«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد إبراهيم مبروك
نشر في أخبار الأدب يوم 19 - 04 - 2014

أديب مصري معاصر من مواليد 1943، نشر قصته الأولي عام 1966 فأحدثت دويا مدهشا وحملت نبوءة ميلاد كاتب كبير.ظل مبروك يؤمن بأن كتابة الأدب قيمة فكرية فنية حافلة بالصدق والجمال وشجاعة تجاوز المألوف.. قيمة أهم من الشهرة الجوائز وحفلات التكريم الرسمية، وظل ينتمي للمنابر الثقافية المستقلة مثل أدب الغد، جاليري 68 والنديم.
انقطع إبراهيم مبروك عن الكتابة لسنوات طوال عن الإبداع بعد اعتقاله دون اتهام ثم وجد ضالته في أدب امريكا اللاتينية عندما شعر أنه لأول مرة يقرأ أدبا حيا، لذلك عكف علي تعلم اللغة الإسبانية حتي تمكن من ترجمة أربع مجموعات قصصية لعدد من أدبائها.
في ظني أنه ينبغي دراسة مجموعته القصصية(عطشي لماء البحر) وتقديمها للأجيال الجديدة التي لم تعرف ذلك الشكل الخاص من الكتابة والانتماء الإنساني والجسارة
عندما نشرت قصص هذه المجموعة في عدد من المجلات الشهرية في الستينيات شدت الانتباه بزخمها الشهوي ، وعنفوانها العاطفي. برحابة آفاقها ودوي إيقاعاتها. بجرأة تحررها من أسر المألوف ، والمباح ، وتدفق لغتها بصور مفعمة بتيارات شعورية هادرة ، وعميقة الغور. وقد تراوحت الانطباعات الفورية عنها بين حس تقليدي محافظ يأسف علي تردي أدب الشباب نحو أشكال من القص تجمع الشاذ ، والمتنافر ، والغريب ، وتبلغ من الغموض حد الإبهام جرياً وراء ادعاء العصرية ، وبين محاولة وضع التجربة تحت لافتات لا تغري بالبحث والدراسة ، وكأنها قامت بالتوصيف اللازم وانتهي الأمر : هذه قصص تتضمن تجربة جمالية متفردة أو هذه قصص تحاول أن تقصر اللغة علي الإفصاح عما لم تخلق للإفصاح عنه .
وقد حاولت بعض المقالات النقدية تفسير القصص من منظور فني يري فيها نزوعاً أدبياً لاقتفاء أثر السريالية التشكيلية أو تقليداً قصصياً لمسرح العبث ، وحاول البعض رؤيتها من منظور نفسي يحيل التجربة الفنية إلي عالم اللاشعور وأسرار العقل الجمعي أو من منظور بيئي واجتماعي يتقصي في القصص أثر ما أثبته المؤلف عن ظروف ميلاده ، وطفولته ، وصباه وأنواع المهن التي مارسها وموقع أسرته الطبقي .. إلخ .
لكن محاولات التفسير السابقة مع تنوع اجتهاداتها ظلت قاصرة عن الإحاطة بكل الأبعاد الفكرية ، والجمالية للقصص المنشورة.، والآن ، هل آن الأوان لقراءتها قراءة تتقصي مفردات أبجديتها الفنية وحدها دون إقحام لأساليب في التفسير تبحث في القصص عما يؤكد صحة مناهجها قبل أن يعنيها تحقيق الكشف وإزالة الغموض وامتلاك السر ؟ هل آن الأوان للبحث عن الدلالة الكلية لكل قصة والدلالات الكلية لمجموع القصص كما تتجلي في ظلالها وأصدائها المتداخلة ؟
عرف قراء القصة المصرية القصيرة عبر تعاقب أجيال الأدباء ألوانا من القصص : قصص الوعظ ، وقصة البرهان علي صحة فكرة ، وقصة الارتقاء بأواصر الانتماء العائلي أو الإقليمي إلي مستوي الانتماء الوطني أو القومي، وفي كل هذه القصص كان الأدباء مع تباين مواقعهم علي درجات الموهبة أو الوعي الفكري أو التمرس الفني يحرثون أرضا اكتشفها وحررها لهم أجيال سابقة. إن ما يتمايز به الأدباء علي هذه الأرض هو عمق انتمائهم لإيديولوجية ما ومدي قدرتهم علي بث الإيمان بها واعتناق اليقين بقدرتها وعلي رد ما يموج به الواقع من فوضي أو اختلاط إلي نسق متكامل.
