في الطريق من المطار إلي الفندق ليلاً. المدينة نائمة وهي ليست عبارة مجازية بل عبارة بالمعني الحرفي. تحت الكباري وعلي أرصفة المناطق الفقيرة يفترش الباعة وفقراء المدينة الرصيف في حميمية كأنه يتحول ليلاً لغرفة نوم في المنزل. هنا ليست العشوائيات فقط علي هامش المدينة، أو مختفية خلف واجهات الأحياء الفخمة، بل تنافسها في صدارة المشهد في الشوارع الرئيسية بالمدينة. لكن في الصباح تختفي غرف النوم العامة من علي الرصيف لتحل مكانها محلات وحركة دائمة ومزدحمة، صورة تحمل الكثير من المقاربات مع القاهرة وربما الإسكندرية أكثر بسبب طبيعة "مومبي" الساحلية. لكن المشاهد السابقة لم تكن بالجديد بالنسبة لي، الجديد كان أن تلاحظ كيف أن الكثير من البيوت أو المحلات ترفع أعلاما مختلفة الألوان. البارز منها بشكل أساسي أعلام بلون برتقالي وأعلام أخري خضراء. قد تجد منطقة غارقة في اللون البرتقالي لكن في وسطها منزل يحمل علم أخضر. حينما سألت "نويل بونيم" كاتب المسرح الهندي ورفيقي في الرحلة، كانت الإجابة ببساطة أن الأخضر لمنازل المسلمين والبرتقالي لمنازل الهندوس، وأحياناً ترفع بعض الطوائف الأخري ألوانا أخري. الطائفية هنا في الهند لا تخفي نفسها، بل إظهارها وإعلانها الدائم عن ذاته، جزء من تركيبة الهوية الوطنية والطريقة التي يعبر ويعمل بها المجتمع، وهي تأتي مصحوبة بالمجموعة الكاملة لمشاكلها ومظاهرها الصحية والمضرة، من التنوع الثقافي والمعماري واللغوي الذي يثري المجتمع، وحتي الصراعات والاشتباكات العنيفة. لكنهم لا يرفعون شعار اليد الواحدة، لأن هناك أكثر من دين وأكثر من طائفة، لذلك لا يمكن اختصار المسألة في صورة الهلال والصليب، بل تأخذ شكلا آخر يتعلق بعلمانية الدولة كجزء أساسي من تركيبها وتركيب الهوية القومية. لا يمنع هذا ظهور الصراعات الطائفية واضحة، في حيدر آباد تغرق الشوارع بلافتات حزب "الحزب العلماني المسيحي". استعداداً للانتخابات القادمة بعد بضعة أشهر، لا تدخر بعض الأحزاب ذات الميول الديني جهداً في تأكيد وإبراز هويتها الدينية. لكن ما الذي نعرفه عن الأديان؟ كابن وفي لمنطقة الشرق الأوسط، يحتل الدين أيضاً مساحة واسعة ومهمة داخل المجتمعات العربية، لكن بينما يصر الدستور المصري العظيم أنه لا اعتراف إلا بثلاثة أديان، فالهند وتنوعها وطبيعة الأديان فيها لا يمكن احتواؤها أو حصرها، والأغرب هو اختلافها الجذري عن ما تقدمه الأديان الثلاثة. تقوم فلسفة الأديان الإبراهيمية، علي عدة تصورات ميثولوجيا أساسية منها الإله ذو السلطة المطلقة والواحد لا شريك لها، والثواب والعقاب. بينما في الهند لا تزال الديانة الهندوسية القديمة هي ديانة الأغلبية، وهي الديانة التي تحتل المركز الثالث بعد المسيحية والإسلام علي مستوي العالم من حيث عدد المؤمنين بها. لكنها لا تستخدم تقنية الثواب والعقاب ولا تقدم إجابات شافية أو حتي تشغل نفسها بتقديم تصورات محددة عن إله واحد، بل ببساطة تقدم طرقا مختلفة لكيفية عيش حياة سعيدة. الاختلاف الجذري بين الديانة الهندوسية والأديان الإبراهيمية يجسده التعريف الذي وضعته المحكمة العليا الهندية حيث