يعتبر أنطونيو ماتشادو واحدا من أهم شعراء إسبانيا في العصر الحديث، ليس لانتمائه إلي أجيال من الشعراء العظام مثل جيل 1898 وريادته علي جيل 1927 الذي ضم شعراء مثل جارثيا لوركا ورفائيل البرتي وميجل إيرناندث وغيرهم من رموز الشعر الإسباني، بل لأنه ببساطة كتب أنشودته للناس، عبر عن همومهم وآلامهم، أحلامهم وبساطتهم، صدقهم ونقائهم، كما فضح الزيف والادعاء والقيم البالية، والقيود الوهمية التي تكبل الإنسانية. ولد أنطونيو ماتشادو رويث في 26 يوليو 1875 في مدينة أشبيلية الأندلسية التي تنفست حقولها وربوعها وآثارها من خلال أبيات قصائده الثرية، والتي لم يكتب له القدر أن يواري الثري بها، بل كما تنبأ تماما في إحدي قصائده، في بلد مجاور، مشردا مطاردا، من قبل قوات فرانكو الفاشية التي انتصرت علي الجمهوريين، ببلدة كوليور الفرنسية في 22 فبراير عام 1939 وجد ماتشادو هو وأبناء جيله أنفسهم محاصرين بنكبة 1898 حين فقدت إسبانيا، كوبا آخر مستعمراتها في الأمريكتين علي يد الأمريكان، لتتحول من إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس إلي بلد فقير مهزوم في ذيل أوروبا، فبدأ يبحث عن أسباب هذا الانهيار وما ترتب عليه من إحباطات نفسية وانكسارات، كما تجلي ذلك في أول دواوينه الصادر عام 1903 أسس مع زملاء آخرين ما يعرف بجيل 1914، الذي قاد حركة استرداد الحس الشعبي، كرد فعل ضدّ الأوضاع المتردّية سياسياً واجتماعياً وثقافياً، بعدما خسرت إسبانيا ثقلها الإستراتيجي في العالم. بخلاف موقف بعض أعضاء الحركة المؤمنين بأهمية أن يكون الاسترداد من خلال روح الهيمنة الإسبانية علي القارة العجوز، وهو ما عبر عنه الفيلسوف الكبير ميجل دي أونامونو، كان موقف ماتشادو ورفاقه الآخرين، يؤيد فكرة أن ينبع الاسترداد من المحلية كصيغة جديرة بردِّ الاعتبار إلي الذات الإسبانية الجريح : اضطر إثر اندلاع الحرب الأهلية (1936-1939)، وبسبب موقفه المؤيد للجمهوريين، للفرار هو وعائلته من مدريد، إلي فالنسيا (جنوب شرق)، واستمرت رحلة الهروب من مدينة إلي مدينة حتي وصل إلي برشلونة معقل الجمهوريين، ومنها فر إلي فرنسا عام 1939، بينما كانت قوات فرانكو تحكم سيطرتها علي العاصمة، وانتصارها الساحق في الحرب. توفي ماتشادو في نفس العام بمدينة كوليور جنوبفرنسا، ولحقت به أمه بعد ثلاثة أيام، والتي كانت تصاحبه في السفر. اشتهر بفلسفته في قضايا في منتهي التعقيد والأهمية مثل قضية "الجبر والاختيار" ومصير الإنسان وعدم كمال الإنسان. كان ماتشادو يعبر في أشعاره عن تلك الأفكار أو يستخدم شخصية مسرحية أو البطل لينقل أفكاره للمشاهدين، وهو ما أدي إلي تعرضه للنقد بصورة دائمة. من أهم مؤلفاته الشعرية: الخلوة 1903، الخلوة وقصائد آخري 1907، حقول قشتالة 1912، أشعار كاملة 1917، أغاني جديدة 1924 ، أشعار كاملة 1936 (الإصدار الرابع)، خوان دي مايرينا 1936 الجريمة كانت في غرناطة أنطونيو ماتشادو ينعي صديقه الشاعر فدريكو جارثيا لوركا الذي أعدم علي يد قوات فرانكو الفاشية مطلع الحرب الأهلية الإسبانية 1936 1 الجريمة شوهد، ماشيا بين البنادق عبر شارع طويل، خارجا إلي الحقل البارد، بينما لازالت هناك نجوم، في غبشة الفجر. قتلوا فدريكو عندما أطل الضوء لم تجرؤ فصيلة الجلادين علي النظر في وجهه. جميعهم أغمضوا العيون؛ صلوا: ولا حتي الرب سينقذك! سقط فدريكو صريعا دم علي الجبهة ورصاص في الأحشاء. - ... كانت الجريمة في غرناطة اعلموا ذ يالغرناطة البائسة -، في غرناطته ...! 