في هذه الألوان من القصص يكون التناول النقدي تقييما لمدي وعي الكاتب بجوهر الرؤية الشاملة التي يعتنقها، ورصداً لقدراته علي تجسيد هذه الرؤية في عمل فني .
وقد يكون من المفيد للناقد البحث عن دلالات العمل الفني في الظروف التاريخية (الاجتماعية ، والاقتصادية ، والسياسية) للكاتب ، وفي تكوينه النفسي ، والثقافي ، وفي الملامح الجديدة للحساسية التي يصنعها مع أبناء جيله، ولكن كيف يكون الاقتراب النقدي من كاتب مثل محمد إبراهيم مبروك تجاوز مستويات الانتماء إلي بيئة أو طبقة أو وطن، طموحا إلي تقمص روح الإنسان في مواجهة العالم ؟ وبأي معيار يتم تقييمه ، وهو الرافض لرؤي تجاوزها العصر.
إن الهدف من الكتابة هنا ليس الدعوة لما تم اكتشافه ، ولكن الإعلان بكل درجات الصوت ، والصمت عن عذاب البحث عن يقين .
إن التناول النقدي المتسق مع تجربة فنية لها هذه الخصوصية هو قراءتها بروح الرغبة في تجاوز المطروح ، والمعروف ، والراسخ.
يتجسد العالم الفني لمجموعة (عطشي لماء البحر) من خلال التداعيات النفسية، والفكرية ، والوجدانية لبطل واحد يحيا تجربة تنكشف أعماقها الروحية عبر القصص المتعاقبة وكأنها مرايا متعددة الزوايا لتجربة فنية واحدة : لا يحمل البطل اسما ولا تحمل ملامح شخصيته ما ينبئ عن بيئته أو تكوينه النفسي أو الاجتماعي أو الثقافي. إن أهم ما يميزه أنه بالرغم من بلوغه عمر الرجال لكنه لا يزال يحمل في صدره قلب طفل.
لكن هذا الحس الطفلي المتوثب للحياة والنمو يزلزله موت الأب (لكنهم داهموني بالملابس السوداء ورنة الندب عالية محروقة وهم يحملون لي ميتاً) (مسيح المراسيم) .
وبموت الأب واهب الخير ، مانع الشر ، ومستودع الحكمة ، وكاشف المجهول تتقوض أعمدة الهيكل الشاهقة والراسخة، ويتقوض معها الإحساس بالأمان إذ يرتطم القلب المترع بالشوق لأفراح الحياة ببشاعة الموت. في جحيم أبد الرحم يروع البطل حين ينقض الموت علي الابن الذي وهبه حياته. إنه ينخرط في تيار من السخط الثائر علي الأب الغائب (وكأنها ضراعة مقلوبة) لأن غيابه خلع عن الموت قناعه المستأنس الأليف .
إن بطل القصة يحاول إعادة وحش الموت المطلق السراح إلي القفص التراثي القديم.لكن ضراعة الروح الملتاعة تتهاوي علي صقيع الصخر الماثل : انهار الهيكل القديم واندلع الموت من الداخل مثل حريق يبدأ من القلب .، وتتحول الأشواق العارمة لإخصاب الحياة إلي بؤر من المرارة في صحروات الجدب ، ويكتنف العالم صوت البحر ، وكأنه هدير العدم المتربص ، ويتهاوي إحساس البطل بالضآلة إلي حد الامتلاء بكونه محض بصقة، وتمارس حواسه الحياة بآلية التكرار.
