لا أدري ما إذا كان "الخوف" من الغياب كان هاجسا عند جابرييل جارثيا ماركيز أو أنه فقط هاجس لدي قرائه والمعجبين بأدبه، ولكن المؤكد أن الهواجس هي إحدي سمات ما بعد الحداثة التي تخلفت من حربين عالميتين، كانت الأولي مسببا لظهور الحداثة وكان توأمها الثاني دافعا لانتشار ما بعد الحداثة. ربما كانت الهواجس هي أحد أعراض "التشكك" الذي صاحب ما بعد الحداثة، منذ أن رفض دريدا أفكار المركزية الأوروبية كلها واعتبرها مجرد جزء من مجمل الخبرة الإنسانية. فقد تشكك معظم كتاب ما بعد الحداثة في الحقائق كلها، ورفضوا جميع مظاهر الإيمان المطلق، كما رأي جان فرانسوا ليوتارد أن كتاب ما بعد الحداثة لم يبذلوا جهدا في البحث عن الأعماق أو سبر دواخل الأشياء والأحداث، بل تركت أعمالهم المجال للقراء أن يعثروا علي ذلك بأنفسهم، دون أن يرسم المؤلف نهاية للأحداث المروية، أو يوحي بها. بالإضافة إلي ذلك عمد الكتاب إلي الاحتفاء بالصدفة أكثر من الحرفة، واستخدام تكنيك نقل التخييل من المؤلف إلي القارئ لتقليص تحكم المؤلف بالنص. وأخيرا تري ما بعد الحداثة الخبرة الإنسانية غير مستقرة وغير ناجعة، بل وغير محددة المعالم. وأفضل ما أنتج اتجاه ما بعد الحداثة الواقعية السحرية، وهي التسمية التي ابتدعها فرانز روه، في بحثه "الواقعية السحرية: ما بعد التعبيرية" والذي نشر في إسبانيا عام 1927 ثم نشر بعد ذلك بعد توسيعه في كتاب. والواقعية السحرية في نظر العديد من النقاد ليست منفصلة عن الواقع، ولكنها تبدو سيناريوهات غير منطقية، انعدام المنطق فيها لا ينكر واقعيتها، خاصة عندما يجافي الواقع المنطق. الواقعية السحرية هي شيء ما "غريب حتي يستعصي علي التصديق، ولكن لا يستحيل تصديقه" علي حد وصف سترتشر. وهكذا عندما يصبح السحر جزءا من الواقع يتحول الأخير إلي واقعية سحرية، بما يمنح القارئ قوة كافية لكي يستقبل أشياء فريدة وغير متوقعة، أشياء غريبة جعلت هذا الأدب يتسم أيضا بالغرائبية، والتي تمضي في المحصلة النهائية ضد قوانين الأدب الأوروبية الصارمة. في دراسة لي نشرتها عام 2007 تناولت الواقعية السحرية عند الأديب الراحل جبرييل جارثيا ماركيز، وخاصة من منظور الغياب، أو الخوف من ألا يراك أحد، وأشرت فيها إلي ما قرره ماركيز نفسه من أن مشكلته الكبري كانت "تدمير الحدود الفاصلة بين ما يبدو واقعا وما يبدو خيالا" وفي هذا الاعتراف يمنح ماركيز تعريفا خاصا أراد به أن يشرح كيف أحداث الأعمال الروائية المعقدة والمتشابكة والتي تتجاوز سقف الطبيعة إلي ما هو فوق طبيعي لابد أن تتضمن بالضرورة هذا التداخل بين الحدود الفاصلة والتمازج بينها. ويستخدم المؤلف هذا التكنيك لكي يعرض الفوضي والاضطراب الذي يعاني منه الإنسان في الواقع. فالكاتب يلجأ للخيال باعتباره الوسيلة الضرورية لربط الأجيال، لأنه عندما يحاول تقديم جيلين متعاقبين فإنه في الحقيقة يقدم واقعين منفصلين، لكل منها علاقة وثيقة بالآخر، ولكن كلا منهما يعمل علي نحو منفصل، ولا يمكن اعتبار أي منهما صحيحا علي نحو مطلق. من رحم السيريالية والعجائبية والغرائبية ولدت الواقعية السحرية، ووجدت تطبيقا لها لدي أدباء أمريكا اللاتينية مثل كارلوس فوينتوس وماريو فراجاس يوسا وجوليو كورتزار وجبرييل جارثيا ماركيز، وكما هو واضح لم يتمسك المصطلح لتعريف أعمال هؤلاء الكتاب، ولكنهم كتبوا واشتهروا ثم التصق بهم التعريف في مرحلة لاحقة. الكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس، اعتبر "مائة عام من العزلة" كتابا بعمق الكون تكمن فيه ما لا نهاية له من التفسيرات. لكن صعوبة القراءة تنشأ من عامل آخر إيجابي هو الآخر، فكل صفحة من الرواية تحفل بالأحداث حتي أن أحد النقاد، وهو هارولد بلوم، رأي أن كل صفحة في "مائة عام من العزلة" تمثل