قالت: "الديانة الهندوسية لا تتبع نبيا بعينه، لا تعبد إلها واحدا، لا تؤمن بمفهوم فيلسوفي واحد، لا تتبع نمطاً موحداً للشعائر الدينية، في الواقع لا تمثل المظاهر المتعارف عليها للأديان، انها فقط أسلوب حياة " شعبياً تتنوع مظاهر الهندوسية من مكان إلي آخر، وأحياناً هناك معابد مخصصة لآلهة محددة، تركيبة الديانة الهندوسية تبدو قريبة الشبه بتركيبة الديانات المصرية القديمة التي قامت علي التعددية ووحدة الوجود وهو أحد المذاهب البارزة في الهندوسية، لكن بطبيعتها ديانة مفتوحة سواء علي المذاهب المختلفة أو الأديان الآخري. وهو انفتاح بدا لي أنا ابن الأديان التي تسعي إلي الفصل بين بعضها البعض مدهشاً في كم ثرائه. حينما زرت في مدينة حيدر آباد معبد "Birla Mandir" الهندوسي اندهشت كيف أن جدران المعبد والتي تحتوي علي رسومات من قصص الفيدا والملاحم الهندوسية، تحتوي أيضاً علي صور لأيقونات دينية من أديان آخري، بداية من السيخية، وحتي البوذية التي يعتبرها البعض فرعاً من الهندوسية. بالطبع لا وجود لأي رمز مسيحي أو إسلامي، لأن المعبد مخصص فقط للأديان الهندية. يحتوي المعبد الهندوسي علي غرفة تشكل المحراب، لا طقوس محددة أكثر من التأمل في غرف وجدران المعبد، نول البركة، أحياناً الاستعانة بالكهنة لإتمام بعض المراسم والطقوس سواء في الزواج أو تسمية الأطفال، وهي في الغالب طقوس معقدة. فلاختيار الاسم المناسب لمولود جديد يقوم الكهنة باستطلاع النجوم ودراسة حركة الأفلاك لتحديد اليوم المناسب لتسمية الطفل، وقد يقضي الطفل أحياناً شهورا دون اسم انتظاراً لليوم المناسب ليحصل فيه علي اسمه. لا مهرب من البترول يقال في الأساطير الشعبية أن أجمل نساء الهند هما بنات إقليم البنجاب، ومدينة "حيدر آباد". وفي كلا الإقليمين فالجمال حسب الأساطير الشعبية ارتبط بشكل خاص بالبنات المسلمات. في حيدر آباد وحتي 20 سنة أو أقل. كانت المسلمات يتميزن بارتداء "ساري" من قماش رقيق، وذو ملمس وألوان مميزة، ويشتهرن بأنهن يعقدن في أطرف "الساري" اللؤلؤ. لكن كل هذا انتهي، وما من ساري في أطرافه تتدلي حبات اللؤلؤ. فمنذ عشرين عاماً وربما أكثر بدأ الهنود في التوجه غرباً نحو الخليج العربي بحثاً عن العمل والرزق. وبالطبع فقطاع كبير منهم كانوا من المسلمين. في رحلتهم إلي الخليج نقلوا تقريبا الكثير من طرق طهو. وبسبب جزء كبير من طفولتي قضيته في الخليج فقد اندهشت من تشابه الكثير من طرق الطهو وحتي أسامي بعض الأكلات التي نعرفها بأنها آكلات خليجية أو يمنيه اتضح أنها هنديه بداية من "البراني" وحتي "المندي". لكن حينما عادوا أحضروا الكثير من العباءات السوداء، التي بدأت في منافسه "الساري" الملون والمشغول بالخيوط والرسوم. اختفي الساري لدي توقفت ذات مرة أمام أحد محلات الملابس وكانت تعرض مجموعة متماثلة من العباءات السوداء، رحب بي العجوز "حمزة" وحينما عرف أني من مصر، تحدث عن سنوات عمله في السعودية. لكن لأن قطاعا كبيرا من مسلمي الهند هم شيعة فبينما كان يتحدث عن ذكرياته في معقل الوهابية السنية، كان الجدار خلفه تحتله صورتان متجاورتان من أغرب ما يكون، الخوميني