كانت جحيم أبد الرحم هي قصة مصاولة الإحساس المكابر والمتراجع بوجود الأب والامتلاء بدوي تصدع الهيكل المنهار .
لقد كفت السماء عن النبض ، وبدأت مسيرة اليتم علي الطريق الكوني الموحش ، والمفضي إلي هاوية الضياع .
لكن رؤيا تجتاح البطل فتنتشله من قاع الاستسلام للموت : أن يموت الأب لا يعني أن نستسلم للموت بل يعني أن تحتشد لقهره بأن يأتي كل منا بالابن فيأتي لنا الابن بالأب مرة أخري ليحل فينا ، لكن الابن الذي سيصنع قيامة الأب في قلوبنا لن يكون ابن الجسد الذي تصنعه شهوة العناق بل سيكون ابن الحب .
إن تقارب قلبين ، وتوحدهما هو إيذان بشروق شمس الوجود الجديدة ، ومن القاع الموحش الكئيب في صحروات الجدب سيرتقي الحبيبان علي درب الحب حتي يبلغا درجة الإحساس بالتلاشي في جسد الطبيعة الأم وحينئذ سيكون الحب في قلبيهما هو ما يتوهج في الشمس ، ويصفو في الزرقة ، ويصلصل في جريان الأنهار ، ويخفق في سماء الأجنحة ، وبعد كل جوع يأتي أعياد حصاد (مسيح المراسيم) .
إن الحب هو ما يتوج الحبيبة بهالات الأمومة المقدسة ، وفي حضنها الرحيب ، وبين ذراعيها يخلع يتيم الأم ذله ، وبؤسه ، ويتمه ، ويتضرع إليها (الطرق متوحشة يا أماه ولا أحد غيرك مد لي يدا في هذا الليل ورعاني لأحتمي بحوائطه . لا تتركيني ثانية يا أماه ) (شلالات الكهف) .
لقد دأب العالم منذ فجر التاريخ علي عبادة القوة والمال لكن ماذا حقق بترسانات السلاح ، وقناطير الذهب محض، أمجاد زائفة :إمبراطوريات شاسعة نعم لكنها لم تعرف وجه الشمس الذي يزدهر بالحب ، إن ثمة إمبراطوريات يمكن أن تتحقق بالحب (لا بقهر السلاح) كالإمبراطوريات التي عشقت النبي (نزف صوت صمت) بدأ البطل رحلته الوجودية باحثا عن الخلاص من وطأة الإحساس الجاثم بالموت المتربص لاهثا لاستعادة التوافق مع العالم، لكن فرحة تحوله من فرد ضائع إلي إنسان وجد أخيراً معني لوجوده يدفع به إلي الوهم إذ يتصور إنه يحمل للجموع بشارة الخلاص.
لكن البطل ما أن يهم بنشر رسالة الحب قاهر الموت بين الجموع حتي يتوقف فجأة في سقوط مفاجئ( والصمت يطلق صرخة فوق الخضرة التي أخذت تحترق وفوق النبع الذي غاضت منه المياه وفوهته تتلظي تحت الجفاف الحارق) (الشلالات) .
لقد أوصد باب الحبيبة بلا سبب (مسيح المراسيم) ضاعت ومعها الابن وأسفرت ليالي الانتظار الطويلة عن وجه الخواء (نزف صوت) .
لقد غاضت فرحته الطفلة حين داهمه وجه السؤال الكالح : قد تنتصر بالحب علي موت الجسد ، ولكن ماذا يجدينا الحب ، ونحن نموت في الحياة هل سنواصل الحب ، ونواصل معه الاشمئزاز من المحطمين في الطرقات بعد أن يئسنا من إمكان انتشالهم إذ تيقنا من كون العالم لا يعدو كومة من حطام؟ هل سيزيل الحب من ثوب الأم أدران القذارة ؟ هل سيواجه أمواج الغم الرازح علي فقر البيت ؟ .
