بدأ جابريل جارسيا ماركيز كلامه : "مائة عام من العزلة"، رواية فكرت فيها كثيرا. بدأ تكثيرا من المرات. كنت أمتلك كافة المواد، أري بنيتها، ولكنني لم أجد بعد الأسلوب. أي لم أعرف بعد ما سوف أحكيه. أري أن الكاتب يستطيع أن يقول كل ما يدور في رأسه شريطة أن يكون قادرا علي الاقناع. والإشارة ألة معرفة اقناع الآخرين أو عدم اقناعهم، تتمثل في اقناع الذات بداية. في كل مرة كنت أباشر العمل علي "مائة عام من العزلة"، لم أكن مقتنعا بها،وهكذا لاحظت أن النقيصة تكمن في الأسلوب ورحت أفكر مليا في أن الأسلوب الأمثل هو أسلوب جدتي حينما كانت تحكي الأشياء الاستثنائية، الفانتازية للغاية، بأسلوب طبيعي، وهو أساس "مائة عام من العزلة"، كما أعتقد، من وجهة النظر الأدبية. حينما تكتب، هل لديك عادة اعطاء ما تكتبه من صفحات الي أحد ما لكي يقرأها أولاً بأول؟ - لا. ولا سطر. أنظر اليه من باب التطير. لأنني أعتقد أن الأدب إذا كان منتوجاً اجتماعيا، فإن العمل الأدبي عمل فردي علي وجه الاطلاق، فضلا عن ذلك، يعتبر أكثر الأعمال اعتمادا علي العزلة في العالم. لا يستطيع أي شخص أن يساعدك في كتابة ما أنت علي وشك كتابته. أنت وحيد كليا، بلا حماية، كغريق في عرض البحر. واذا حاولت أن يساعدك أحد ما بقراءة ما كتبته لكي يبين لك موطئا لقدميك، فهذا من الممكن أن يفقدك التركيز، ويضرك ضررا كبيرا، اذ أن أحدا لا يعرف بالضبط ما بداخل الجمجمة حينما تكتب. بالمقابل، امتلك نظاما منهكا لأصدقائي : في كل مرة أكتب فيها، أتحدث كثيرا عنه، أحكيه لأصدقائي كثيرا من المرات. بعضهم يقول أنني حكيت له نفس الحكاية ثلاث مرات بدون أن أتذكر ويجد أنني حكيتها بطريقة مختلفة، وأكثر اكتمالا، في كل مرة. وفي الحقيقة، حسبما رد الفعل، ألاحظ لديهم النقاط القوية والنقاط الضعيفة في العمل. وبالحكي، أكون رأيا عن نفسي، وهذا يوجهني الي العتمة. قلت لي أن زوجك مرسيدس عانت كثيراً خلال كتابة "مائة عام من العزلة". - هذا صحيح ! ونحن، مرسيدس والأولاد وأنا، نتجه إلي آكابولكو، قلت لهم في منتصف الطريق : صورة الجد الذي يصطحب الابنين لكي يتعرفوا الي الجليد. من الضروري حكيها هكذا، مثل ضربة سوط، وبالتالي الإستمرار في الحكي حسبما هذا الأسلوب. درت بالسيارة، واتجهت إلي مكسيكو وجلست أكتب الرواية. لم تذهب الي آكابولكو ؟ - لا، ومرسيدس قالت لي : "أنت مجنون !". ولكنها تحملت، لأنك لا تعرف كم الأشياء وحالات الجنون كهذه التي تحملتها مرسيدس. في مكسيكو، تفجرت الحكاية دفعة واحدة. أصعب شيء البداية. الجملة الأولي في الرواية، أو القصة، تمنح الطول، تمنح الأسلوب، تمنح اللغة، تمنح كل شيء. المشكلة الكبري هي البدء. مع السرعة التي قمت بها وكل ما كنت أحمله في دواخلي، فكرت في أنني سوف أنتهي من الكتاب خلال ستة أشهر، ولكن بعد