تصنع "ليمبو بيروت"، للروائي اللبناني الشاب "هلال شومان"، مقاربتها الخاصة للعالم والواقع اللبناني في تغيراته القلقة. العالم المثقل بإرث الحرب الأهلية اللبنانية، وتداعياتها الحادة، وما تلاها من حروب صغيرة و"باهتة". عالم يقع تحت سطوة الصورة، ومحاولات هيمنة البصري علي اللغوي، عالم تتنازعه صراعات الهوية، وفي الوقت نفسه، تموج في فضاءاته الثورة الرقمية، ثورة الاتصالات والتكنولوجيا.. وألعاب الفيديو. ترتكز تلك الحبكة علي رؤية لا تعزل العالم المتصدع، والمدينة شديدة الوطأة، عن حيوات الأفراد، فيهما، حيث المصائر جميعها تتشابك في مدينة الحرب الصغيرة، ويتكرر الحدث مع زوايا مختلفة للرؤية لا تسعي "ليمبو بيروت" إلي "التسوية"، سواء بمعناها السياسي، بين الأطراف المتنازعة في لبنان، وصياغتها سرديا، أو "التسوية" علي مستوي الفن، بين كتابة "الرواية" والتحديات الثقافية والتغيرات الاجتماعية التي تواجه هذه العملية في حقبتنا المعاصرة. من أبرز تلك التحديات/المتغيرات: طغيان الثقافة البصرية، وملحقاتها الإلكترونية والرقمية. فالرواية في شكلها النهائي بما يتخللها من رسومات مختلفة (كل فصل رسمه فنان مختلف،وتعمل ربما كمُعادل بصري لفصولها) لا تطمح إلي " تسوية " الصراع مع الصورة، و تدجينه عبر شكلها الإخراجي النهائي كمنتج ثقافي، قدر ما يبلور هذا الشكل النهائي رؤية الرواية للواقع والعالم، ويمثل استجابة صادقة لمضمونها، والذي استدعي تجديدا للشكل الفني ربما لايصل إلي تطويرات في البنية الروائية نفسها، لكنه يبدو منسجما ومتناغما مع أجواء الرواية وعالمها، ومعبرا عن "الليمبو"( كما سنبين لاحقا)، في سياق سردي يتضافر فيه اللغوي مع البصري، خالقا بذلك ما يبدو مقاربا لفن "الكوميكس"، أو بالأدق: "الجرافيك نوفيل". تنقسم ليمبو بيروت إلي خمسة فصول: الأمير الصغير، الليمبو، شبكة سلوي، الأحداث، اللحظة الفارقة. لكل فصل شخصيته الرئيسية، وقصته الخاصة، لكن المصائر المتشابكة لشخوص الرواية تجعل من الحكاية شبكة من الأحجية. تتقاطع مصائر الشخصيات، وتبدو جميعها رازحة تحت وطأة المدينة وأحداث أيار 2008، رغم تباعدها وتنافرها الظاهري واختلاف عوالمها. وليد الذي يرسم علي جدران المدينة أنصاف الوجوه، يقيم في شقة ألفرد. يسائل وليد هويته الجنسية. ينتهي الفصل الأول بمسلح يشهر سلاحه في وجهه، أثناء قيامه بالرسم علي الجدران، وكان يساعده في ذلك شاب عابر يختفي عند ظهور المسلح. الفصل الثاني يحكي عن كاتب يبحث عن قصة، وتتركه زوجته اليابانية بعد وصولهما من لندن إلي بيروت، ومكوثهما بالمدينة التي تعرض شاشات التليفزيون فيها مشاهد القتل والاشتباكات، وينتهي الفصل باصطدام سيارة الكاتب بالمسلح الذي استوقف وليد، ثم سفره إلي زوجته في بلدها، ناسيا اللاب توب الذي يحوي الفصول الأولي للرواية التي كان يجاهد لكي يتمها. الفصل الثالث: سلوي، المرأة الحامل، الشغوفة بحل شبكات التسلية، خاصة تلك التي كان أبوها يحضرها لها أيام الحرب الأهلية قبل مقتله خلالها. نري علاقتها المتوترة بزوجها، والذي تنبئنا نهاية الفصل بهويته: ألفرد. تناجيه بعدما داهمها