لقد أدرك النبي التعس أن ازدهار الروح علي الصعيد الفردي لن يغير شيئا من بؤس العالم ، قد يحرر الحب أرضا تتسع لقدمي إنسان ، ولكن حتي هذه القطعة الضئيلة المحررة ستدور بعيدا عنا ، ونحن نهوي في الهوة السحيقة التي ليست تحتها أرض، ليظل المحور الوحيد الذي يدور حوله العالم هو السيخ الذي يتقلب البشر فوق جمراته الجحيمية .
كانت جحيم أبد الرحم هي قصة التيقن من موت الأب ، وكانت ثلاثية النزف ، والشلالات ، والمسيح هي قصة التيقن من موت الابن فهل كانت عطشي لماء البحر بشارة الخروج من دنيا البشر الهائمين في الكون الأبد؟.
في عطشي لماء البحر نقرأ تجربة حب محبطة تدور أحداثها في تلك الأيام التي شهدت أحداث 18 ، 19 يناير 1977 لكن تجربة الحب هنا لم تكن خروجاً من معبد تصدعت أعمدته ، وطموحاً إلي بناء قدس أقداس جديد. إن البطل في القصة لا يكف عن محاولة استعادة وجه الحبيبة المختفي خلف قناع حجري لا ندري من أين يستمد صلابته : هل هي الرغبة في التضحية بالحب علي مذبح الأمومة ؟ هل هي الرغبة في التفرغ لدور سياسي ما ؟ هل من الآخرين (هكذا دون تحديد) الذين يطوقونها دائماً؟.
وإذا كانت الأسوار ترتفع بينهما بهذه الصلابة الصخرية فكيف إذن حدث أن انهارت من قبل وتلاشت المسافات حتي نعما بساعات من التوحد الكامل؟.
لا يقدم الكاتب إجابة لهذه الأسئلة إذ يعكف علي سرد الوصايا التي ينبغي علي العاشق أن يحرص عليها إذا أراد الانتصار علي جيوش العدو (هكذا أيضا دون تحديد) دون أني نري علاقة بين جيوش الأعداء والأحجار الصخرية التي أقامتها الحبيبة تلك التي رفضت نهر الحب واختارت صحراوات الجفاف وكأنها عطشي لماء البحر ؟ .
يبدو بطل المجموعة وكأنه احتوي في قلبه كل أطوار الوجود الإنساني : لقد تجاوزت ذاته الفريدة حدود البيئة الخاصة الجغرافية والاجتماعية وحدود الزمان الخاص التاريخي أو الحضاري. لقد ولد في وطن هو العالم بأسره ، من رحم أم هي كل إنسانية الماضي ، بقلب يعشق عذراء وحيدة هي كل إنسانية المستقبل ، ببصيرة تجوب الآفاق، بذاكرة يمكنها أن تتوغل بعيداً لتتقصي من التاريخ البيولوجي البذور الأولي لسر الموت "إنها تتراجع للوراء أقصي الوراء " عبر تدفق الظلمة ، وشلالات الزمن المشتعل لتري أضواء القمر الشاحب علي عذرية الرمال المترامية البيضاء ، وهناك تقف لتتعقب السر في أرنب بري يعدو في الضوء أو في التواءات أفعي أو في رحلة طائر وحيد يهاجر في صمت عبر كل المسافات الهائلة (جحيم أبد الرحم) .
نشأ بطل المجموعة بين هياكل التصورات المثالية للعالم لكن الأعاصير تهب من معارف العصر علي وعيه ، وقلبه فتتصدع الأعمدة الراسخة .
