قال أحد اليونانيين الذين ولدوا وعاشوا فيها: لو سألت أي سكندري عن الإسكندرية ستلمع عيناه علي الفور وتشردان قبل أن ينطق بكلمة، فهي ليست مكانا عاديا بل هي فلسفة. الإسكندرية في وجدان أهلها ليست بالتأكيد هي الإسكندرية اليوم ولا حتي الأمس القريب وإنما إسكندرية الماضي. الحنين إلي مدينة مضت، فمِنّا «نحن أهل الإسكندرية» من يحن إلي إسكندرية البطالمة، ومنا من يحن إلي مدينة المواطن العالمي المدينة الميتروبوليتان التي تعج بالأجناس واللغات والحريات والجمال والفن والموسيقي والثقافة، ومِنّا من يحن للإسكندرية التي توصف في الروايات مِن كُتَّاب عاشوا فيها ومن أناس غادروها ثم كتبوا عنها ومازالوا يكتبون عنها، رُصدَت عشرات الكتب كان أصحابها من أهل الإسكندرية منهم من كانوا كُتَّاباً ومنهم من لم يكونوا ولكن كانت هناك حاجة لديهم أن يسجلوا سيرهم الذاتية أو شهادتهم عن المدينة التي أثرت في حياتهم وحملوها معهم أو تبعتهم أينما ذهبوا؛ تماماً كما خلّدها كفافيس في قصيدته الأشهر «المدينة» (المدينة سوف تتبعك)... العجيب أن أغلب عناوين تلك الكتب التي تحمل طابعها الروائي في أغلبها انحسرت عناوينها في ... وداعاً الإسكندرية، الإسكندرية التي عشتها، المدينة، العالم كله في الإسكندرية... إلي آخر العناوين التي تحمل في مكنونها ذات المعني بالطبع لا نتحدث هنا عن الأعمال الشهيرة لكتاب مثل لورانس داريل «رباعيات الإسكندرية» وستراتيس تسيركاس امدن جامحةب الثلاثية الأشهر في الأدب اليوناني الحديث والتي كان الجزء الثالث والأكبر منها تقع أحداثه في الإسكندرية بل هم في أغلبهم كتاب غير معروفين وبعضهم كان من كتّاب الكتاب الوحيد. الإسكندرية هي المادة الخام للحنين. الحنين إلي أيام لم نعشها وأبداً لن نعيشها ولكنها محفورة في وجداننا. الحنين لأيام العظمة هو بالضرورة موت مبكر.. موت بطئ.. بل هو قتل مع سبق الإصرار والترصد من قبل بلطجية الأمس مقاولي اليوم والمتحايلين علي قوانين ثغراتها أكثر من حفر ومطبات شوارع المحروسة بأسرها ومسئولين هم أكثرهم مهارة وحنكة في الترقيع. التحرش بعروس البحر يحدث أمام أعيننا منذ سنوات ولم يتحرك أحد، صار التحرش اغتصابا ولم يتحرك أحد، ينهشون في لحمها الحي ولا يتحرك أحد. الكل يبتعد بأنظاره بعيداً بينما الجرائم تحدث تحت أنوفنا وأعلم أنه لن يتحرك أحد. منذ فترة وجيزة صدر بيان مشترك من قناصل كل من اليونان وفرنسا والمملكة المتحدة أعربوا فيه عن قلقهم علي الإرث الحضاري للمدينة الذي ينتهك وتضامنهم مع الشعب السكندري في مطالبهم لحماية ما تبقي من هذا الإرث إذ أن المباني الأثرية والتراثية ومعالم الإسكندرية تهدم واحداً تلو الآخر، وعن استعدادهم لتقديم الدعم والمساعدة في هذا الصدد. وأرسل هذا البيان إلي المسئولين في المدينة - والمفاجأة.. تحرك الجميع... «متململين علي مقاعدهم!!» إن ما نرثه يمنحنا شعورا بالسعادة والحزن والعجز، وكما تسير الأمور لن يبقي في المدينة ما يمنحنا حتي هذا الشعور السلبي بالحنين، لن يبقي في المدينة بقايا الإرث الحضاري الذي كنا نغذي عليه وجداننا. وصار لزاما علينا جميعا أن نستمع إلي صدي صوت كفافيس.. كمن هو مستعد منذ زمن، كشجاع جسور، كما يليق بمن هو مستحق لمثل هذه المدينة، اقترب بثبات من النافذة، واستمع متأثراً، دون توسلات أو شكاوي الجبناء، استمع حتي النهاية للنغمات، للآلات الرائعة من الفريق الخفي، وودعها.. ودع الإسكندرية التي تضيع منك.