2 الشاعر والموت شوهد يسير معه فقط، دون وجل من منجله. - كانت الشمس بين برج وبرج؛ المعاول من سندان، لسندان وسندان الكور-. كان فدريكو يتكلم، محطما الموت. هو كان يسمع. "لأنه بالأمس يا رفيقي، كان يرن في قصيدتي صدي كفيك الأعجفين، وحولت أنشودتي إلي جليد، وطعنت مأساتي بمنجلك الفضي، سأنشد من أجل اللحم الذي لا تملكه، والعينين اللتين تنقصانك، شعرك الذي كان يهزه الريح والشفتان الحمراوان حيث كانوا يقبلونك ... اليوم مثل الأمس يا موتي الغجري، ياللروعة برفقتك وحدنا، عبر أجواء غرناطة هذه، غرناطتي!" 3 شوهد يسير ... انحتوا، يا أصدقاء، من حجر وحلم في غرناطة رابية للشاعر، علي نبع حيث يبكي الماء، ويقول للأبد: كانت الجريمة في غرناطة، غرناطته! من ديوان الحرب (1936-1937) وحدة غامضا وصامتا كان يمضي مرة تلو المرة، كانت نظرته شديدة العمق لدرجة أنه بالكاد كان يُري. حين كان يتكلم كانت به لمحة من خجل وغطرسة. وكان نور أفكاره يبدو دائما مشتعلا. كان مستنيرا وعميقا كما كان رجلا صالحا. قد يكون راعيا لألف أسد وحمل في آن. قد يوجه العواصف أو يُحضر قرص العسل. ينشد بأبيات عميقة كان هو سرها، عجائب الحياة والحب والمتعة. ذات يوم رحل نحو المستحيل ممتطيا بيجاسوس نادرا، ابتهل إلي آلهتي من أجل أنطونيو، أن يحموه دائما. آمين روبين داريو. من ديوان وحدة (1899-1907) المسافر في حجرة المسافرين، الظليلة، كان الشقيق المحبوب، بيننا، والذي رأيناه في حلم طفولي ذات نهار صحو يرحل إلي بلد بعيد. أصبح اليوم أشيب الفودين، خصلة رمادية فوق الجبين الضيق؛ ويكشف القلق البارد لنظراته عن روح معظمها غائب. تساقطت أوراق زهور الخريف بالحديقة الذابلة القديمة. يرتسم المساء، خلف الزجاج الغائم، في أعماق المرآة. يضيئ برقة وجه الشقيق. هل لخيبات الأمل اليانعة الذهبية عند هبوط المساء؟ هل لهفاً علي حياة جديدة في سنوات جديدة؟ هل سيأسف علي الشباب الضائع؟ ماتت الذئبة البائسة بعيدا. هل يخشي الشباب النقي الذي لم يعشه، أن يضطر للغناء أمام بابه؟ هل سيبتسم لشمس من ذهب، لأرض حلم لم يُعثر عليه؛ ويشهد مركبه تشق البحر الهائج، بشراع أبيض مملوء بالريح والنور؟ لقد رأي أوراق الخريف الصفراء، تتدحرج، أغصان الكافور العطرة، بساتين الزهور التي تزدهي بزهورها البيضاء .. وهذا الألم الذي يتلهف أو يرتاب في رعشة دمعة يحبسها. وبقية من نفاق ذكوري ينطبع علي المحيا الشاحب. لا يزال بورتريه جاد يتألق علي الحائط. نشرُد. تضرب دقات الساعة حزن المنزل: نصمت جميعاً من ديوان عزلات (1899-1907) من ذكريات الطفولة من ذكريات الطفولة 1 مشتعلا كان الميدان وبساتين البرتقال بثمارها الناضجة المتبسمة. يملأ ضجيج التلاميذ الصغار ساعة خروجهم الفوضوي من المدرسة هواء الميدان الهادئ، بصخب أصواتهم الجديدة. مرح طفولي في أركان المدن الميتة ! ... وشيئ من ماضينا، لا زلنا نراه يطوف بهذه الشوارع القديمة من ذكريات الطفولة 2 مساء شتوي جامد وبارد التلاميذ يدرسون. يهطل المطر برتابة خلف الزجاج. إنها حجرة الدرس. لوحة تصور قابيل هاربا، هابيل مقتولا بجوار بقعة حمراء. بنبرة رنانة وفارغة زأر المعلم، شيخ رث الثياب، هزيل وأعجف، يحمل في يده كتابا. تمضي جوقة الأطفال منشدة الدرس؛ ألف مرة مائة، مائة ألف، ألف مرة ألف، مليون. مساء شتوي جامد وبارد التلاميذ يدرسون. يهطل المطر برتابة علي الزجاج. في جنازة صديق واروه الثري ذات مساء رهيب من شهر يوليو تحت شمس حارقة. علي مرمي حجر من القبر المفتوح كانت هناك زهور ذبلت بتلاتها بين جيرانيوم بعطر نفاذ وزهرة حمراء. السماء زرقاء صافية. هبت ريح قوية