيا بل يُرجي منه في العادة أن يخفي من حياته السابقة ما يشين، وأن يجمّل ويكنس بعض الحقائق من الطريق، وهذا يقلل بالتأكيد من مصداقية العمل، لكن تبقي معادلة السيرة الذاتية العربية صعبة وتكاد تكون شائكة للمرأة وأكثر شكا. أعجبني من السير الذاتية: طه حسين في (الأيام) وجبرا إبراهيم جبرا في (البئر الأولي) ومحمود الربيعي في كتابه (في الخمسين عرفت طريقي). الثلاثة تناولوا قدرا كبيرا ورافدا مهما من الطفولة، وقدم الربيعي ملامح من الإخفاقات التي سردها بصدق شديد فأشعرنا باحترام حقيقي وصادق وأبرز لنا طول الطريق التي قطعها. وما الفرق بين كتابة السيرة الذاتية في الغرب و في الشرق العربي؟ السيرة الذاتية العربية لم تصل بعد للنضج الأوروبي ولا لمستوي الصراحة ولا يتقبلها المجتمع العربي. السير الذاتية الحقيقية ليست من أجل تصفية حسابات بل من أجل عرض تجربة حياة تستحق السرد. في الشرق العربي ما زال هناك من يحاكم الكاتب علي روايته الخيالية علي أنها حقائق حدثت له وعلي أنه هو بطل روايته في كل التفاصيل. المجتمع الرخو الضعيف هو الذي ما زال يرتعب من لوحة عارية في معرض ومن صفحة جريئة في كتاب ومن تمثال فني من الحجر، ومن مسرحية تسخر من الأحوال؛ مثل هذا المجتمع لن يقبل بالإبداع حلا لأنه ماضٍ في قناعته بأن الإبداعات مجرد ضلالات. رغم أنه مجتمع يقتني كل البدع الغربية المادية. مجتمع متناقض يرفض الحداثة ويقدس التحديث! ما مشاريع طارق الطيب القادمة إبداعيا؟ كنت قديما أبوح بما أنوي القيام به من أعمال إبداعية أو أفكار أود إنجازها. الآن أميل أكثر للتروي؛ فليس كل ما تمنيته قديما أنجزته، وليس كل ما أنجزته كان مخططا له. أُفضّل الآن أن أتكلم عن العمل شبه المنتهي أو العمل الذي قيد النشر. المدهش لي إنني إن ذكرت ملامح العمل القادم الذي أنا بصدد العمل عليه أو لم أبدأ فيه بالفعل بشكل جاد؛ أجد أن السؤال يتركز علي هذا المشروع القادم أكثر من التركيز علي العمل الذي صدر حديثا. ما رأيك حول ما أثاره رأي الروائي الجزائري رشيد بو جدرة في عدم وجود كتاب رواية متميزين في مصر؟ الروائي رشيد بوجدرة اسم كبير له وزنه في أدبنا العربي الحديث، لا أدري في أي سياق قيل هذا الكلام الذي يصعب تصديقه منه، ربما تم تحوير كلامه لإثارة معركة أدبية لا يمكن أن تقوم بهذا الاستخفاف بكل تأكيد. لا أصدق كل ما ينشر علي النت ولا حتي ما ينشر في الجرائد مما يشبه هذه المداخلات المنقوصة من أسماء معروف لنا اتزانها وزخمها الإبداعي، ولا أقبل أن أكون طرفا مع أو ضد إلا فيما سمعت بنفسي أو تأكدت منه من الثقات! لذا لن أدلي بدلوي عن الهجوم علي رشيد بوجدرة، فلكل كاتب الحق في أن يقول ما يريد وعلي الناس مقارعة الرأي بالرأي. كم شخصا يعتبر أن نجيب محفوظ مبدعا لا مثيل له في مقابل من يري العكس. وكم رأيا يزعم أن الأدب العربي في المشرق فقط وغيره من يزعم أنه في المغرب فقط، وكم هناك ممن يرون أنه لا أدب عربي