حياة كاملة، ولكن هذا الروائي البديع استطاع أن يربط القارئ بهذه الحيوات حتي لا يستطيع منها فكاكا، ورغم غرابتها فإنه، بخياله، يتورط فيها ويصبح جزءا منها. الزمان في "مائة عام من العزلة" نسبي، يمتد مائة عام، ولكن هذا الامتداد الزمني الذي يعرض لولادة وتطور ونهاية وتدمير وعزلة عائلة علي مدي ستة من أجيالها، إنما يوعز بالامتداد اللانهائي للعزلة، وهو ما يعني الخوف من الانزواء ومن الغياب، ومن الموت. ومن أهم خصائص الزمن في هذه الرواية هو دائريته، فالحياة طبقا للواقعية السحرية هي دوائر زمنية تتداخل وتتمازج علي نحو ناعم رغم أنه يبدو غير منطقي إلا بمنطق السحر والحلم. دائرة الزمن المغلقة تحمل في طياتها أيضا الامتداد اللانهائي، كما تحمل أيضا التكرار، فما تبدأ به القصة تنتهي به أيضا. المكان أيضا نسبي، فماكوندو مدينة تجريدية تخيلية، هي أيضا المدينة الحلم، والأحداث التي تقع فيها لا تخصها هي وحدها، وإنما قد تقع في أي مكان آخر في العالم. أما الراوي، فهو عليم، يعرف التفاصيل كلها ويقصها علي "فلاش باك" يبدأ بحادثة قصيرة ولكنه يمتد حتي يكاد لا ينتهي، ولكنه أحيانا يخرج من القصة لكي يدلي بمعلومات تبدو مرسلة من المؤلف إلي القارئ مباشرة. ورغم ما انطلقنا منه من أن الواقعية السحرية مصطلح نشأ في العشرينيات من القرن الماضي، وأن ما بعد الحداثة جاءت خروجا علي المركزية الأوروبية، إلا أن مجرد إطلاق هذا المصطلح علي أعمال ماركيز فيه تعلق بالمركزية الأوروبية، وإساءة استغلال لمصطلح السحر، فأي شيء يراه الغرب مستغربا يتحول إلي سحر، وهو ليس الحال نفسه مع ثقافات أخري لا تعتبر هذا الغريب سحرا، وإنما تعيش معه ويشكل جزءا من حياتها. ولهذا يمكننا أن نقول إنه أدب ساحر أكثر منه سحري، وأنه أدب واقعي إلي حد المجاوزة وخيالي إلي حد المجاوزة أيضا. في رواية "مائة عام من العزلة" هناك غياب للتدخل السماوي في الأحداث، كما أنه لا يمكن تجنب الخطيئة، وخاصة التكبر، والتي مثلت الجانب القدري في هذا الأدب. تحتوي الرواية أيضا علي معلومات هامة حول تاريخ حقبة معينة، مثل سنوات الأمطار التي تسقط في ماكوندو وتغسل القرية لتستحضر أساطير الطوفان العظيم، عندما جرفت الحضارات كلها. نقطة الانطلاق في الرواية هي العنف وكسر التابوهات الهامة التي تضمن وجود شخصيات متمردة، كما هو الحال عندما يتزوج خوسيه أركاديو واورسولا ايجواران وهما أبناء عمومة، ممنوع زواجهما خوفا من أن يلدا طفلا له ذيل خنزير. وبهذا النوع من الترتيب يطرح ماركيز مسألة التكامل بين ما هو شخصي وما هو عام، وما هو قومي وما هو محلي وقاري، والذي يتمثل في الحرب الأهلية الطويلة التي اندلعت بين الليبراليين والمحافظين. إن رواية ماركيز "مائة عام من العزلة" قد منحت ما بعد الحداثة صك النجاح، وأصبحت توضع جنبا إلي جنب مع كبار تلك المرحلة، والذين كان لهم تأثير معلوم علي ماركيز نفسه، فهناك تأثيرات لكافكا ورابيليه وفوكنر وفيرجينيا وولف. نلمح ذلك في كثير من التفاصيل، مثل تأثير كافكا علي الجو الكابوسي الذي يحيط بالمنطق العبثي للشخصيات، وعبثية السلطة. أما تأثير رابيليه فنتلمسه في استخدام الفكاهة والمبالغة المغرقة. وماركيز نفسه يقبل بمثل هذه التفسيرات، عندما يقرر أن "الأدب علم يجب علي المرء أن يدرسه، وأن وراء ما يكتب اليوم 10 آلاف سنة من الكتابة". وكما كان الخوف من الاختفاء هو الهاجس الذي سيطر علي ماكوندو، ألا يتذكرها أحد في المستقبل، فإن ماركيز أبدع، وكان قبل سقوطه في المرض الأخير يعد بالإبداع، خوفا من الغياب، من ألا يذكره أحد بعد أن يموت، وها هو قد مات، وماتت معه هواجسه، وبقيت حقيقة أن الإبداع الحقيقي لا يختفي ولا يموت، وليس هناك أي احتمال أن يختفي عن عيون الناظرين أبد الدهر.