أربعة أشهر لم أعد أمتلك مليماً واحداً ولم أشأ أن أتوقف عن الكتابة. وبمبلغ الجائزة المالية عن "La Mala Hora"، دفع تكاليف ولادة ابني الثاني وابتعت سيارة، اضطررت إلي رهنها رهنا احترازيا. قلت لمرسيدس : هي ذي النقود، وأنا سوف أتابع الكتابة. ومع ذلك، لم تلزمني ستة أشهر وإنما ثمانية عشر شهراً لإنهاء رواية "مائة عام من العزلة". وخلال هذا الوقت، لم تقل مرسيدس لي أن النقود نفدت وأن المالك طالبها بايجار ثلاثة أشهر. إجابته : "هذا لا شئ، أيها السيد، لأننا سنكون مدينين بتسعة أشهر". وهكذا كان الأمر. ثم زودته بشيك مصرفي عن قيمة التسعة أشهر. . وبعد ذاك، مع صدور "مائة عام من العزلة"، تلفن الرجل الذي عاش الفضيحة، الذي قرأ الكتاب، وقال لي : "سيد ماركيز، تسعدني ان قلت لي إن هناك شيئا ما يربطني بهذا الكتاب". شيء آخر، تعرف أنني أحتاج خلال فترة زمنية محددة خمسمائة ورقة. دوما أجد الخمسمائة ورقة. اكتسبت هذا الايقاع : في نفس الوقت، لدي نفس المردود ونفس كمية الورق، هذا الورق السيئ الخاص بالطباعة. لأنني أستهلك الكثير من الأوراق. أبدأ الكتابة علي الآلة، دوما مباشرة علي الآلة. وحينما أخطئ، أو لا يعجبني ما كتبت، أو حينما أخطئ في كلمة أثناء الكتابة، وهذا علي سبيل الهفوة، أشعر أنه ليس خطأ في الكتابة، وانما خطأ ابداعي. وهكذا أبدأ صفحة جديدة، وأراكم الأوراق، ورقة فوق أخري، من جديد نفس الجملة، ثم الجملة الأكثر طولا، الجملة المصوبة، وحينما تمتليء الورقة، أجري التصويبات باليد، وأعيد كتابتها كلها. ذات مرة، كتبت قصة من اثني عشرة صفحة وفي النهاية اكتشفت أنني أستهلكت خمسمائة ورقة. أنه استهلاك رهيب للورق عند الكتابة علي الآلة الكاتبة. قلت إن كل ما كتبته يمتلك قاعدة حقيقية وأنك تستطيع تبيينها سطرا بسطر. هل من الممكن أن تمنحني أمثلة ؟ - كل ما أكتبه له قاعدة حقيقية، والا كان من قبيل الفانتازيا، والفانتازيا هي والت ديزني. إذا قيل لي أنني أمتلك نسقا فانتازيا، يصيبني الخجل. ليس هناك شيء من الفانتازيا في كتبي. لنأخذ المشهد الشهير لفراشات موريسيو بابلونيا الصفراء... يقال "يا لها من فانتازيا" ! لا وجود للفانتازيا ! أتذكر جيدا أن الكهربائي، حينما كنت أبلغ السادسة من عمري، جاء الي بيتنا بآراكاتاكا، ورأي الي جدتي تصطاد فراشة... هي ذي أسرار لا تحب أن تكشفها. تصطاد جدتي فراشة بيضاء بخرقة، نعم وليس صفراء، وسمعتها تقول "بئسا ! هذه فراشة لا أستطيع طردها، في كل مرة يأتي الكهربائي الي هنا، هذه الفراشة تدخل الي البيت". وهذا ظل دوما في ذهني. الآن، بمعالجة هذه الحكاية أدبيا، أري الي ما يمكن التحصل عليه. ولكنني أسعي إلي قول شيء آخر. في الأصل الفراشات بيضاء، كما في الحقيقة، وأنا نفسي لم أراها. ولكن صفراء أعتقد بوجودها وظاهريا العالم كله يعتقد بها.