وغاندي. حكاية العاشق والابن الخائن نظراً لمساحتها الشاسعة تمتلك الهند شبكة معقدة وقوية من الطيران الداخلي، إلي جانب شبكة خطوط السكك الحديدية. لكن الطيران في الهند استعار علي ما يبدو استراتيجية خطوط السكك الحديدية. فأثناء رحلتي إلي "نيودلهي" هبطت الطائرة فتوقعت أننا أخيراً قد وصلنا، لكن "نويل" قال أنها ليست محطتنا. خرج نصف من كانوا في الطائرة تقريبا، ودخلت مجموعة أخري، ثم أكملت الطائرة طريقها لنيودلهي. تتحرك الطيارات في الهند كأنها شبكة خطوط سككك حديدة تمر علي محطات مختلفة تنزل وتحمل ركاب مختلفين. من مطار نيودلهي، توجهنا مباشرة راكبين "التوك التوك" إلي محطة قطارات نيودلهي الرئيسية، وهي صور مستنسخة تقريباً من محطة مصر، باستثناء خضوع جميع المسافرين وحقائبهم لتفتيش دقيق وسط الفوضي. تحارب الهند أيضاً الإرهاب. لكنهم جادون في الأمر ونظام التأمين في المطارات والمحطات والأماكن العامة متكلف ودقيق جداً. في محطة القطار هناك لافتات تطلب من المواطنين الإبلاغ في حالة رؤية أي حقيبة دون صاحبها أو مظاهر تدعو للريبة والشك، وبجوارها لافتة أخري تحذر من أن التحرش الجنسي بالنساء جريمة يعاقب عليها القانون الهندي بالسجن لمدة قد تصل إلي ثلاث سنوات. وتحدد اللافتة أنواع التحرش بداية من التصفير أو إطلاق عبارات نابية وحتي إطالة النظر إلي المرأة. ركبنا القطار لنسافر من "نيودلهي" إلي "أكرا" عاصمة الحكام المسلمين القديمة، علي طول الطريق من نافذة القطار بدت الأراضي الزراعية والقري بعمارتها العشوائية صور متطابقة، حتي أني في جزء الرحلة نمت واستيقظت واحتجت لثواني لاستوعب المكان، الاختلاف البارز بين الريف الهند والمصري في الحيوانات فبينما تحتل الأبقار المكانة الأولي في الريف المصري، فالأغنام والخنازير والقرود هي الحيوانات الأبرز في الريف الهندي. والأخيرة تتواجد في الريف وأحياناً علي أطراف المدن حيث تبدو القرود كأنها مكمل لكلاب وقطط الشوارع. الزيارة لأكرا الغرض منها زيارة تاج محل. الحكاية مشهورة عن الملك العاشق "شاه جهان" والذي بني قبراً لزوجته، كجنة مصغرة، تحيطه المياه في أربع مسارات كأنها أنهار الجنة الأربعة، وبسبب زاوية بنائه فمشاهدة انعكاس شروق الشمس علي القبر المصنوع بالكامل من الرخام الأبيض، أشبه برحلة في الضوء، مع كل ثانية يتغير شكل المبني وانعكاس ألوانه، تضح أحياناً النقوش الملونة في ثناياه، وأحياناً تختفي تحت وهج بياض الرخام، والمرمر الأبيض. بقية حكاية "شاه جهان" التي لا يعرفها الكثيرون، أنه بعد بناء تاج محل، فكر في بناء مقبرة أخري في مقابله لكن هذه المرة بالرخام الأسود، لكن ابنه الأصغر أحس بعدم جدوي تلك المشاعر والتي تستنزف ثروة من المفترض أن يرثها هو، فقتل أخوته، وسجن والده. قضي الأخير ثماني سنوات في السجن. وقبل أن يموت كانت أمنيته الأخيرة أن يري "تاج محل" مرة أخري. لكن الابن رفض إطلاق سراحه، فأدخلت ابنته إلي الزنزانة مرآة وصنعت سلسلة من الانعكاسات للتاج حتي تصل صورة التاج إليه. فوق قبة التاج، تظهر خطاطيف صغيرة وقصيرة يمكن للزائر أن يلمحها علي جسد المبني. وهي آخر وأحدث الإضافات