المخاض داخل المستشفي الذي دخلته إثر حادث سير، حين ترجلت من السيارة وعبرت الطريق لتتفقد محلا يبيع مجلات التسلية. الفصل الرابع يتحدث فيه المسلح (حسن) عن تورطه في تلك الاشتباكات، وعلاقته بأخيه المُقعد رامي، الذي يدرس في هامبورج. وما أخفاه حسن عنه. تبدو هذه الحرب الصغيرة كقدر حتمي له، المسلح القادم من ماضي الحرب الأهلية ليستوقف وليد.. "هناك وجدت الشاب يرسم علي الحائط، عرفته، رأيته في شارعنا أكثر من مرة..... لن أؤذيه. سأتي بالشاب فقط إلي أبو أحمد، وسأثبت ولائي بهذه الحركة. أصلا أنا أحمي الشاب بإخراجه من هنا. لا أحد يعرف ماذا يمكن أن يحدث إن رآه أحد التافهين."..." عرفت فقط أني مت لما وجدتني اكتسبت اللغة، تيقنت من موتي لما عثرت علي صوتي الخاص" . ثم يأتي الفصل الأخير: الطبيب الذي يكتب لحبيبته بعد انتهاء علاقتهما، ويسرد الفصل تأملاته حول المدينة والحياة والسعادة. الطبيب الذي يستقبل الجثث في المستشفي، يعاينها قبل أن توضع في البرادات،يصبح بمثابة شاهد خفي علي حيوات الآخرين ومصائرهم: مساعدته لوليد أثناء رسمه، ثم هربه قبل ان يستوقفه حسن المسلح، ثم يشهد موت المسلح، وقدومه إلي الطوارئ، حيث سلوي التي سيشهد ولادة طفلها، ثم لقائها بزوجها ألفرد. يقابل الطبيب وليد مصادفة في محل الأحذية، ليتساءل إن كان ذلك معناه أن يتصل برقم التليفون المنقوش علي ساعد المسلح، لكي يميت الجثة، ويتابع الحياة: " ربما علي ان أدفن الموت الذي شهدته، ربما علي ان أساهم بجعل القصة التي كنت جزءا منها، تقترب قدر الإمكان من الكمال". ترتكز تلك الحبكة علي رؤية لا تعزل العالم المتصدع، والمدينة شديدة الوطأة، عن حيوات الأفراد، فيهما، حيث المصائر جميعها تتشابك في مدينة الحرب الصغيرة، ويتكرر الحدث مع زوايا مختلفة للرؤية. ويمكن أن نري نظائر لتلك الحبكة في العديد من الأعمال الفنية، أشهرها فيلم "بابل" للمخرج المكسيكي "أليخاندرو جونزاليس انريتو"، حيث تتوحد مصائر أناس مختلفة، في بقاع مختلفة من العالم، الصاخب، والقاسي. وتستخدم الرواية المصادفة كأداة من أدوات الحبكة بدون أن تتحول إلي أداة بنائية مفرطة في الوضوح، حتي لا يؤدي هذا الاعتماد المفرط عليها إلي عدم قبولها، والبعد عن المصادفة التي تفاجئنا في عشوائية الحياة بتساوق غير متوقع. وتسمح المصادفة بتعقد العلاقات بين شخصيات، لم يكونوا عادة ليتقاربوا، لولا الحرب "الصغيرة". في لعبة فيديو تحمل اسم "ليمبوLimbo "، أو "عالم النسيان" بالإنجليزية، تستيقظ الشخصية الرئيسية في غابة "حافة الجحيم"، ويحاول الصبي البحث عن أخته الضائعة، بحث محكوم عليه سلفا بالفشل، فالسيناريو الموضوع للعبة يقضي بفشل اللاعب المحتوم كل مرة، لذلك اشتهرت اللعبة بشعار"التجربة والموت". تعتمد اللعبة علي الألغاز، والمشاهد العنيفة، وتعتبر أحادية اللون: الأبيض والأسود ودرجاتهما، تشبه "أفلام النوار" و "الأفلام الإيمائية الألمانية". تتعامل شخصيات ليمبو بيروت مع الحرب بنوع من اللامبالاة أو اللااهتمام، ربما تلك اللامبالاة ناتجة عن الإعادة، كما يقول وليد: " عم تحلم! حرب؟