وجافة. أنزل اثنان من حفاري القبور ... النعش الثقيل متدليا بحبال سميكة لقاع الحفرة ردد لحظة الارتطام وقع ضربة قاسية، مهيبة، في الفراغ. ضربة نعش في الأرض شيئ جدي تماما. تفتت فوق الصندوق الأسود الكتل الترابية الثقيلة ... حمل الهواء من قعر الحفرة النفس المتكلس - ها أنت، بلا ظل، فلترقد وتسترح فليعم السلام الدائم رفاتك ... إلي الأبد فلتنعم بنوم هانئ وحقيقي. من ديوان أشعار كاملة أيها السائر ليس ثمة طريق يستهل الشاعر الديوان بهذه المقدمة علي لسان خوان دي مايرينا، وهو شخصية خيالية ابتدعها وكانت مثار انتقاد كبير من جانب الأدباء والمثقفين في عصره: "كونوا متواضعين: أنصحكم بالتواضع، أو بعبارة أفضل: أنصحكم بكبرياء متواضع، إنه ما هو إسباني ومسيحي. تذكروا مثل قشتالة: "النكرة ليس أكثر من نكرة ". وهذا يعني كم هو عسير التغلب علي الجميع، لأنه مهما بلغت مكانة الإنسان، لن يصل إلي مكانة أرفع من كونه إنسانا". خوان دي مايرينا كل شيء يمضي كل شيء يبقي ولكن قدرنا أن نمضي نشق طرقا طرقا فوق الماء لم أسع للمجد مطلقا أو أركن إلي الذكري أنشودتي للناس أعشق العوالم الهشة عديمة الوزن الرقيقة كفقاعات الصابون أعشق رؤيتها تتلون بشمس وبنفسج تحلق تحت سماء زرقاء ترتجف فجأة وتتحطم أيها السائر، الطريق آثار خطواتك، ولا شيئ بعد أيها السائر ليس ثمة طريق السير يصنع الطريق سيرا تشق الطرق وحين تنظر للوراء يتراءي الطريق الذي لن تعود لتسيره مطلقا أيها السائر ليس ثمة طريق بل علامات علي سطح الماء منذ زمن في ذلك المكان حيث اكتست الغابات اليوم بالأشواك سُمع صوت شاعر يصرخ أيها السائر ليس ثمة طريق السير يصنع الطريق ضربة بعد ضربة، بيت شعر بعد بيت مات الشاعر بعيدا عن وطنه يواريه ثري بلد مجاور من بعيد رأوه يبكي أيها السائر ليس ثمة طريق السير يصنع الطريق ضربة بعد ضربة، بيت شعر بعد بيت عندما لم يعد العصفور قادرا علي التغريد عندما أصبح الشاعر حاجا عندما لم تعد تجدي صلواتنا أيها السائر ليس ثمة طريق السير يصنع الطريق ضربة بعد ضربة، بيت شعر بعد بيت .... ليلة البارحة أثناء نومي حلمت بالوهم المبارك أن نبعا كان يتدفق داخل قلبي قلت: لماذا يا ينبوع ماء، خفي تحمل إليّ ربيع حياة جديدة لم أنهل منه مطلقا؟ ليلة البارحة أثناء نومي حلمت بالوهم المبارك أنه كان لي خلية نحل داخل قلبي وكانت النحلات الذهبية تصنع داخله من المرارات القديمة شمعا أبيض وعسلا حلوا ليلة البارحة أثناء نومي حلمت بالوهم المبارك أن شمسا حامية كانت تسطع داخل قلبي كانت حارقة لإعطائها حرارة موقد مشتعل وكانت شمسا لأنها كانت تسطع ولأنها كانت تثير البكاء ليلة البارحة أثناء نومي حلمت بالوهم المبارك أن من بقلبي كان الله من دفتر "ملاحظات غير منشورة" 1933-1934 أمثلة وأناشيد 1 إنه مساء عيد موسيقي عظيمة تلف القرية كان عازفان متجولان يصخبان بغير آلاتهما يقولان عند جمع النقوط: ضاعفوا لنا المال. - يا أوغاد! - كما قلنا أو غدا سنعزف بآلاتنا. 2 أصبحت مزحة ثقيلة: كل شيء من أجلي، وأنا، من أجل العدم. 3 رحلت الجمهورية لا أحد يدري كيف حدث ذلك فلترقد في سلام 4 مكتوب علي بطاقته خيل ماريا لا أحد. إذا عاد فليدخل.
- ألم يأتِ السيد خيل؟ - لا أحد جاء. - لا أحد؟ - علي حد علمي، لا أحد. لا أحد؟ لا أحد.
- ماذا جري لهذه المرآة، أخبرني، فلوريسل فلم تسعفني وسيلة لكي أري نفسي فيها؟
ربما يكون السبب أن دون خيل كان هنا بالأمس.
- ألم يأت السيد خيل؟ - ورحل بعد أن ملّ من الانتظار، قائلا إنه لن يأتي ثانية. من ديوان حقول قشتالة 1912