لكن البطل ، وهو يعبر فيافي العالم المنفي كان يتجاوز آلام ذاته المرتعدة في قاع الكون الهائل ليطل من محنته الوجودية علي آلام البشر إنه في "النزف" ابن الشعوب المقهورة تحت سنابك الغزو الأجنبي الذي وطأ جسد الأم وأنتهكه، وهو في المسيح ابن الجموع البائسة منذ فجر التاريخ، وهو في الشلالات أحد اليتامي المأسورين خلف الجهامة، والغلظة والقسوة.
لقد استشرف البطل تخوم الانتماء إلي القوي الاجتماعية التي تئن تحت سطوة الظلم ، والبغي والتسلط ، ولكن دون أن يرقي هذا الشعور من الصعيد الأخلاقي إلي صعيد الوعي الذي يضئ طرق النضال ضد القوي التي تظلم وتبغي وتتسلط لتراكم امتيازات مواقع طبقية تحرسها بأسلحة القمع وأجهزة المسخ ، وفرق التضليل .
لكن قصص المجموعة حتي وهي أسيرة طابعها الوجودي تظل قادرة علي أن تكشف بضوء ساطع لأولئك السائرين إلي درب النضال أبعاد تجربة انسلاخ الذات من أسر الموروث الموغل في أعماق الوعي لتواجه العالم ، وهي تتمزق بين حنين لاستعادة الأمان الضائع ، وشك في صلابة الهياكل البديلة ، وحتي تسقط عنها كل الأوهام ، وتكتمل قدرتها علي التحديق بجسارة في وجه الكون حتي وهو يستحيل "إلي جليد يشحب تحت الضوء الأبدي الساكن ، حيث ستدفن كل الأصوات، وتدفن كل رغباتها معها ، ولحن الجنازة يتلاشي ، ويظل محلقاً صوت إيقاع واحد معتوه لا ينتهي لا يبدأ لا يسمع "(مسيح المراسيم) .
إن الامتلاء بهذه التجربة الروحية بكل مكابداتها هو السبيل الوحيد لاكتمال تحولات النمو ، وتفاعلات الانصهار ، وتمام الخروج من ظلام احتراق الأنا الفردية ، والتهيؤ لاستقبال الفجر الطالع من دمارها المحترق. فجر الانتماء الوطني ، والقومي ، والإنساني. يتجاوز محمد إبراهيم مبروك أشكال القص السائدة في الخمسينيات (القصة الصورة أو الشخصية أو الفكرة أو البرهان أو القيمة الأخلاقية .. إلخ). ويطفر بالقصة المصرية القصيرة من قصص التتابع المنطقي أو الشعوري داخل الإطارات اللغوية المتداولة إلي مستوي القصة الرؤيا الشهادة .
إنه يتخلي عن لغة السرد التقليدية إذ يكتشف قصورها عن تجسيد تجربته الفنية بكل جيشانها ، وعنفوانها وإحتدامها ، وتلاطم تياراتها الشعورية. إنه يكتب بلغة جديدة تنتقل بحرية عبر أزمنة الوجود ، إنه يصنع حلما شديد الكثافة ثري الدلالات تتجسد فيه المشاعر والرؤي في تيارات من الصور الناطقة بتفاصيلها الحسية وأضوائها وظلالها وإيقاعاتها اللونية ، والصوتية .
إن الشمول الإنساني في تجربته الفنية يغريه باستلهام تجربة المسيح فتتحول مفردات القصة الانجيلية "الأب. الابن العذراء الصلب. الزيتون القيامة. البشارة" تتحول في المعالجة الجديدة إلي قصة نبي معاصر كان يحمل للعالم بشارة الخروج من الجسد الموت إلي القلب الحياة ، لكن المسيح الجديد إذ يكتشف قصور نبوءته عن احتواء بؤس العالم يقبل بإرادته أن يرفع لترشق المسامير في راحتيه المشدودتين لكنه يحرص قبل موته أن يوصي كل اليتامي بأن يكفوا عن انتظار الأب ، وأن يكونوا أباء أبنائهم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.