حتكون باهتة. بتزهق. كل اللي بدو يصير، صار بهالبلد، كل اللي حينعمل معمول قبل" .. أو كما يتساءل الطبيب: متي تبدأ الإعادة؟ وماذا يحصل عندها؟ هل يستولي علينا الملل؟ لكنهم رغم الملل من الإعادة، يعاودون التجربة مرة أخري، حتي بعد معرفتهم بمصير التجربة، الموت، والذي يتكرر في كل مرة، تماما كما في "ليمبو" لعبة الفيديو، حيث الرغبة أو الأمل في اكتشاف الجديد. لا يكمن التناص بين ليمبو بيروت واللعبة في نسق الإعادة فقط، بل في الشكل أيضا، فرسومات الرواية هي بالأبيض والأسود، ودرجاتهما، وتبدو قريبة الشبه إلي حد كبير من اللعبة، خاصة رسومات " براق ريما" في الفصل الثاني "الليمبو". قد يبدو، حسب كثيرمن الرؤي التقليدية، ادخال وسيط بصري بالرواية، متمثلا في الرسومات المختلفة التي تخالطها، عائقا أمام التداعيات الذاتية في الإدراك الجمالي للرواية، أو يشتت القارئ ولا يحيله إلي عملية تخيل التفاصيل السياقية للنص الروائي. فإذا كانت اللغة تخدم مصورة ذهنية ما عبر دلالتها، وتقدم إمكانية للتأمل والتخيل، فإن تلك الرسومات تعمد إلي شكلنة تلك المخيلة أو المصورة قسرا، وتلجم الصياغات المتباينة للدلالة الفنية. لكن جميع العناصر المكونة للعمل الفني، حتي أكثرها شكلية، تملك قيمتها التوصيلية الخاصة (وذلك حتي في حالة غياب موضوع معين، مثل صور كاندنسكي، أو بعض اعمال الرسامين السورياليين، كما يبين جان موكارفسكي). فتتجاوز رسومات ليمبو بيروت مهمة تصوير بشكل مباشر ماتبنيه لغة الرواية بواسطة الأسماء والصفات والأفعال والحروف. يرجع ذلك إلي طبيعة لغة الرواية نفسها، ومجازيتها القلقة. ويرجع إلي الطابع السيميوطيقي لتلك الرسومات، وتباين أساليبها النوعية: جروتسك وتجريبية وسيريالية ومفاهيمية، والعلاقة الجدلية بين اللغة والرسم، فالرسومات تضفي علي النص الروائي أبعاد دلالية أخري، ويمكن اعتبارها نصا بصريا موازيا، أو إعادة كتابة بصرية للرواية. وفي مواجهة الصور التي تغمرنا، وباتت تحسب ضمن نسيج الحياة اليومية، بما تحمله هذه الصور من مشاهد الدمار والحرب والقتل، نجد رسومات ليمبو بيروت في سعيها للتعبير عن قيمة جمالية، وإمكانية كسر السكونية عند تلقي سيل الصور المتدفقة في وسائل الإعلام وغيرها عن الحرب، وما ينتج عنه من اعتياد للقسوة، واللامبالاة، والتي تسعي الرواية إلي تجاوزها. وتعتبر الرواية إضافة إلي التجارب التي سعت قبلها لدمج الثقافة البصرية والأدب المكتوب مثل المجموعة القصصية "الآتي" لمحمد المخزنجي و رسومات "حامد ندا" رائد السيريالية الشعبية، وديوان "أقراص المُسكن" شعر هاني سامي ورسوم "شريف سامي"، ومجموعة "عقد صداقة مع فرخة" لسمر جبر ورسوم كاركاتورية لمحمود عبد الوهاب. لا تشكل المدينة، بيروت، بالنسبة للحبكة مجرد خلفية يمكن الاستعاضة بواحدة منها عن الأخري. فبيروت هي الإطار الذي تتكون فيه الأحداث، وهي الفضاء الذي يكشف عن الأبعاد السياسية والاجتماعية للتاريخ، وتفاعله فيه. يري القارئ بيروت في الرواية من خلال بعض التفاصيل المرئية الحية لها في سياق السرد، خاصة في الفصل الأخير "اللحظة الفارقة"، لكن أثر المدينة النفسي علي شخوص الرواية، ووجهات نظرهم المختلفة المكونة تجاهها،هي التمثلات الأكثر تجسيدا للمكان، وما يسم وجوده بالنسبية.