للمبني. أثناء الحرب الهندية الباكستانية، هددت بعض القيادات في الحكومة الباكستانية بقذف "تاج محل" فكانت الحكومة الهندية تقوم بتغطية المكان كله بغلالة سوداء حتي لا يظهر للطائرات. خبر من سيرة قطب الدين أيبك يحكي ابن بطوطة عن الهند "حدثني الفقيه العالم العلامة قاضي القضاة بالهند والسند كمال الدين محمد بن البرهان الغزنوي الملقب بصدر الجهان، أن مدينة دهلي افتتحت من أيدي الكفار في سنة أربع وثمانين وخمسمائة. وقد قرأت أنا ذلك مكتوباً علي محراب الجامع الأعظم بها. وأخبرني أيضاً أنها افتتحت علي يد الأمير قطب الدين أيبك "واسمه بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة"، وكان يلقب سياه "سالار"، ومعناه مقدم الجيوش. وهو أحد مماليك السلطان المعظم شهاب الدين محمد بن سنام الغوري ملك غزنة وخراسان، المتغلب علي ملك إبراهيم بن السلطان الغازي محمود بن سبكتكين الذي ابتدأ فتح الهند. وكان السلطان شهاب الدين المذكور بعث الأمير قطب الدين بعسكر عظيم ففتح الله عليه مدينة لاهور. وسكنها وعظم شأنه، وسعي به إلي السلطان، وألقي إليه جلساؤه أنه يريد الانفراد بملك الهند، وأنه قد عصي وخالف. وبلغ هذا الخبر إلي قطب الدين فبادر بنفسه، وقدم علي غزنة ليلاً، ودخل علي السلطان، ولا علم عند الذين وشوا به إليه. فلما كان بالغد قعد السلطان علي سريره، وأقعد أيبك تحت السرير، بحيث لا يظهر، وجاء الندماء والخواص الذين سعوا به. فلما استقر بهم الجلوس سألهم السلطان عن شأن أيبك، فذكروا له أن عصي وخالف، وقالوا: قد صح عندنا أنه ادعي الملك لنفسه. فضرب السلطان سريره برجله، وصفق بيديه وقال: يا أيبك، قال: لبيك، وخرج عليهم، فسقط في أيديهم، وفزعوا إلي تقبيل الأرض. فقال لهم السلطان: قد غفرت لكم هذه الزلة. وإياكم والعودة إلي الكلام في أيبك. وأمره أن يعود إلي بلاد الهند، فعاد إليها، وفتح مدينة دهلي وسواها. واستقر بها الإسلام إلي هذا العهد. وأقام قطب الدين بها إلي أن توفي." لكن قطب الدين أيبك ما أن فتح دلهي، حتي أمر ببناء منارة بجوار الجامع الذي كان أول ما بناه تماشياً مع تقاليد الغزاة المسلمين، لم يسعفه العمر لإكمال بناء المنارة فقام خليفته بإضافة ثلاث مستويات إليها، ثم أكمل الخليفة الثالث بإضافة المستوي الثالث وقد جعل من الرخام الأبيض. حيث يبلغ ارتفاعها الآن 80 متراً، والجدران الخارجية مزينة بالنقوش الإسلامية الهندية والآيات القرآنية المكتوبة بخط عربي مختلف تماماً عن الخطوط العربية الكلاسيكية. لا تزال المنارة صامدة، لكن الجامع المجاور تحول إلي أنقاض كاملة تبقت أعمدته والقليل من الجدران، لكن المدهش هو تأمل النقوش علي تلك الجدران والأعمدة، حيث استخدمت في بناء المسجد حجارة تم انتزاعها من المعابد الجاينية والهندوسية القديمة، وجوه الآلهه الهندوسية تم تشويهها، لكن حتي بعد تشويه النقوش الجاينية، فلا تزال آثار الرسوم التي تصور الأوضاع والممارسات الجنسية الجماعية ظاهرة وواضحة ويمكن ملاحظتها علي أعمدة المسجد المنصوبة في الهواء في منطقة "قطب منارة".الفتيات المسلمات. وفي الشوارع ازدادت كثافة العباءات السوداء.