أصلا! لو سنرد علي المقولة أيا كان مصدرها لا علي القائل؛ فمن البديهي والجدير بالذكر أن مصر كان لها وما زال لها وزن أدبي وباع أصيل لا يمكن محوه بضربة صوت من أي كان، فلا يمكننا أن نتناسي أو نتجاهل عمدا أسماء براقة مثل حافظ إبراهيم وأحمد شوقي والجارم والرافعي والعقاد وعبد الصبور وأمل دنقل وبنت الشاطئ وسهير القلماوي ولطيفة الزيات ونجيب محفوظ والحكيم ويوسف إدريس والمازني وعبد القدوس وصبري موسي وعشرات آخرين (ولم أذكر هنا من هم علي قيد الحياة ممن يبدعون بفيض أدبي مصري لا يستهان به) وهذه الأسماء المذكورة تمثل قطرة من بحر ثقافة مصر العريض، أقول لو تناسينا هذا وتبارينا في خطل الشوفينيات العربية الضيقة، فلن نستحق أن تقوم لنا قائمة ثقافة في المستقبل. فلسطين ذلك الوجع الدائم و الجرح الغائر الذي يختفي تحت قشرة ما تلبث أن تخدش حتي ينبجس الدم من جديد، ما الذي يراه طارق الطيب حيال هذه التراجيديا التي لا تنتهي؟ لفلسطين موضع في الوجدان لن يضيع، وفلسطين من قبل ومن بعد مكان لا يمكن محوه أو نقله لملكية آخر تحت أي ذريعة. لقد عشت أبهي أيام طفولتي في أقرب مكان منها وهو العريش. وعمل أبي طوال عمره في سلاح الحدود في العريش أيضا، وأول مكان زرته خارج مصر هو غزة، كطفل صغير يعبر الحدود وهو لم يبلغ السابعة بعد. هذا هو الإرث الشخصي المطبوع بمحبة ورباط وثيق في الوجدان. فلسطين يُسحب منها فقط بعض ستائر الزمن، وهذا لن يضيع منها لا اسمها ولا مكانها ولا مكانتها. ليس المقلق دور إسرائيل ولا ما تفعله فهو متكرر، المقلق أكثر والذي يصيب بالغم هو حالة الشرذمة والهوان السياسي العربي وشلل الرد. لا يشفي غليلي أن أضرب قصيدة حماسية لغزة أو أفقع مقالة نارية من أجل فلسطين أشجب فيها إسرائيل وأميركا والغرب وأمجد القومية العربية المشلولة. يهمني أن تكون لنا كلمة مسموعة للأذن الأخري، ليس كلمات متغيرة بل كلمات قادرة علي التغيير، لا كلمة استعطاف ومناداة للرأي العام العالمي، فهذا تخدير ذاتي، أعود بعده للمقهي أو للجماعة و"الشلة" لأتلقي المديح والإعجاب علي قصيدتي ومقالتي كمنتصر في معركة، بينما هناك من ينتج سلاحا ودمارا - ليس ماديا فقط، فهذه سوق رائجة لن تتوقف - وإنما ينتج شرا معنويا مستترا وبينا، لا تصلح معه القصائد والنيات الحسنة. لا أقلل من قيمة المد المعنوي الإيجابي لكنه وحده لا يكفي ولا يعز من ذل، ولا يخفف من قتلي بالمئات بأبشع الطرق! يجب أن تكون المعاملة بالمثل في كل شيء، كما يقول الإنصاف والعدل، بعيدا عن أي "استعباطات" تاريخية مطبوخة في الغرب ومأكولة في الشرق لكنها لن تُهضم. فلتكن المعاملة بالمثل كما تقول سياسات إسرائيل وأميركا وبقية الغرب الأوروبي الذي ينحت ليل نهار مقولة: "الدفاع عن النفس حق مكفول!". إذًا أوهن رد أن يكون هناك "رد" وأن تكون هناك "مقاومة"، ومن حق غزة أن تدافع عن نفسها، ومن أبسط حقوق الفلسطينيين أن تعود لهم فلسطين بزينة زيتونها وأهلها!