يُطرح المكان بوصفه خبرة شعورية للأفراد، فسلسلة العبارات البيانية، التي تصف أماكن مثل"الروشة" و"شارع الحمرا" و "كراكاس" و الكورنيش، ليست هي وسيلة النص الوحيدة للإحساس بالمكان، فالنص الروائي لايوظف المكان كعنصر أو معطي قبلي وثابت، وإنما يدركه كشعور تتمثله الشخصيات: " في وحدتي ، في المرآة... بعيدا عنك يا سناء، كانت بيروت أكثر جمالا.لا أعرف كيف كنت أكيدا من جمالها الفائض في تلك اللحظة، ولا أعرف إن كنت أستعيض عن حبي الضائع لك بحب مستجد للمدينة، لكني كنت واثقا أني علي صواب، وأن هذه المدينة جميلة، جميلة بحق." 197 تقترب ليمبو بيروت من المعني الذي يقوله أورهان باموق في كتابه " اسطنبول..الذكريات والمدينة"، حيث يراها باموق مدينة مرسومة بالأبيض والأسود، مدينة الحزن والسوداوية،وإذا اقتربنا من عالم الكوميكس، فمن الممكن أن نري تقاربا لبيروت في وجودها الشبحي مع مدينة "فرانك ميللر" في رواياته المصورة. لكن بيروت هنا هي الليمبو، البرزخ، عالم النسيان، وموطن الأرواح المحرومة.
يتحلل النموذج الروائي في ليمبو بيروت، ولا تخضع طبيعة الشخصيات في الرواية للإسقاطات أو التنميطات. تدفع مونولوجات الشخصيات الداخلية، وتساؤلاتها القلقة إلي التأكيد علي عوالمها الخاصة، وفردانية شخوصها. لذلك تتباعد الشخصيات عن النمذجة، وتتقارب عبر ذهنيتها من شخوص الكوميكس في خصوصيتها وثيماتها، ورحلة بحثها. ويبدو أن قدر المدينة يُكون شخصية الإنسان بها. تتقاطع المصائر والعوالم، وتتم مساءلة الهوية. ترصد الرواية الحرب الكبيرة التي حدثت ذات يوم، والحروب الصغيرة التي تحدث كل يوم من خلال تأثيرها علي العلاقات الإنسانية، وتجلياتها في السلوك الإنساني وتفاصيل الحياة اليومية العادية. يقول "إدوارد سعيد"، في تقديمه لمجلد الكوميكس "فلسطين"، للفنان والصحفي الأمريكي " جو ساكو": " كنت كلما مضيت مسلوب الإرادة في قراءتها زاد اقتناعي أن أمامي هنا عملا سياسيا وجماليا يتمتع بأصالة نادرة المثال، ولا نظير لها في السجالات الملتوية.. ذات البلاغة الطنانة، التي تورط فيها الفلسطينيون والإسرائيليون وأنصار كلٍ من الجانبين".. ثم يضيف "باستثناء واحد أو اثنين من الروائيين والشعراء، لم يستطع أحد أن يقدم الحالة الرهيبة للأوضاع خيرا من جو ساكو". توظف ليمبو بيروت ما استبصره ادوارد سعيد، من حيوية الإمكانيات السردية للكوميكس، وقوتها النافية: للسُبات الايديولوجي، للعالم الغارق في الميديا، ولسلطة "المعيار الأدبي" والمفهوم القديم لما يسمي "الأدب الرفيع"، وتحفظاته التي تهمش موضوعات وأنماط كتابية، وتستبعدها خارج نطاقه. وتستفيد الرواية من الأشواط التي قطعتها الرواية المصورة في سبيل درء سوء السمعة عنها، بفضل فنانين كبار مثل "ويل إيزنر" و"آرت سبيجلمان". تبدو الرواية في رؤيتها للحرب وما بعدها، وطبيعة التناص والموازاة أو المحاكاة بها، واستفادتها من تقنيات ووسائط فنية، وثقافة البوب آرت، بعيدا عن التحفظات القديمة لسلطة "المعيار"، تحديا لمفهوم "الأدب الرفيع".